قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الثلاثاء، 17 نوفمبر 2015

فتحية الجرافي : ذاكرة المربد ما بين عبد الله البردوني وضياء الدين الخاقاني

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ذاكرة المربد ما بين عبد الله البردوني وضياء الدين الخاقاني
 
 
شبكة البصرة
فتحية الجرافي
المربد في اللغة هو السوق الذي تباع فيه الإبل أو هو متسع الإبل التي تربد فيه للبيع وقد تحول هذا السوق في عهد الأمويين إلى سوق عامة يخرج إليها الناس كل يوم ويذهب كل منهم إلى مربعه أو حلقته أو شاعره. كنت من مواليد صنعاء 1942م وقد سمحت لي ظروفي ان أحصل على قدر كبير من التعليم في زمن قلما تعلم فيه اليمنيون كان ابي يعمل في السلك الدبلوماسي اليمني في مصر العربية من اواخر الخمسينات، وهناك تلقيت تعليمي الاساسي والجامعي واصبحت من اوائل اليمنيات اللاتي تحدثن اللغة الانجليزية والفرنسية بطلاقة في ذلك الزمن. بعد سنين من وفاة زوجة الشاعر الكبير عبد الله البردوني رحمه الله الأولى في 1977م تزوجت البردوني وسافرت الى بقاع العالم ومنها المربد والبصرة الفيحاء الساحرة معه وإلى ما يريد ان يسافر وشاركته في قراءة الكتب واساله ويسألني عن بعض القضايا الثقافية والسياسية.. وكنا كزوجين كأصدقاء. فأنا بجانبه في كل أعماله سافرت معه في طباعة كتب كثيرة.. وكنت ماهرة في التصحيح، وفي إخراج الكتب إخراجا جميلا وفي ظل التقائنا كزوجين عاصرت أكثر تجاربه، وهكذا تعاونا مع كثير من الأمور وكانت الحياة متشابهة بما نعيشه في الثقافة، وهذا ما جعل الثقافة محبوبة لدينا كلانا اكثر، وفي هذه المسيرة تعرفت على اعز صديق له وهو ضياء الدين الخاقاني والى مهرجان المربد العظيم وحفزنا الى ذلك عشقنا الى العراق الاسطوري.
ضياء الدين الخاقاني شاعر، بل هو رجل ينتمي لأسرة الحالمين، يقتفي أثر الإنسانية بأحزانها وأفراحها شعرا موثوقا بين الوطنية والوجدانية والادب الملتزم، فقد احتوى العراق واقترن بالمربد ولكن المربد لم ينصفه لا في السابق ولا في دوراته الحالية بعد احتلال بغداد، وطالما المرحوم البردوني تحدث عن قصة هذا الشاعر والمربد تحدث عنه كشاعر وانسان، وكان لدى الخاقاني شعور بعقوق الولد حول المربد، هكذا شبه المربد وابدى المه من ابتعاد المربد الى بغداد وتلاعب الرأي السياسي فيه وعندما قابلته في اخر زيارة لي الى المربد بمعية المرحوم البردوني، وهو يضيفنا في منزله بالمعقل البصرة، وكان دوما يضع سيارته في خدمتنا، ابدى هذا الشجن ووصفه على شكل ابيات. كان المربد بعيدا عنه واعترف أنني استوطن الأطلال الان، وروحه التواقة للعراق والعرب تشعر بها وقد نادت وسط اكتظاظ شوارع البصرة بالاداب والشعراء والحضارات والتراث ولكن ايضا هذه العافية محمومة بمرض السياسيين لقصر الرؤية في فهم امثال ضياء الدين الخاقاني ودور المثقف، وكأنه حسب ما نسمع مازال هذا الداء مستمرا وهو داء يطول الشفاء منه في وسط الثقافة ليأتي من يلغي تاريخا باكمله بالغاء الدورات خشية من التقييم والتكريم للرواد وجهل بالنقد لمرحلة، وربما في النفس للحالَيْن من المسؤولين والسياسيين ولا اقل الادباء والكتاب توق لتكرار اخطاء الماضين، بل نعوذ بالله ان يستمر هذا الداء ولتتمرض النفوس الى درجة الغاء الاخر وهذا المرض من ابتلاءات امتنا بشكل عام والعراق بشكل خاص. في قصائد الخاقاني المعنونة:
(جئتك يا عرب وقصيدة أرسلت لأمة ماتت تحت الرماد، وقصيدة رسالة عراقية).
