قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الاثنين، 28 أبريل 2014

المحامي حسن بيان : التنشئة السياسية وتشكيل الهوية الوطنية في مجتمع طوائفي... محاضرة في معهد العلوم الاجتماعية –الفرع الاول- دبلوم الدراسات العليا

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
التنشئة السياسية وتشكيل الهوية الوطنية في مجتمع طوائفي*

شبكة البصرة
تمهيد :
الكلام عن الأحزاب ودورها في الحياة السياسية هو كلام في السياسية. وإذا كانت الأحزاب السياسية حديثة التكوين، إلا أن السياسة ليست كذلك، لأنها قديمة، قدم تشكل الانتظام البشري في مجتمع، تحكمه أعراف وضوابط وقواعد وقوانين معينة. والسياسة بما هي علم يتعلق بإدارة شؤون المجتمع، فإنها بحكم طبيعتها وأهدافها، تشكل أحد فروع العلوم الاجتماعية. ولعل اول من وضع أسساً عملية لهذا العلم، عبر التزاوج بين "النظري" والعملي هو أرسطو، في كتابه "السياسة". وبالتالي يمكن القول أن نواميس العلم السياسي إنما بدأت مع أرسطو،ليس لأن السياسة لم تكن موجودة قبله، بل لأنها مع أرسطو حُددت منهجية دراسة الدولة كما هي، بعكس ما ذهب إليه أفلاطون الذي حدد رؤيته للدولة كما يجب أن تكون.
والسياسة بما هي علم، إنما ترتبط بالفعل الإنساني، وبالتالي فإنها تتطور في نواميسها في سياق التطور العام للمجتمعات على تعاقب المراحل التاريخية وآليات إدارة الشؤون العامة، سواء لجهة علاقة الأطراف فيما بينها، أو علاقة قوى بين طرفين يمارس أحدهما سلطة على الآخر، وهي سلطة الحكم بحسب ما ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري.
وعلم السياسة، الذي هو فرع من فروع العلوم الاجتماعية يتلاقى و يتقاطع مع العلوم الإنسانية الأخرى، خاصة تلك المتعلقة بالانتظام البشري العام من مثل علم القانون والتاريخ والاجتماع والأخلاق والاقتصاد والجغرافيا.

علم السياسة وعلم القانون
إن القانون، بما هو مجموعة قواعد وضعت لتنظيم العلاقات في المجتمع الداخلي وفي علاقة الدول مع الخارج، إنما يفرض قواعده الآمرة على الأفراد والجماعات المنضوية في إطار مجتمع معين. وهو ينقسم إلى قسمين عام وخاص. وعلم السياسة أقرب إلى القانون العام منه إلى القانون الخاص، لأن علم السياسة وعلم القانون العام يتقاطعان وتقوم علاقة بينهما، لأن كليهما، يتناولان نظام الدولة وطبيعة النظام السياسي وآليات الحكم. وأن العلاقة القوية بين العلمين، دفعت بعض الجامعات لأن تدمج أحدهما بالآخر. ويعتبر القانون الدستوري العام القانون الأساسي الذي تدور في فلكه الحياة السياسية العامة. ويرى الدكتور أدمون رباط أن الدولة العصرية بمعنى Etat moderne، هو المصطلح المستعمل في العلم السياسي والقانون الدستوري.
لكن هذا التقاطع والعلاقة بين العلمين، لا يعني عدم وجود فوارق بينهما. فإذا كان القانون الدستوري يحدد قواعد تنظيم السلطة، وطبيعة النظام، ديموقراطياً،كان رئاسياً أو برلمانياً، جمهورياً أم ملكياً

ومبدأ الفصل بين السلطات مثلاً، فإن علم السياسة هو الذي يحدد ما إذا كانت الديموقراطية تطبق حقاً وفق ما نصت عليه أحكام الدستور، وما إذا كان المواطنون يتمتعون بكافة حقوقهم السياسية والاجتماعية على قاعدة المساواة، وما اذا كان مبدأ فصل السلطات معمولاً به.
والقانون الدستوري الذي يتحدث عن الحريات العامة لا يتناول دور الأحزاب وأدوات التعبير السياسي التي تقوم بدور فاعل في الحياة العامة، بحيث تبقى خاضعة لأحكام قوانين خاصة تنظم عملها، كقانون الأحزاب أو الجمعيات مثلاً، وعليه يمكن اعتبار علم السياسة أوسع نطاقاً من علم القانون.

علم السياسة وعلم التاريخ
إن علاقة علم السياسة بعلم التاريخ وثيقة، لأن علم التاريخ الذي يُعنى بتأريخ الأحداث في تاريخ البشرية، سابراً أغوارها ومحللاً نتائجها،ذو صلة بعلم السياسة، لأن الأخير يعتبر أن الأحداث التاريخية تشكل المادة الأساسية التي يرتكز عليها العلم السياسي. فمن جهة أولى فإن الأحداث تشكل مصدراً لظهور نظريات سياسية، كما النظريات التي تناولت السلام العالمي وانبثاق فكرة التنظيم الدولي التي كانت سبباً لإطلاقها الحروب وما تسببه من ويلات بشرية، وعلى سبيل المثال لا للحصر، فإن عصبة الأمم ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وهيئة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية، وأحكام القانون الدولي والإنساني، فرضتها الحاجة الإنسانية، لوضع ضوابط سياقات الحروب وتلقي نتائجها. أما من جهة ثانية فإن النظريات السياسية غالباً ما لعبت دوراً في انضاج ظروف ومعطيات،لحصول احداث تاريخية كبرى، كما في مقدمات الثورة الفرنسية والثورة الروسية، وأراء المفكرين العرب ضد الحكم العثماني والاستعمار بقديمه وجديده.

إن العلاقة الوثيقة بين العلمين، لا تضعف عراها خصائص التمييز بينهما، حيث ان علم التاريخ يركز بشكل أساسي على الماضي، فيما علم السياسة يهتم بما يحدث وما هو ممكن حدوثه، أنه علم دراسة الحاضر والمستقبل.

علم السياسة وعلم الاجتماع
إن علم السياسة هو فرع من علم الاجتماع، لأن الأخير يشمل كل حالة لهاعلاقة بتنظيم الحياة الاجتماعية. فهو يتناول سلوكية الأفراد والجماعات، والحياة الأسرية، وظروف العمل، وكل ما له علاقة بالنشاط الإنساني، والفعل البشري.

أما علم السياسة فينصرف يشكل أساسي إلى دراسة التنظيم السياسي في المجتمع السياسي، وعليه فإن علم السياسة على علاقة وثيقة بعلم الاجتماع إلا أنه أضيق نطاقاً منه.

علم السياسة وعلم الأخلاق
إن علاقة السياسية بعلم الأخلاق، ترتبط بمنظومة القيم العامة التي تضبط السلوك الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة. وإذا كان علم الأخلاق يتجه بصورة رئيسية نحو إرساء القواعد الأخلاقية التي تمليها القيم الاجتماعية السائدة في مجتمع بعين وفي مرحلة معينة، فعلم السياسة يلاقي علم الأخلاق في احترام القواعد الأخلاقية التي أفرزها التطور العام، والتي تحولت إلى إعراف وتقاليد شكلت ضابطاً للسلوك العام في إطار المجتمع الإنساني.

إن علم السياسة الذي يجد ميدان فعله الأساسي بين البشر، يجد نفسه محكوماً بمنظومة القيم الاجتماعية، والأخلاقية أساس فيها، والتي أصبحت بمثابة القانون الاجتماعي العام الذي يفرض قواعده الاعتبارية على العام والخاص.

علم السياسة وعلم الاقتصاد
إن العلاقة بين علم السياسة والاقتصاد، هي علاقة وثيقة ايضاً، لأن السياسة تؤثر في الاقتصاد والعكس صحيح. وكان علم الاقتصاد يسمى بالاقتصاد السياسي، حيث أن الاختلاف بين النظم السياسية كان يقوم على أساس الاختلاف بين النظم الاقتصادية القائمة. وأنه لا مبالغة القول، بأن كثيراً من الأحداث السياسية الكبرى، كانت أسبابها اقتصادية والصراع الاجتماعي في إطار الدولة، غالباً ما تكون بواعثه اقتصادية،كما ان الحروب الاستعمارية بواعثها الأساسية اقتصادية. وكما برزت تكتلات سياسية كبرى في سياق تطور التنظيم الدولي، فإنه في المقابل برزت تكتلات اقتصادية كبرى، بحيث أصبح النفوذ السياسي يقاس بمدى القدرة الاقتصادية لأصحاب من يطمح بدور سياسي.

علم السياسة وعلم الجغرافيا
إن علاقة علم السياسة بعلم الجغرافيا، تربطها عروة وثقى، لأن علم السياسة الذي يحدد قواعد إدارة العملية السياسية في مجتمع معين على النطاقين الوطني والدولي، على علاقة وثيقة بعلم الجغرافيا، ولهذا أطلقت تسمية الجغرافيا السياسية كمفهوم يحدد تأثير الجغرافيا في الشأن السياسي وفي حياة الشعوب استقراراً أو اضطراباً.
إن الموقع الجغرافي يفرض نفسه في تحديد الخيارات السياسية للدولة. ولهذا قيل أن الموقع الجغرافي لدولة ما أن يكون نعمة، وأما أن يكون نقمة.

من هذا الاستعراض السريع لعلاقة علم السياسة بالعلوم الإنسانية الأخرى نصل إلى خلاصتين، الخلاصة الأولى، أن علم السياسة يرتبط بتطور المجتمع البشري، أي أنه علم اجتماعي متحرك. والخلاصة الثانية، أنه علم يتكيف بأحكامه وفق معطيات كل مجتمع ومستوى تطوره الاجتماعي، وهنا يصح قول أرسطو، بأنه لا يصح وصف أحد الأنظمة السياسية بأنه النظام الصالح لكل زمان ومكان، لأنه يختلف باختلاف البيئة التاريخية، وما يمكن اعتباره صالحاً لعصر قد لا يصلح لغيره، وما هو صالح في بيئة لا يصلح بيئة أخرى، والنظام الامثل هو النظام النابع من ظروف البيئة الاجتماعية المتكيف مع حاجاتها خاصة.

إذاً، أن علم السياسة على علاقة بالحياة الاجتماعية، وميدانه التطبيقي الأنشطة السياسية وإدارة الشأن العام، وقد اعتبره البعض بأنه علم الدولة، كون علم الدولة يرتبط بالمفهوم القانوني للدولة ذات السيادة، وبعض آخر اعتبره علم السلطة كونه يرتكز على مفهوم اجتماعي للدولة وقد عرفه العلامة دوفرجيه : "بأنه علم السيطرة والسلطة والحاكمين.

إن اعتبار علم السياسة علم قائم بذاته له أحكامه وقواعده، يقودنا إلى القول بأن للسياسة قوانينها، وهذه القوانين وأن لم ترتق الى ثبات واستقرار القوانين الطبيعية، إلا أنها تبقى تشكل قواعد للانتظام العام في إطار المؤسسات السياسية التي تتعاطى الشأن السياسي ضمن الحالات التي يمكن إدراجها تحت عنوان القوانين السياسية ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- الدولة التي لا تعتمد التخطيط والتنظيم لمواردها تتخبط في أزماتها السياسية والاقتصادية.
- الاحتلال لأرض وشعب، يولد نقيضه وهي المقاومة.
- السلطة التي لا تحكم تصرفاتها ضوابط القانون تجنح نحو إساءة استعمال السلطة.
- عدم وجود أحزاب سياسية عاملة في إطار مجتمعي معين، يجعل العمل السياسي خاضعاً لاهواء الأفراد والزعامات والعشائر ورؤساء الطوائف في مجتمع طوائفي وقبلي.
لذلك، فإن وجود الأحزاب يشكل ضرورة للحياة السياسية، وتقاس حيوية المجتمعات السياسية بمدى فاعلية الأحزاب الناشطة فيها، وقد اعتبر الفقيه النمساوي هانسن كلسن، ان وجود الاحزاب هو عماد الديمقراطية والعداء لها يخفي عداء للديمقراطية. وفي تقرير لمجلة "الايكونومست" عدد 28 شباط 2014 (افتتاحية النهار 7/3/2014) ما نصه :" ان الخوف على الديمقراطية يأتي من انخفاض نسبة الانتماء الى الاحزاب السياسية ويشير التقرير الى ان هذه النسبة 20% في بريطانيا فيما اليوم هي أقل من 5% هذا مؤشر سلبي بالنسبة للديمقراطية ".وهنا نلج إلى الكلام عن دور الحزب باعتباره القوة السياسية للتنشئة السياسية في المجتمع السياسي.

أولاً: مفهوم الحزب/القوة السياسية للتنشئة السياسية
لقد أعطي أكثر من تعريف للحزب السياسي، فمنهم من ركز في تعريفه على موضوع التنظيم، كما فعل موريس دوفرجيه في مؤلفه الأحزاب السياسية، ومنهم من عرفه بالاستناد إلى أهدافه وآليات عمله.
وبنظرنا، فإن التعريف الأكثر مقاربة لواقع الأحزاب، هو ذاك الذي يوائم بين المسألة التنظيمية والأهداف وآليات العمل. إذ أن الأحزاب لا تقوم إلا على ثلاثة ركائز، تلخصها ثلاثية الفكر والتنظيم والممارسة. وأنه من خلال هذه الثلاثية يتم تناول التركيب أو البنية التنظيمية للحزب، ومنظومته الفكرية وبرامجه السياسية وممارساته عبر الأنشطة المختلفة.
إن الحزب هو مؤسسة سياسية يطرح رؤيته لإدارة الشأن العام، وتعتبر مسألة استلام السلطة من الأهداف الأساسية للحزب، ليست باعتبارها هدفاً نهائياً وقائماً بحد ذاته، بل حتى يتمكن الحزب من إطفاء الطابع الشرعي على برنامجه الذي يشرعه عبر الهيئات ذات الصلة بالتشريع ومن ثم ضخه إلى الحياة العامة عبر قوانين ومراسيم وقرارات إدارية.
والأحزاب تختلف باختلاف بناها التنظيمية واختلاف منظوماتها الفكرية والسياسية وآليات عملها. فمنها من يرجح الآليات الديموقراطية في انتظام عملها وعلاقاتها الداخلية، ومنها من يرجح المركزية، ومنها من يجمع بين الحالتين تحت عنوان المركزية الديموقراطية.

وكما تختلف الأحزاب باختلاف تركيبها البنيوي التنظيمي، فإنها تختلف أيضاً باختلاف مناهلها الفكرية ومنظوماتها السياسية، فهناك الأحزاب العلمانية، والأحزاب الدينية بكل تفريعاتها ومشتقاتها، كما توجد أحزاب ذات تركيب عرقي في بلد متعدد القوميات. والاختلاف بين الأحزاب يتناول أيضاً طبيعة الفئات أو الطبقات الشعبية التي تعتبر الأحزاب نفسها معبرة عن أهدافها ومصالحها. فالأحزاب التي تمثل مصالح القوى الرأسمالية مثلاً غير تلك التي تمثل الفئات الشعبية بشرائحها المتوسطة والمسحوقة. كما أن أحزاب النخبة غير الأحزاب الجماهيرية، والأحزاب التي تُشكل في إطار مناطقي وتتمحور حول زعامات عائلية وعشائرية غير تلك التي تمتد على مساحة الوطن.

أما بالنسبة لآليات العمل السياسي، فالاختلاف قائم أيضاً بين الأحزاب، فمنها من يعتمد آليات النضال الجماهيري للضغط من خلال الكتل الشعبية التي تعتبر الأحزاب نفسها أنها تمثل مصالحها وتعكس أهدافها في برامجها، وهناك أحزاب تعتمد أساليب ووسائط لا تستقيم ووسائط التعبيرات الديموقراطية.
فضلاً عن كل هذا، فإن أحزاباً تمارس نشاطها علانية وأخرى تضفي الطابع السري على أنشطتها، وهذه الأخرى تندرج تحت مسمى الجمعيات السرية، التي وأن قدمت نفسها من خلال مظهرية شكلية إلا أنها تبقى تضمر أهدافاً أساسياً لا تريد الإفصاح عنها.

هذه اللوحة البانورامية للتشكل الحزبي في المجتمع السياسي، يقود إلى استنتاج سريع، هو أن وجود الأحزاب في المجتمع السياسي يضفي حيوية على الحراك المجتمعي وخاصة بجانبه السياسي. وهذه الحيوية تتجلى من خلال العملية السياسية الصراعية مع التشكل السلطوي من جهة، كما تتجلى من خلال العملية الصراعية بين القوى والأحزاب. وكلما كثرت الأحزاب كلما كان ذلك دليلاً على وجود تعددية سياسية قائمة في مجتمع سياسي معين.

إن الأحزاب يكتسب دورها أهمية في الحياة الاجتماعية، لأنها باتت من أهم الظواهر الاجتماعية التي تؤثر اليوم في تطور المجتمعات السياسية.