قال الخاقاني في كل ذلك انها: من أجل العراق والرب ومن أجل الإنسان أنظم الشعر واناضل.
كانت الرسائل بين الاديبين البردوني والخاقاني رحمهم الله متواصلة اما عن طريق شخص او عبر الهاتف وبين فترة واخرى كأنه الخاقاني يدخل في مرحلة اعتكاف ربما تطول اكثر من سنة، وكان قد ارسل في بداية التسعينات قصيدة تأوه بها في مقدمتها من انه لم يستطع ان يلقيها في المربد واضاف ربما انتم تعرفون السبب ولا اريد ان افصل، وكانت القصيدة : (اما يحتويني اِمام؟ وارفق معها قصيدة وجدانية تفصل وتشرح الحصار المشؤوم على العراق : (جوع وعشق ووطن).
وكان المرحوم البردوني يتحسر ويقول عجيب ان يكون اخينا الى هذه الدرجة حائرا. وبمبادرة من المرحوم العزيز البردوني اقيمت ندوة تكريمية للخاقاني في صنعاء رغم صحة البردوني المتدهورة في منتصف التسعينات، حضرها لفيف من الادباء والشخصيات ممثلين لاحزاب وحركات مختلفة وحشد من الناس ومنها مؤسسة الانساب التي ارجعت نسب الخاقاني الى حمير السبأية، والتى اقترحت دعوة الخاقاني ومنحه الجنسية والجواز الدبلوماسي اليمنيين. وقد تحدث عنه البردوني بعبارات الاجلال :
ان ضياء الدين الخاقاني هو عبارة عن سؤال كبير للادباء، وهو دائما يختار المواضيع التي تجعل القارئ يفكر في فلسفة الكاتب، وهو ايضا بأسلوبه يعتبر ترجمة عتاب صريحة وواضحة للعراق والعالم العربي كرجل حر طليق ومفكر قدير، وهو يعتبر نفسه متطلعا دائما إلى الارتقاء بالعالم العربي والإنسان العربي ككل، لأن الحالة العربية من سيئ إلى أسوأ، لذلك فإن قضية مثل فلسطين والاحواز والعراق عبارة عن عتاب للعالم الذي احتواه معه في الحل والترحال وهو يحمل معه عادات امة وتقاليد حضارة ويتمسك بعقيدة ومدافعا عن مذهب هو اهل البيت، بل أفتخر بكل ذلك كما أنه من خلال وطنيته المفرطة حاول نفض غبار الأحزان والآهات والأمور السلبية، حتى تتاح فرصة جديدة للإنسان العربي ليفكر ويحاول أن يرتقي أكثر، ويبدع وهذا ما اراده من المربد الذي ابقاه عصيا على السياسيين سهلا على المثقفين والأدباء من امثالنا وامثال نزار قباني وغيرهم من المبدعين العرب والاعاجم.

واضاف الاستاذ قاسم سلامة... : الاحظ أنه رغم الصعوبات المانعة في كل حياته فإن له اهتمام ورؤية إنسانية واسعة، في سر عظيم، فاستاذنا الخاقاني كأي انسان يقاس بعطائه وأفكاره وشخصيته متميزا بنظرة شاملة وليس له حدود في التفكير، ومن الممكن أن يتحدث عن اي مواطن عربي او غير عربي، فهو في هذه السيرة كاتب الإنسان العربي بحق بصريح العبارة سواء كان رجلا أو مرأة أو طفلا، وهو مظلوم من مظاليم الثقافة.
واضاف الدكتور محمد عبدو الذي عايش الخاقاني نوعا ما في العراق عندما كان طالبا في جامعة بغداد يستكمل اختصاصه في الاقتصاد، موضحا تاريخا كبيرا لأستاذنا الخاقاني في اليمن واشرافه على بعض المشاريع الاقتصادية بتوجيه من الدولة ودعم العراق وبالأخص الاشراف على المصفى النفطي في كل من عدن وصنعاء قبل وحدة الشطرين، وبناء ميناء كبير في فترة السبعينات: ان ضياء الدين الخاقاني خلاصة ما نعرفه عن الاخلاق والتضحية وهكذا هو نفسه الخاقاني يقرأ لنا ما كتبه في سيرته، سيرة تجمع المقرؤ والانسان ولا يمكن فصل الأمرين عن بعضهما المنجز فضلا عن رومانسيته الخلابة سلوكا ومنجزا. واستمرت الندوة باطروحات نقدية لشعره ومحاضراته وبحوثه من قبل الاصدقاء والمختصين.