وتتجلى أهمية دور الحزب في الحياة السياسية، في كونه يساهم في رفع مستوى الوعي السياسي لدى الفرد المنظم أولاً، ولدى الجمع العام ثانياً، كما يمكّن اعضاءه من المشاركة في الشأن العام استناداً إلى رؤية محددة وممنهجة، وبذلك فإن الحزب يلعب دوراً أساسياً في إخراج العمل السياسي من عشوائيته وظرفيته، ويدخله الإطار المنظم حيث يؤطر الجهد الخاص في سياق المشروع العام، وهذا ما يجعل الحزب عبر فعالياته وأنشطته مساهماً رئيسياً في تشكيل رأي عام حول قضية أو قضايا معينة.
من هنا، فإن انضواء العمل السياسي في إطار حزبي، هو ظاهرة إيجابية، لأن هذا الانضواء يفعَل الحياة السياسية في المجتمع، خاصة وأن الحزب وهو مؤسسة تعليمية وتثقيفية وتوجيهية فضلاً عن كونه مؤسسة سياسية، يقدم إلى الشعب المعلومات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالطرق المبسطة والواضحة، وبما يساعد على تكوين ثقافة عامة لديه وإيقاظ الوعي السياسي في نفسه وتكوين إرادة عامة أو رأي عام.

إن دور الحزب في الحياة السياسية وفق هذه الرؤية يساهم مساهمة أساسية في التنشئة السياسية، لأنه يدخل النظام إلى عمل الجماعات ويحدد ضوابط السلوك الفردي داخل عمل الجماعة، كما انه ينمي لدى الفرد إدراكه لأهمية النقد السياسي، ويرفع من مستوى وعيه في سياق المساجلة السياسية.

على هذا الأساس، فإن مجتمعاً تنشط فيه الأحزاب السياسية، يعطي انطباعاً، بأن هذا المجتمع لا يعيش حالة فراغ سياسي، لأن الحركة الحزبية الناشطة تشكل امتلاء له، وهو بالتالي يخضع لقواعد الهيكلة. فالمجتمع التي لا تكون حياته السياسية مهيكلة يكون اقرب إلى ما يشبه حالة الموات السياسي. ولهذا يدفعنا للتأكيد بأن تفعيل النشاط السياسي انما يرتكز على آليات العمل الحزبي سواء كان هذا النشاط عبر آليات عمل المؤسسات الحزبية أو ضمن آليات الانخراط في النشاط العام، من خلال الرقابة على الأداء السلطوي أو من خلال العمل لإعادة تكوين السلطة، وتفعيل الأنشطة النقابية. وهذا أن دل على شيء، فإنما يدل أن المجتمع الذي يختلج بحياة حزبية نشطة، إنما هو مجتمع مشبع بالثقافة السياسية على مختلف منطلقاتها النظرية، وهذا يقود إلى اعتبار الحزب انما هو قوة أساسية في التنشئة السياسية في المجتمع السياسي.

هذه التنشئة السياسية إنما تتشكل بالتماهي مع مصادر إرضاعها الفكرية والسياسية، فعندما يكون الخطاب السياسي دينياً،تغلب السمة الدينية على التنشئة السياسية، وعندما يكون الخطاب السياسي وطنياً على مستوى المضمون ومساحة الانتشار الأفقي، تغلب السمة الوطنية على التنشئة السياسية وهنا نلج إلى مفهوم الحزب كقوة سياسية للهوية الوطنية في مجتمع طوائفي..

ثانياً: مفهوم الحزب/القوة السياسية للهوية الوطنية في مجتمع طوائفي
انطلاقاً من كون الأحزاب تؤدي وظيفة أساسية في التنشئة السياسية، فإن المضمون السياسي لهذه التنشئة هو الذي يحدد طبيعته الهوية للمجتمع السياسي.

إن الهوية الوطنية لمجتمع سياسي تندرج تحت عنواين.
العنوان الأول، هو الهوية الوطنية للمكون الوطني الذي يضم أطيافاً مختلفة في العلاقة مع الخارج. وهذه الهوية تحددها الجغرافيا، والانتماء القومي للمكون المجتمع الذي يشكل المادة البشرية للمكون الوطني. وهذه الهوية تكون وطنية بالمفهوم الحقوقي للدولة، او قومية فيما لو كانت هذه الهوية من ضمن إطار قومي أشمل، كما هي حالة الهويات الوطنية العربية في إطار المكون القومي، حيث العرب يشكلون أمة واحدة وأن توزعوا بين عدة مكونات قطرية، أسقط عليها مفهوم الوطنية القطرية. وهذه الهوية الوطنية تمنح جنسيتها لكل أبناء الشعب بغض النظر عن المكونات المجتمعية، طبقية كانت في فرزها الاجتماعي، أو متعددة الانتماءات الدينية الإيمانية.
وهذه الهوية الوطنية تمنح جنسيتها لأبناء الشعب، على قاعدة المساواة دون تمييز أو تفرقة.

اما العنوان الثاني للهوية الوطنية، فهي هوية المواطنة، وهنا تكمن الإشكالية في مجتمع سياسي تحكمه الطائفية السياسية حيث لبنان نموذجاً.
ومصدر هذه الإشكالية، أن المساواة المنصوص عليها في النص الدستوري لا تطبق على واقع الحياة السياسية. ففي لبنان الملتزم حسب أحكام دستوره مواثيق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأن الدولة تجسد هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات، وما نصت عليه المادة (7) من الدستور بأن كل اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم لا تجد هذه الأحكام ميدانها التطبيقي في الممارسة السياسية.

إن النظام السياسي اللبناني، الذي تحكمه قواعد الطائفية السياسية، اسقط مفهوم المواطنة عن اللبنانيين، لأن المواطنة تفترض توفر شرط المساواة في المجتمع السياسي. وعندما تنعدم المساواة، فإن المواطنة بما هي تعبير عن هوية وطنية تفقد أحد مقوماتها الأساسية.
إن توزيع مواقع السلطة وهرمية الفئة الأولى من الوظائف في الإدارة على الطوائف، أضفى كيانية سياسية على المكونات الطائفية. وهذا ما جعل من لبنان الدولة الواحدة، يقوم نظامه على فيدرالية طوائفية، بحيث أدى ذلك إلى حرمان اللبنانيين من التمتع بحق المساواة في الحقوق السياسية في إطار المكون الوطني الواحد، وأن هذه المساواة في ظل النظام القائم على الطائفية، أصبحت "مساواة" في إطار (ما يمكن تسميته)-"المواطنة الطائفية".

وهذا ما أدى إلى جعل بنيان المجتمع السياسي اللبناني مشدوداً إلى الولاءات الطائفية أكثر منه إلى الولاء الوطني.

هذه التعددية في الولاءات السياسية الطوائفية، أضعفت التماسك الوطني، وما زاد من وهن عرى هذا التماسك، أن المجتمع السياسي الطائفي، لم يكن بمنأى عن تأثيرات الخارج.

هذه الطائفية السياسية التي تعود بجذورها التي الفترة التي تشكل فيها النظام الإداري للمتصرفية، يعاد إنتاجها في كل مرة تعصف بلبنان أزمة سياسية حادة. ومعها أنتجت و"ما يمكن اعتباره وطنيات طائفية" على حساب الوطنية السياسية.
من هنا، فإن الوطنية السياسية لا تقيمها إلا قوة سياسية وطنية التركيب التنظيمي والمعتقد السياسي. والحزب العابر للطوائف والمذاهب والمناطق، هو القوة المؤهلة لبلورة مفاهيم الوطنية السياسية، كهوية وطنية جامعة. وان بلوغ هذا الهدف لجهة تشكل الهوية الوطنية، لا يتم بمجرد التمني، بل لا بد من توفر ميزان قوى سياسي وشعبي يكون قادراً على فرضه.

ان حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي(1)، يعتبر انه في ظل نظام سياسي كالنظام اللبناني القائم على اساس الطائفية السياسية، فإن المدخل الفعلي نحو تشكل الهوية الوطنية السياسية على حساب"الوطنية الطائفية"هو بإعادة تشكيل السلطة السياسية على قواعد لا طائفية بدءاً من اصدار قانون انتخابي،يلغي القيد الطائفي عن العملية الانتخابية ترشحاً وانتخاباً،ويجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة وعلى أساس النسبية واعتماد الترشح على اساس الكيانات الحزبية،واعطاء الجمعيات والاحزاب التي تمارس العمل السياسي على اساس طائفي فرصة لتصحيح اوضاعها لجهة اعادة النظر ببرامجها وبناها التنظيمية والا سحب تراخيصها. وهذا يجب ان يترافق بتوحيد كتابي التاريخ والتربية المدنية حتى لا يبقى تاريخ لبنان يقرأ من زوايا مختلفة، ومعه يجب وضع سياسة تربوية وطنية،تلغي ما هو مبني على اسس دينية طائفية. وعبر وضع الانشطة التربوية الخاصة تحت اشراف الدولة.

إن تراجع المشاريع السياسية الطائفية المنطلق والممارسة مرهون بتقدم المشاريع السياسية الوطنية المنطلق والممارسة، والتي تحمل لواءها الأحزاب الوطنية.
وعليه فإن الحزب الوطني كقوة سياسية، هو العامل الأكثر تأثيراً في تشكيل الهوية الوطنية، وبالتالي جعلها العنصر الجاذب في المجتمع السياسي.
فكيف تكون مساهمة الحزب في بلورة هذه الهوية وتشكيلها؟

ثالثاً: مساهمة الحزب القوة السياسية في بلورة الهوية الوطنية وتشكيلها
إن المجتمع السياسي، وهو المجتمع الذي تظهر فيه السلطة السياسية،هو كالحوض المائي، يستقبل كل ما يضخ إليه، وكل ما يصب فيه.والأحزاب العاملة في هذا المجتمع إنما هي بمثابة الروافد السياسية، وهي بالتالي تلعب دوراً أساسياً في تكوينه السياسي العضوي.

فإذا كانت غزارة الضخ السياسي الوطني قوية، ارتفع منسوب "الوطنية" في هذا المجتمع، وإذا كانت غزارة الضخ السياسي الديني والطائفي قوية، ارتفع منسوب "الدينية السياسية" اوالطائفية السياسية.

ولهذا فإنه اذا كان من السهل بمكان، إنتاج خلطة سياسية وطنية في ظل تعددية سياسية وطنية، فإنه من الصعب إنتاج مثل هذه الخلطة في ظل تعددية سياسية دينيةاو طائفية. فالأحزاب الدينية والطائفية والمذهبية وأن غلفت خطابها وضمنته شعارات وطنية، إلا أنها تبقى "تقسيمية" بالنظر إلى طبيعة تركيبها البنيوي ومنهلها المعتقدي.وهذا التقسيم يأخذ بعداً عامودياً لأنه يتناول المكونات المجتمعية بحكم انتمائها الديني الايماني.

إن الأحزاب الدينية والطائفية، سواء كانت تعتبر نفسها ممثلة للخط الأكثري أو الأقلوي في الانتماء الديني الإيماني، ترسم حدوداً بين المكونات المجتمعية ولو كانت في إطار مكون وطني واحد. وهذا الأمر يصبح أشد وطأة على الواقع المجتمعي عندما تصبح الطوائف هي القاعدة الشعبية للأحزاب، فتصبح عندها الحدود الطوائفية هي الحدود السياسية، وغالباً ما تكون محكومة بعوامل الاحتراب.

ومثال حي على ذلك، هو معطى الواقع اللبناني، حيث أصبحت للطوائف شخصيتها السياسية، كما في مسميات "المارونية السياسية"، و"السنية السياسية" والشيعية السياسية وقس على ذلك.

إن بروز الشخصية السياسية للطوائف في إطار المكون الوطني، يكون على حساب الشخصية السياسية الوطنية، ولهذا لا يمكن تصور تشكيل هوية وطنية واحدة على مستوى المواطنة في نظام سياسي محكوم بقواعد الطائفية السياسية.

من هنا، فإن الحزب،الوطني المنطلق والمعتقد والتركيب البنيوي، هو الوحيد القادر على بلورة هوية وطنية لمجتمع سياسي معين. فالخطاب السياسي الموجه إلى عموم لشعب، والذي يطرحه الحزب المشكل من كل المكونات المجتمعية على مختلف تعددية انتماءاتها الدينية الإيمانية، يدفع باتجاه الانصهار الوطني على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات وعلى قاعدة" الدين لله والوطن للجميع."

إن الدور الذي تؤديه الأحزاب الوطنية في بلورة الهوية الوطنية المدرجة تحت عنوان المواطنة، وصولاً إلى تحقيق الأهداف والغايات المنشودة، إنما تتم من خلال ثلاثة عوامل،
العامل الأول هي وثائق التأسيس، والتي يُطل من خلالها على النظام الأساسي للحزب،والعامل الثاني هي وثائق المؤتمرات التي تقوم فيها نتائج الأعمال وتُوضع البرامج المرحلية للعمل السياسي، والعامل الثالث، هو الخطاب السياسي اليومي الذي يواكب الأداء العملي وآليات العمل.

إن وثائق التأسيس، تحدد طبيعة التركيب التنظيمي والأهداف الأساسية، والحزب الوطني هو الذي يعتبر الرابطة الوطنية الرابط الذي يجب أن ينشد إليه كل أفراد الشعب، وإذا كان الشعب الواحد قد جرى تقسيمه إلى مكونات مجتمعية أضفي على كل مكون مسمى المكون الوطني، فإن إعادة توحيد الشعب ضمن دولة واحدة هو حق طبيعي للأمم التي تعرضت للتقسيم.

من هنا فإن حزب البعث العربي الاشتراكي، يعتبر العرب أمة واحدة وأنه من حقها الطبيعي أن تحيا في دولة واحدة، وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها،

ولهذا جاء البند (1) من المبدأ الاول من دستور الحزب ليؤكد:
إن الوطن العربي هو وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً على الآخر. وعليه جاء في المادة 15 من منهاج الحزب السياسي، بأن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوثقه واحدة وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية او الإقليمية.

وعندما يعتبر الحزب بأن الرابطة القومية هي التي تكافح كل العصبيات عن طريق تحقيق الأنصهار في البوتقة القومية الواحدة، فلأنه يدرك بأن العصبيات المذهبية والطائفية او القبلية والعرقية، إنما تشكل عوائق أمام الأنصهار الوطني. وهذا الأنصهار لا يتحقق إلا إذا توفر شرط المساواة في المواطنة بحيث يكون الجميع متساوون أمام القانون وفق ما نصت عليه المادة (17)، ونصها: "يعمل الحزب لوضع دستور للدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون، والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم واختيار ممثليهم اختياراً صادقاً ويهيئ لهم بذلك حرية ضمن نطاق القوانين.

إن الحزب الذي يرى في واقع الأمة المعاش، ما هو مخالف للقانون الطبيعي الذي يعطي الحق للأمة، أي أمة،لأن تتحقق وحدة شخيصتها الاعتبارية في مكون قومي واحد، يوجب أن تكون بنيته التنظيمية ومبادأه منسجمة مع أهدافه. فالحزب الذي يعتبر نفسه معنياً بإعادة توحيد الأمة، يجب أن تكون بنيته التنظيمية قومية التركيب، وأهدافه الأساسية متمحورة حول الوحدة التي من خلالها تتبلور الهوية السياسية للقومية الواحدة.

ولهذا فإنه كلما كانت مديات الخطاب السياسي ممتدة على مساحة الانتشار القومي للأمة، كلما كانت الإمكانية أكبر على احتواء العصبيات المذهبية والطائفية والعرقية والقبلية.وكلما ضاقت مديات الخطاب السياسي كلما كانت الظروف مهيئة لبروز النتوءات والعصبيات في المجتمع السياسي.

وإذا كان الواقع السياسي العربي الحالي ينوء تحت وطأة التقسيم الكياني للوطن العربي، والتقسيم المجتمعي للأمة بين مكونات قطرية، أُسقط عليها مفهوم الوطنية بمعنى التقسيم الكياني، فإن الخطاب السياسي الذي يدرج تحت تصنيف الخطاب الوطني بمدلول الكيانية القطرية، يجب أن لا يتناقض بمضمونه مع الأهداف الأساسية لمضمون الخطاب القومي،

وهذا باعثه سببان الأول، أن ثمة أحزاباً وطنية تشكلت في حدود التقسيمات الكيانية القطرية،والثاني، ان الأحزاب ذات التركيب التنظيمي القومي، كما هو حال حزب البعث على سبيل المثال، تنشئ فروعاً لها على مستوى المكونات الوطنية القطرية، وهذا الفروع في خطابها السياسي يفترض أن تكون متماهية مع المبادئ الأساسية للخطاب القومي.
وإذا كان البعض اعتبر أن ثمة إشكالية بين الخطاب السياسي الوطني والخطاب السياسي القومي، فإن هذه الإشكالية تزول عندما تعتبر "الوطنية" بمفهومها السياسي لا تتناقض مع القومية. فإذا كان الخطابان يشددان بمضمونهما، على مبدأ المساواة في المواطنة لجهة التمتع بالحقوق السياسية والاجتماعية، فإن الأنصهار على المستوى الوطني بين مختلف المكونات المجتمعية الوطنية، يخرج الفرد من مدار الولاء الديني والطائفي والمذهبي إلى مدار الولاء الوطني ومنه إلى مدار الولاء القومي.