في ظل العزلة التي عرفنا انه عاشها الخاقاني في سنواته الأخيرة وانا اتلقى بالم استشهاده في النجف المقدسة في مايس من عام 2008 مهمشا معتكفا على احزانه وان كنت واثقة انه لم يكن يبالي لانه يعرف نفسه كاخيه وصديقه البردوني رحمهما الله مع فارق ان البردوني كرم في بلده، والاولى كما عرفنا من العراق ان يتم التكريم كصفة عراقي، وفي خضم صراع الكتاب والسياسيين الذين يتطلعون إلى مجرد الأعتراف بهم بحيازة لقب ما، خلافا له فأنه حمل لقب الشيخ وهو موروث عائلي وديني باستحقاق لهذه العائلة التى تميزت عن غيرها من اِنها اسست للعلم والمحبة والانسان في الوقت الذي اسست مع الاسف عوائل اخرى لا تقل اهمية وبحجة المعارضة للحكم او رغبة بالسلطة الى تشريع سفك الدم والتطرف الفكري ومنهج التحزب غير بناء، والى جانب هذا اللقب حصل استاذنا على لقب الشاعر والاديب بجدارة ايضا. ويروي المرحوم البردوني عن ايام اِلقاء قصيدته وهو يعارض بها ابا تمام في الموصل وكان معه ان ذاك في بداية السبعينات صديقه ضياء الدين الخاقاني وهو مسرور بنجاح مقترحه باِنطلاق المربد عام 1969، فقد حدثت حادثة لاديب عراقي؟؟؟ اراد النيل من الخاقاني بقوله الى البردوني عليك ان تبتعد عن الخاقاني فانه يجبرك بمدح الحزب والدولة ولم يتردد البردوني في انه لعب لعبة ذكية بطرح الموضوع على ضياء الدين الخاقاني من ان هناك من يجبره بمدح الدولة والرئيس البكر والحزب والثورة، واذا بالخاقاني يثور ودون ان يعطي فرصة للبردوني بالتوضيح اتصل بالشاعر شفيق الكمالي وزير الثقافة انذاك وهو يتكلم بلهجة عصبية، ما هذا الكلام تريدون ان تحولوا المهرجانات الى تجارة، واذا بشفيق الكمالي بعد هذه المكالمة يأتي ليصطحبنا سوية في ساعة متاخرة من الليل للقاء الرئيس العراقي انذاك البكر ليؤكد بنص العبارة ان الشيخ الخاقاني نبهنا على ملاحظة مهمة بالفعل ان العراق عراقكم ولا نرغب بالمتاجرة بالألفاظ دون قناعة. وبعد ان خرجنا وبعد ان القى البردوني قصيدته المعارضة لابي تمام في الموصل اصطحبنا ايضا شفيق الكمالي وبعد ان شعرنا انه يحاول استرضاء ضياء الدين الخاقاني الى مكان لم يصفح عنه بالبداية واذا في البوابة البسيطة رأينا الرئيس صدام حسين في استقبالنا والذي كان انذاك نائبا لرئيس الجمهورية، وما ان رحب بنا التفت الى ضياء الدين الخاقاني مردفا بعبارة هل ارضاك هذا ام لم يرضك وادار وجهه الى البردوني قائلا لا نتحمل زعل وعتب رجل اصيل وابن ناس حقيقي مثل ضياء الدين الخاقاني، واكد فيما بعد تقريبا نفس كلام الرئيس البكر وبعبارة اننا لا نريد خلق عبادة اصنام جديدة في العالم العربي جئنا لنحرر العرب والعالم واتمنى ان يفصح اديبنا البردوني عن الشخص الذي قال له هذه العبارة، فطلب منه البردوني ان يجيزه بعدم كشف الاسم، كما انه لم يكشف الاسم لصديقه الخاقاني رغم الحاح الاخير ولكن الغريب كما قال لي البردوني انه كان الخاقاني يشخص من بين الاسماء الشخص الذي كان يقصده ولكن كان البردوني ينفي من اجل المصلحة. ويحتفظ البردوني بعبارات لأستاذنا الاديب الخاقاني ومنها قال عنها انها مقدمة افتتاحية للمرابد الاولى في السبعينات في البصرة الجميلة حيث لم اكن معه انذاك، ويقول فيها الخاقاني: انا حلمي... أن