إن انشداد المكونات الشعبية إلى ولاءاتها السياسية الوطنية،يشكل عاملاً جاذباً يضيف إلى العناصر الأساسية لمكونات وحدة الأمة، عنصراً مهماً وهو أن التجانس في المفاهيم والتقارب في مضمون الخطاب السياسي، يشكل عاملاً مساعداً للدفع باتجاه التوحد.

وعليه فإن حزب البعث يرى ان المسألة الوطنية في إطار المكون القطري، المطروحة تحت عنوان وحدة الأرض والمكون الشعبي والمؤسسات والمساواة في المواطنة، لا تتعارض مع المسألة القومية المطروحة تحت عنوان وحدة الوطن العربي في إطار مكون سياسي واحد وبغض النظر عن طبيعة النظام الدستوري الاكثر ملاءمة لواقع الحال.

فكما الوطنية على المستوى القطري هي وحدها القادرة على إنتاج "خلطة وطنية" متجانسة بمعنى "homogène" فإن القومية على المستوى القومي هي وحدها القادرة على احتواء كل المركبات الاجتماعية في جسم الأمة لإنتاج خلطة قومية متجانسة أيضاً.

إذاً، ان وثائق التأسيس وما تنطوي عليه من أهداف أساسية، تشكل المرتكزات الأساسية لتحديد معالم الهوية الوطنية. لكن هذه الوثائق ليست نهاية المطاف، لأنها ليست هدفاً بحد ذاتها، بل هي نقطة الإنطلاق نحو رحاب العمل السياسي، الذي يخرج الموقف من إطاره النظري إلى ميدانه العملي. وهنا تأتي الوثائق السياسية التي تنتج عن أعمال المؤتمرات، لتشكل دليل عمل مرحلي للأحزاب السياسية في سياق مسيرتها نحو تحقيق أهدافها. والوثائق السياسية (التقارير) التي تقدمها الأحزاب إلى جهازها الخاص والى الجمهور، تكتسب أهمية في الحياة السياسية، استناداً إلى معطيين، الأول، أن الأحزاب تقوم في أعمال مؤتمراتها مرحلة سابقة، بكل نجاحاتها وإخفاقاتها، وتطرح رؤية سياسية لمرحلة لاحقة والثاني أنها تجدد من خلالها خلاياها التنظيمية.

هذه المؤتمرات التي تعززها آليات العمل تحدد محتوى الخطاب السياسي ببعديه المرحلي والاستراتيجي. ويفترض أن يصل بينهما حبل سرة واحد، بحيث يراكم الخطاب السياسي المرحلي معطياته خدمة للخطاب السياسي الاستراتيجي. لأنه إذا كانت الأمراض السياسية التي تظهر في إطار المكون القطري، تشكل عللاً للمكون الوطني، فإن تفاقمها، يشكل عللاً أكثر خطورة على المكون القومي، وعلى سبيل المثال الحصر، فإن الطائفية السياسية إذا كانت علة النظام السياسي اللبناني فإنها ستكون حكماً علة للنظام القومي العربي. والقبلية السياسية التي تشكل علة من العلل السياسية في بعض المكونات العربية، إنما تشكل أيضاً عللاً في جسم المكون القومي العربي. ولهذا فإن ارتقاء المجتمع السياسي في إطار المكونات الوطنية العربية إلى مستوى المواطنة هي مهمة أساسية للأحزاب الوطنية.

هذه المهمة الملقاة على عاتق الأحزاب الوطنية، لا تنجز بالاستناد إلى النص التأسيسي والمؤتمرات وحسب، بل يجب أن تتابع بعمل يومي على مختلف الصعد والأنشطة. وبما أن الأحزاب هي مؤسسات تثقيفية وتوجيهية، فإنها معينة بإيصال خطابها السياسي إلى أوسع الشرائح الشعبية. وهنا تكتسب أهمية المنابر الإعلامية ووسائل التأثير في الرأي العام، والندوات السياسية والمهرجات والتظاهرات، ونسج التحالفات السياسية لدى من تجمعهم وحدة الرؤى السياسية المرحلية، بهدف تفعيل الحراك الشعبي، وتأمين ميزان قوى سياسي وشعبي يكون بمقدوره فرض نفسه في الخارطة السياسية الداخلية، أن لجهة تمكنه من استلام السلطة، أو لجهة بروزه كقوة فاعلة مؤثرة في تكوين ثقافة شعبية متحورة حول الاهداف الوطنية وممارسة دورها في الرقابة والمحاسبة على أداء السلطة السياسية.
هذه الأنشطة التي يقوم بها الحزب عبر طرح المسألة الوطنية في وثائقه التأسيسية ومؤتمراته تؤدي وظيفتها الأساسية في بلورة الهوية الوطنية، وتشكيلها وهذه مهمة ليست سهلة، بل هي صعبة، لأنها تتعلق بأحداث التغيير في منظومة القواعد والمفاهيم السائدة من جهة، ولأنها تتعلق بحجم المعوقات التي تعترض مسار التغيير من جهة ثانية. وعليه فإن الحزب الذي يعمل لبلورة الهوية الوطنية في مجتمع طوائفي، تواجهه تحديات بعضها مرتبط بمنظومة المفاهيم التي تشكلت في ظل مراحل سابقة وبعض آخر، يرتبط بمصالح القوى التي ترى في بلورة معالم شخصية الوطنية السياسية خطراً على مصالحها، لأنه في تشكل كل ظاهرة هناك مستفيدون منها وهناك متضررون. فمن هم المتضررون الذين يقاومون قيام الوطنية السياسية على حساب "الوطنيات الطوائفية".؟؟

رابعاً: أهم المعوقات التي تعترض تشكيل الهوية الوطنية من وجهة نظر الحزب
الأمر الطبيعي، أن يكون لكل مجتمع سياسي في حدود دولة معنية، هوية وطنية واحدة. لكن النموذج القائم في لبنان يخالف هذه القاعدة بالنسبة للهوية الوطنية بمفهوم المواطنة. فاللبنانيون في ظل واقع الحال هم رعايا بمفهوم الهوية الوطنية السياسية، ومواطنون بمفهوم "الوطنية الطوائفية". نظراً لكون المساواة في الحقوق والواجبات كشرط للمواطنة الكاملة ليس معمولاً به على مستوى المواطنة الوطنية. بل معمول بها على المستوى الطوائفي.

وفي تناول المعوقات التي تعترض تشكيل الهوية الوطني فعلياً وممارسة لا نظرياً، فإنها كثيرة. بعضها يرتبط بمعطى الماضي حيث التعددية الدينية والطائفية والمذهبية قائمة في المجتمع الشرقي عامة والعربي خاصة،وبعضها يرتبط بمعطى العصر الحديث.

بالنسبة لمعطى الماضي فإن شعوب الشرق هي شعوب متدينة، والانتماء الديني المعتقدي تفرضه قواعد النسب الأبوي أو الأموي. وهذا ما جعل المحفز الديني يلعب دوراً أساسياً في تحريك المشاعر والعواطف والغرائز، ومعه تحولت الثقافية الدينية على المستوى السلوكي ونظام المعاملات إلى ثقافة شعبية. وطالما هذه الثقافة مرتبطة بالحراك المجتمعي فهي عرضة للتأثر والتأثير.

إن التعددية الدينية من جهة، والطائفية والمذهبية من جهة ثانية أدت إلى بروز اختلاف في النظريات والمدارس الفقهية التي أسست للطوائف والمذاهب. وهذه التعددية التي انطوت على كثير من المسائل الخلافية خاصة حول تفسير النصوص ونظام المعاملات، شكلت أرضية لبروز معالم صراعية بين الأديان والطوائف والمذاهب، وأن الصراع اشتدت وطأته بعدما أُسقطت عليه العوامل السياسية.

ان تاريخ الشرق حافل بهذه الصراعات سواء التي حصلت تحت عباءة الصراع الديني أو تلك التي اندرجت تحت عنوان الاحتراب المذهبي عـشـية دخول الخلافة العباسية مرحلة شيخوختها.

هذا بالنسبة لمعطى الماضي، أما بالنسبة لمعطى العصر الحديث، فقد بدأ العمل الجدي لدى الغرب السياسي على تغليف الطائفية بلبوس سياسية عند دخول السلطنة العثمانية مرحلة المرض السياسي، حيث نُظر للمنطقة التي كانت تحت حكم السلطنة "بتركه الرجل المريض". وكان أول اختبار "للتصنيع" السياسي للطائفية هي التجربة والنموذج الذي اعتمد في نظام المتصرفية.

فالدول الأوروبية التي بدأت تعد نفسها لوراثة السلطنة، قدمت نفسها من خلال حمايتها وتظليلها السياسي للطوائف، بحيث صُور الأمر وكأن كل طائفة من حكومة المجتمع السياسي الذي قام في حدود المتصرفية لها مرجعيتها الدولية. ففرنسا قدمت نفسها حامية "للموارنة" وروسيا للأرثوذكس، وتركيا للمسلمين، أما بريطانيا التي لم تجد لها طائفة تنكئ إليها في حفظ موقع لها على طاولة الترتيبات السياسية والإدارية، قدمت نفسها حامية للدروز. وحدد نظام المتصرفية، أن المتصرف يجب أن يكون مسيحياً ومن خارج لبنان. وهكذا كرس أول نظام إداري على أساس طائفي، كما كرس الحضور الدولي والإقليمي عبر تقديم نفسه مظلة لهذا النظام.

ان النظام الذي تشكلت معالمه الأولى عند قيام نظام المتصرفية، اعيد إنتاجه عندما برز النظام الدولي عقب الحرب العالمية الأولى. إذ أن توسيع حدود المتصرفية الجغرافية إلى حدود ما عرف بدولة لبنان الكبير، زاد نسبة المساحة الجغرافية، ورفع عدد الذين ينتمون إلى الطوائف. ولم يلغ نظام المحاصصة الطائفية.

ان الحرب العالمية الأولى وما ترتب عليها من نتائج سياسية على مستوى الوطن العربي، فرض خريطة تقسيم للمكون القومي على عدد كبير من المكونات الوطنية، بعضها وضع تحت الانتداب البريطاني والفرنسي، وبعضها الاخر، كان يعاني استعماراً مباشراً كما حال الدول العربية في شمالي افريقيا.
بعد الحرب العالمية الثانية، تشكل نظام دولي جديد، أدير على قاعدة الثنائية القطبية، وان هذا النظام، عن انشاء كيان غريب في قلب المنطقة العربية، بقرار دولي، هو الكيان الصهيوني.

هذا الكيان الذي أقيم على أرض فلسطين، وأن جاء في سياق تنفيذ أبعاد المشروع الصهيوني، إلا أنه جاء أيضاً في سياق تلاقي مصالح النظام الاستعماري مع الأهداف الصهيونية.

إن تقسيم الوطن العربي إلى كيانات قطرية، جعل المكونات المجتمعية في كل قطر، خاصة تلك التي تنطوي مجتمعاتها على تعددية دينية أو طائفية أكثر بروزاً ونتوءاً. وهذا هدف استعماري استراتيجي، ويكفي الرجوع إلى التوصية التي انبثقت عن المؤتمر الاستعماري الذي عقد عام 1907 بدعوة من رئيس وزراء بريطانيا آنذاك بانرمان، ليتبين مستوى الإدراك الاستعماري لخطورة توحد العرب على المصالح الاستعمارية: لقدجاء في التوصية:" على جنوب البحر الأبيض المتوسط وشرقه يعيش شعب له من وحدة الأرض والتاريخ واللغة والمصالح الاقتصادية كل مقومات الترابط والتقدم والوحدة، وهنا يكن الخطر على الإمبراطوريات الأوروبية فيما لو توحد هذا الشعب، ولذا يجب العمل وبصورة سريعة لدرء الخطر الكامن في هذه المنطقة وذلك بذرع جسم غريب في قلب هذه المنطقة، يكون عدواً لسكانها وصديقاً لنا وعلى الجسر البري الذي يربط آسيا بافريقيا وعلى مقربة من قناة السويس، الشريان الحيوي لأوروبا للوصول إلى المياه الدافئة."(انها فلسطين)

ان الامن، لكيان غريب زرع في قلب الوطن العربي ففضلاً عن كون التقسيم الكياني للوطن العربي، يشكل عاملاً أساسياً من عوامل ملاءمته، إلا أنه بحكم طبيعة هذا الكيان الصهيوني وأهدافه، فإنه يرى أن أمنه لا تتوفر مستلزماته على ما يمتلكه من عناصر قوة مادية، عسكرية وغيرها ولا على الدعم الدولي وخاصة من المواقع المقررة والأساسية في النظام الدولي وحسب، بل يتحقق ايضاً بوجود واقع عربي، ينزل تحت مستوى التقسيم الكياني الذي رسمت حدوده اتفاقية سايكس بيكو، إلى مستوى التقسيم المجتمعي، واستغلال كل الظروف والمعطيات المجتمعية لجعل الحدود السياسية للمكونات السياسية بحدود الطوائف والمذاهب.

ففي دراسة لأحد الباحثين الصهاينة، "أوديدنيون"، وكان قد عمل مستشاراً في وزارة الخارجية الإسرائيلية في الثمانينيات، أشار، إلى أنه بعد التطور الحاصل على التقنيات العسكرية ومنظومات الصواريخ التي تتجاوز بمدياتها حدود الجغرافيا، لم تعد القدرات العسكرية والعوازل الجغرافية قادرة على توفير الأمن المطلوب "لإسرائيل"، بل الأمن الإسرائيلي يتأمن من خلال إعادة رسم الخوارط السياسية في المنطقة العربية، وجعل حدود الكيانات السياسية بحدود الكيانات الطائفية، ودفعها لأن تدخل في احتراب في ما بينها، ووصل إلى خلاصة أن التقسيم الواقعي في لبنان هو النموذج، ويجب أن يعمم هذا النموذج إلى سائر الدول العربية.

من هنا، يتبين، ان التعددية الدينية والطائفية في معطى الواقع العربي، بحكم طبيعة التكوين المجتمعي أو بحكم العمل لإسقاطات سياسية على المكونات المتعددة في انتماءاتها الدينية الإيمانية، أفرزت واقعاً سياسياً، منهم من استفاد منه، ومنهم من تضرر.

وأما المستفيدون فهي المنظومات السياسية التي رأت ان مصالحها مرتبطة بواقع التقسيم الكياني، وايضاً بواقع الطائفية السياسية. وهؤلاء المستفيدون باتوا يشكلون عوائق أمام عملية الانصهار الوطني أولاً، وأمام عملية التوحد القومي ثانياً.

وهنا يمكن تلخيص المعوقات بالعوامل التالية:
1- عوائق مرتبطة بالتركيب البنيوي في مجتمع متدين أسقطت عليه عوامل السياسة.
2- عوائق مرتبطة بمصالح القوى والمنظومات السياسية المستفيدة من واقع التقسيم الكياني والتقسيم المجتمعي،خاصة، بعدما اقامت شبكة من المصالح والمؤسسات التي تغطي قطاعاً واسعاً من الخدمات التربوية والصحية والاجتماعية.
3- عوائق مرتبطة، باستراتيجية الدول الاستعمارية التي ترى في هيمنتها على المنطقة عاملاً من عوامل "أمنها الاستراتيجي".
4- عوائق مرتبطة بالاستراتيجية الصهيونية، التي ترى أن الأمن الصهيوني لا يتوفر الا من خلال تكريس واقع التقسيم ليس على المستوى الكياني وحسب،
بل أيضاً على المستوى المجتمعي.
5- عوائق إضافية نتجت عن تحول الارتباط الديني والمذهبي بالمرجعيات الدينية، إلى ارتباط سياسي.
هذه العوامل الخمسة هي التي تشكل عوائق أساسية أمام تشكيل الهوية الوطنية، وهذه الصعوبات ناجمة عن كون أن المستفيدين من هذه العوامل يعملون لتكريس هذا الواقع، والذي يتعارض والتوق الشعبي لبلورة الهوية الوطنية بمعناها السياسي.

أما كيف السبيل لمواجهة هذا الواقع والانتقال من المجتمع السياسي الطوائفي إلى المجتمع الوطني، فالجواب أتى في سياق المحددات التي جرت الإشارة إليها. وهي أن الحضور الفعلي للأحزاب الوطنية في الحياة السياسية، وتمكنها من أن تشكل حالة استقطاب سياسي ورافعة سياسية للمشروع الوطني العابر بمضمونه واطارته للطوائف والمذاهب، هو الذي يرفع من منسوب الوطنية في مفردات الثقافة الشعبية وفي مضمون الخطاب السياسي العام. والحزب بما هو حزب قومي ببنيته التنظيمية وأهدافه، يعتبر أن الوحدة الوطنية على مستوى المكون القطري لا يمكن أن تستقيم في ظل خطاب سياسي طائفي، وبالتالي فإن الوطنية السياسية هي التي تلغي "الوطنيات الطائفية".

فالوطن العربي من وجهة نظر الحزب هو وحدة سياسية اقتصادية، وهي وأن لم تتحقق الآن على مستوى الفعل، إلا أنها لا يعني أنها منعدمة الوجود على مستوى العناصر الأساسية للمكون القومي.

وإذا كان البعض لا يعي أو لا يريد أن يعي بأن العرب يشكلون أمة واحدة، فإن القوى المعادية تتعامل مع العرب باعتبارهم أمة وحدة، وعليه يضعون خططهم لإبقاء واقع التقسيم الكياني يتسم بالنهائية وأكثر من ذلك،النزول بهذا التقسيم إلى الميدان المجتمعي. فهل يجوز أن يدرك الغير بأن العرب ينتمون إلى قومية واحدة، ويريد البعض أنكار هذه الحقيقة.!!

إن النظرية القومية التي تحمل فكراً سياسياً قومياً في أبعاده تحررياً في مضمونه ديموقراطياً في آلياته، فيها يكمن الجواب على حل المشاكل التي يعاني منها العرب على مستوى الكل القومي وعلى مستوى الجزء القطري، وعندما يكون الخطاب السياسي القومي، يستند إلى قاعدة المساواة في المواطنة بين أبناء الأمة على مختلف انتماءاتهم الدينية الإيمانية، فإنه بذلك يستوعب كل الوطنيات القائمة على نفس الأسس والقواعد، وبالتالي يكون تشكل الهوية الوطنية كحالة جاذبة في إطار المكونات الوطنية مركزات أساسية للهوية القومية الجاذبة في إطار المكون القومي الشامل.

وهنا تجدر الاشارة الى تقرير لجنة الامم المتحدة لغرب آسيا الاسكوا "حول رؤية استراتيجية للتكامل العربي في (النهار 26 شباط 2014) وفيه :

ان مقومات التكامل العربي لا تتحقق في دول مجزأة، حيث تتعذر حماية المصالح العامة،ويصعب اكتساب المناعة الضامنة لشروط السيادة والاستقلال وتشييد بنى اقصادية تتاح فيها للجميع فوائد التكامل الشامل.ان التكامل يفضي الى اقامة منطقة المواطنة الحرة العربية، حيث يتمتع كل مواطن بحقوق المواطنة في أي دولة عربية ويقترح التقرير مجموعة من التوجهات ترتكز على ثلاثة أركان:
1- تعاون سياسي يدعم اقامة الحكم الديمقراطي الصالح
2- تعميق التكامل الاقتصادي
3- اصلاح ثقافي وتربوي يكوّن اشخاصاً مبدعين قادرين على بناء مجتمعات المعرفة.

على هذا الاساس ان الحزب يعتبر أن لا خلاص للأمة من مشاكلها في مواجهة تحديات الداخل ومنها الطائفية السياسية وتحديات اطماع الخارج الاقليمي والدولي إلا عبر المشروع القومي الذي يوحد جهود الأمة على كافة الصعد وفي كافة المجالات ولهذا لخص نظريته بثلاثية الوحدة والحرية والاشتراكية.
ـــــــــــــــــــ
* محاضرة في معهد العلوم الاجتماعية –الفرع الاول- دبلوم الدراسات العليا
1- ان حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي، هو الاستمرار التنظيمي لحزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان الذي حلته السلطة عام 1992 وسحبت ترخيصه. واعاد تشريع وضعه تحت اسمه الحالي بموجب العلم والخبر 238 أ.د تاريخ 2/6/2006
بيروت في 7/3/2014
المحامي حسن بيان
 
شبكة البصرة

افتتاحية طليعة لبنان الواحد لشهر نيسان 2014 ليتحول عيد العمال الى يوم وطني ضد حيتان المال

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
افتتاحية طليعة لبنان الواحد لشهر نيسان 2014
ليتحول عيد العمال الى يوم وطني ضد حيتان المال

شبكة البصرة
لم يكف اللبنانيون، أنهم يعيشون في كنف وضع سياسي مأزوم، كانت أبرز تجلياته، شلل في أعمال السلطة التنفيذية، بعد تعثر تأليف الحكومة لمدة قاربت العشرة أشهر، رافقه تعطيل لدور السلطة الاشتراعية، لخلاف حول مدى دستورية التشريع في ظل حكومة مستقيلة.
فبعد تأليف الحكومة التي لم تكن لتبصر النور لولا تدوير الزوايا وانعكاس ذلك على البيان الوزاري الذي امتص إقراره المهلة الزمنية القصوى، نالت الحكومة الثقة، واستأنف المجلس النيابي دوره التشريعي في تسابق مع الزمن لمواجهة الاستحقاق الدستوري المتمثل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
لقد اعتبر تشكيل الحكومة إنجازاً أمام ما كان يعتبر إعجازاً، ومعه فتحت صفحة جديدة لخط ملامح رسم بياني لمواجهة الاستحقاقات السياسية والدستورية، ومعه بدأت عملية التحضير والتهيؤ لإنجاز الاستحقاق الدستوري الرئاسي قبل الخامس والعشرين من أيار/2014، حيث لا يمكن لأحد أن يجزم بإمكانية حصوله ضمن معطى المدى الدستوري نظراً للاحتمالات المتساوية بين الحصول أو عدمه، وعليه فإن الصورة ستبقى مشوشة إلى أن ينزل "الوحي السياسي". فإن حصل ضمن المهل الدستورية أصبح للبنان رئيساً للجمهورية، وأن لم يحصل سوف تنتقل صلاحيات الرئاسة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً.
هذا التشوش السياسي الذي يظلل الوضع اللبناني، ما هو الا انعكاس للواقع السياسي المأزوم، الذي تعايش مع تفلت أمني، بلغ حداً غير مسبوق قبل تطبيق الخطة الأمنية، نظراً لعجز السلطة عن ضبط الوضع الأمني لأسباب عديدة: أولها، الانشطار السياسي الداخلي المتمحور حول خيارات داخلية متنافرة والمشدود إلى محوريات خارجية متصادمة، وثانيها،انعكاس هذا الانشطار السياسي على وظيفة ودور القوى الأمنية الشرعية، وثالثها، عدم التزام الأطراف السياسية بموقف جدي وحازم برفع الغطاء السياسي عن المخلين بالأمن الاجتماعي والحياتي، ورابعها ارتدادات الصراع المتفجر في سوريا على ساحة لبنان، خاصة بعدما اتخذ التدخل من أطراف لبنانية بعداً عملانياً – ميدانياً إضافة إلى بعده السياسي.
هذان الواقعان، السياسي المأزوم، رغم التهدئة الظاهرية التي دخلت على خط الخطاب السياسي، والأمني المتلفت، الذي رغم الحد من ارتفاع منسوبه بفعل الخطة الأمنية، ليسا الواقعين الوحيدين اللذين يثقلان الوضع اللبناني، إذ ثمة واقع آخر، لا يقل عبئاً على الحياة العامة، وهو الذي يتجسد بالملف الاجتماعي – المعيشي، والذي شكل خلال السنوات الأخيرة العنوان الأبرز الذي تظللت به الحركة المطلبية، والتي لعبت هيئة التنسيق دوراً ملحوظاً في تفعيل هذه الحركة بعد الاستقالة الفعلية للاتحاد العمالي العام من دوره كرافعة للحراك المطلبي، أن لأسباب سياسية ناتجة عن التجاذبات السياسية بين طرفي الاستقطاب الأساسيين في البلد، وأن لأسباب بنيوية ناتجة عن تفكك وتشظي بنية الاتحاد وتحوله إلى مجموعة أشلاء قطاعية تتقاذفها الرياح المذهبية والطائفية وفي ظل ضعف وهامشية التأثير السياسي للقوى الوطنية والتي كانت تشكل دائماً حاضنة سياسية للحركة العمالية في نضالها المطلبي.
في ظل هذا الواقع اللبناني المثقل بالأعباء السياسية والأمنية، تراكمت معطيات الملف المعيشي، وتزاحمت الأولويات، لكن أكثرها الحاحاً، كانت القضايا المتعلقة بمستوى المداخيل وخاصة لذوي الدخل المحدود، والملف السكني، وملف الطبابة فضلاً عن ملف التعليم.
هذه الملفات الأربعة، شكلت المادة الأساسية للتحرك القطاعي ولقطاعات شعبية واسعة وجدت نفسها أمام عجز عن تلبية الحاجات الملحة في ظل الارتفاع الجنوني لسلة الخدمات الضرورية وأسعار العقارات التي بدأت لضغط على شرائح شعبية واسعة وضعت في مواجهة أزمة جديدة تحت تأثير الاتجاه الضاغط باتجاه تحرير عقود الإيجارة. وإذا ما أضيف إلى هذا الواقع الاجتماعي – المعيشي الضاغط ارتفاع نسبة النزوح السوري إلى لبنان، وعدم تعامل المجتمع العربي وايضاً الدولي بمسؤولية قومية وإنسانية تجاه هذا الملف الشديد الوطأة على النازحين أولاً وعلى بلاد الإيواء ثانياً، لتبين بأن الارتداد للصراع في سوريا لا ينطوي على جوانبه الأمنية والسياسية وحسب بل يطال الجانب الاجتماعي والإنساني أيضاً.
هذا الملف المعيشي، لم تعالج أسبابه بما يساعد على احتواء تداعياته، بل تم التعامل معه بعشوائية في التشريع بدءاً من مشروع زيادة الأجور قبل عامين الذي ما زال يلفه الالتباس وتتباين الاجتهادات في تفسير احكامه إلى قانون الإيجارات الذي بدل أن يحل مشكلة، ولد اخرى أكثر حدة،. ومروراً بقانون العنف الأسري الذي لم يشف عليلاً ولم يرو غليلاً، إلى قانون تأديب الأولاد الذي أعيد النظر به قبل إحالته لتحفظ مرجعيات دينية عليه، شكل مشروع سلسلة الرتب والرواتب للعاملين في القطاع العام والإجراء والمياومين والهيئات التعليمية في القطاعين الرسمي والخاص، الفضيحة الكبرى في إظهار هذه العشوائية.
ولعل ما يجدر التوقف عنده في إظهار معالم هذه العشوائية، هو قانون الإيجارات والملابسات التي رافقت مسيرة مشروع سلسلة الرتب والرواتب.
فبالنسبة لقانون الإيجارات، فإنه بعد طول انتظار، أقر المجلس النيابي الممدد لنفسه، قانوناً، أقل ما يقال فيه أنه افتقر إلى الأسس التي ترتكز عليها فلسفة التشريع، والتي تتلخص غايتها، بتوفير ناظم قانوني للاستقرار الاجتماعي، واقامة التوازن بين سلتي الحقوق والموجبات لطرفي العقد.
إن قانون الإيجارات الذي أقر، راعى مصلحة المالكين على حساب المستأجرين، وهو لم يقتصر على تحرير العقود وبدلاتها ضمن مهل زمنية حددها، بل رفع الحماية القانونية عن شريحة اجتماعية تشكل في حدها الأدنى ثلث سكان لبنان. وبالتالي فإن هذا القانون يجب إعادته إلى المجلس لإعادة النظر بمواده وأحكامه وحتى يأتي أكثر توازناً، بحيث يرفع الغبن عن أصحاب الأملاك الذين تآكلت مداخيلهم من جراء تدني البدلات، ويوفر شبكة أمان قانونية للشريحة الاجتماعية التي يجب أن لا تتجاوز الكلفة السكنية ربع المداخيل (مراجعة الملاحظات هذا القانون في مكان آخر، من هذه النشرة).
أما بالنسبة لمشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب، فإن الذين أمسكوا بزمام هذا الملف بعد إحالته إلى المجلس النيابي، لم يتعاملوا معه بجدية ومسؤولية، وبدا وكأنهم يراهنون على عامل الوقت لأماتة روح الاندفاعة عند القطاعات المعنية بهذا المشروع، وأنه من خلال إحالته من لجنة إلى أخرى، أتضح أن النية هي وأده استناداً إلى مقولة اللجان مقبرة المشاريع.
لقد كانت حجة الذين ماطلوا وميعوا عملية إقرار مشروع السلسلة، هو عدم وجود مصادر للتمويل، بحيث لا يمكن إقرار قانون يرتب أعباء على الخزينة بما يقارب مليار وثلاثماية مليون دولار دون تأمين تغطية كافية لها، ولقد ظهر جلياً، أن الكتل الاقتصادية ضغطت لعدم تمرير المشروع وإلا تمريره ممسوخاً، بحيث يبدو ما يعطى باليمين يؤخذ من أصحاب الحقوق بالشمال،
وعليه، لم يقر المشروع في جلسة 15 نيسان وأحيل مجدداً إلى اللجان لمزيد من الدراسة والتدقيق والتمحيص. علماً لو كانت هناك شفافية، ولو كانت هناك مساءلة، ولو تم وضع حدٍ للهدر في كثير من القطاعات، وطبق نظام الضريبة التصاعدية، وسويت المخالفات على المرافق والعقارات التي يستثمرها حيتان المال والسياسية لكانت توفرت تغطية للسلسلة دون المس بأصحاب المداخيل المحدودة.
وإذا كان يسجل على المجلس النيابي هذا الاستنكاف عن اقرار السلسلة وهذه العشوائية في التشريع التي أتت لتلبي مصالح القوى النافذة اقتصادياً وسياسياً، فهذا ليس مستغرباً، لأن المجلس في تركيبته الحالية لا يعكس الإرادة الشعبية الحقيقية المعبرة عن المصالح الشعبية، بل هو نتاج واقع سياسي فاسد، تتحكم به مراكز النفوذ المالي والرأسمالية الجشعة والتمحورات المذهبية الحادة. بل المستغرب أكثر، هو أن المجلس النيابي الذي يفترض فيه أن يمارس دوره في حقلي التشريع والرقابة، يضم في صفوفه كثير من النواب الذين لا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بأعمال التشريع. وهذا ما يجعل العديد منهم يدرجون تحت مسمى "الأمية التشريعية". وعندما يقول العديد من النواب، أنهم لا يعرفون شيئاً عن الأسباب الموجبة لمشاريع القوانين ولا يعرفون على ما تحتويه المواد من أحكام، يتضح أن مشاريع القوانين التي تقر، إنما تمرر خارج سياقاتها الدستورية. وبالتالي، ليس غريباً أن تكون غالبية القوانين التي تقر، خاصة تلك التي تتطلب تمحيصاً قانونياً ومواءمة دستورية غير مفقوهة من عديد من أعضاء المجلس التشريعي.
إن هذا أن دل على شيء، فإنما يدل على أن النواب الذين يشكلون الهيئة العامة للمجلس لم يصلوا الى الندوة النيابية استناداً الى عمق معرفتهم بالجانب التشريعي، او لشرعية تمثيلهم الشعبي. بل وصلوا عبر "البوسطات" والقاطرات السياسية، حيث "القائد" هو الذي يحدد أين تتوقف، ومتى تسير وفي اتجاه تحول مساراتها.
وإذا كانت القطاعات الشعبية وخاصة النقابية منها، قد فجعت بآليات التشريع وخاصة ما تعلق منها بقانون الإيجارات وسلسلة الرتب والرواتب، فهل ستكون الفاجعة أكبر، عندما تسقط السلطة الاشتراعية بالضربة القاضية هذا المشروع بعد خمسة عشر يوماً وهو اليوم الذي يصادف عيد العمال العالمي؟
إن هذا اليوم الذي تحتفل فيه الطبقة العاملة في كل العالم هو يوم تكريم العامل، وعليه يجب أن لا يكون يوماً أسوداً في لبنان، بل يفترض أن يشكل مناسبة، يطلق فيها أوسع حراك شعبي لانصاف الفئات المسحوقة والأكثر استحقاقاً للحماية القانونية. وعليه فإن اللبنانيين مدعوون لأن يحولوا هذا اليوم إلى يوم وطني بإمتياز تنتصر فيه الطبقات والفئات الكادحة لمصالحها، وحى يكون هذا الاحتضان الشعبي هو الرد الفعلي على عملية التجاهل والالتفاف على الحقوق المشروعة لذوي الدخل المحدود وكافة المسحوقين وحتى لا يبقوا أسرى الاستفراد من وحوش المال والسياسة الطائفية والشركات العقارية.
شبكة البصرة