كل عراقي وكل عربي يلقب شاعر الإنسانية أو كاتب الإنسانية فضلا عن قضايا وطنية ومركزية فلسطين سياسيا وادبيا والعراق يحاول جاهدا الوصول الى هذا الهدف وتكريسه، فاللقب الذي يكتسب بالعطاء والجهد والتعب ومن محبة الناس له أثر عميق في النفس ومختلف عن اللقب الموروث الذي لم يبذل فيه جهدا، فنحن لم نختر أن نولد في أي بلد انها حكمة الرب ان نكون بهذا الوصف.... إن الكتابة وجع ويقال أيضا إننا قبل إصدار اي انجاز نعتكفت ولم نخرج الى العالم حتى ولو كنا بينهم نأكل ونشرب...هناك مخاض نعيشيه وطقوس معينة نقوم بها قبل ذلك، ومن هذه الاعراف ان نعيش الام الوطن وقضايا الامة وادراك العقيدة وكيفية الدفاع عن ذلك ولو بكلمة نؤمن بها... طبعا، لكل كاتب طقوس معينة، مساحاته واسعة دون قيود على صنف معين، المهم ان يكون الواحد منا حرا في ابداعه ان كان نثرا او مقفى او قصة ومقالا هكذا يكون المه ابداعا، دائما يراودنا الإلهام وتحركنا مواقف إنسانية وشخصيات إنسانية ومواقف نصادفها في حياتنا اليومية، والكتابة هي شغل الشاغل... علينا نسعى لتشجيع الجيل الجديد على العودة للقراءة، فالقراءة هي كنز لا يمكن تحاشي أهميتها وهي امتداد للتاريخ الإنساني، لذلك يحب أن يكون كل واحد منا نموذجا يحتذى به ويساعد أي شخص مبدع وموهوب، وان نجعل هذا الجيل الذي يسكنه خوف من أن يقرأه الناس من خلال كتاباته التي يمكن أن تترجم في بعض الأحيان أحداثا عاشها. لذك أحب أن يكون العراق وهذه الامة المكرمة بالرسالات وأي شخص منا نموذجا حتى نساعد هذا الجيل وعلى أن يرتقي بمواهبه ويصعد معها.

وهناك قصيدة يحتفظ بها البردوني في ارشيفه عندما كان الخاقاني يفتتح المربد في البصرة كمشرف وهو فرحا لان المربد كان مشروعه الذي حصل على موافقاته لانطلاقه:
بعنوان (همسات بصرية لشعراء المربد):
خذوا من عيوني لغة عربية... وصوغوا ابتسام الثغر حقلا وجدولا
اقيموا ضلوعي من حنايا كثيرة... ولموا زغاريدي زبيرا ومعقلا
وحلوا ضيوفا في فؤادي فانه... اعاد خصيب الوجه ما كان اجملا
اليكم يميني حرة ما تلوثت... ولا نال خديَّ الغزاة مقبلا
هلموا اخلقوا رملي حروفا وانهرا... وهزوا جذوع النخل راحا ومشعلا
اعيدوا اليَّ الروح التي قد عشقتها... منابع للنعمى كما كنت اولا
انا الثورة البيضاء لم تبن صبحها... اذا لم تعالي الليل افقا مكبلا

وقد وجدت تعليقا لنزار قباني على حديث الخاقاني قد سجله البردوني، حيث يقول نزار قباني: الم اقل لكم ان ضياء الدين الخاقاني ينطق بوحي سماوي ملائكي انه ملاك الشعر وليس شيطانه.
وهناك تعليق للجواهري شاعر العرب الكبير : دعو ضياء الدين الخاقاني، ففيه الام المحمرة وعنفوان العراق وفطرة النجف وعزة نفس اور وحضارتها وعنف الناصرية ولكن ينقصه امر مهم انه يقاوم موهبته من ان يكون شاعرا ولا اعرف ماذا يريد في الوقت الذي يتقاتل الناس على هذه الصفة.
وتعليق الشاعر الرقيق مصطفى جمال الدين: انا وضياء الدين الخاقاني التقت اخوتنا في كل شيء في العقيدة وفي الادب وفي الحياة والوطن والعراق والعربية وان كنت اكبر منه فقد التقينا باساتذة هم انفسهم لكلينا.
وقد عشت شخصيا وانا بمعية البردوني في الثمانينات واعتقد في مهرجان شعر الامة العالمي في بغداد عام 1985 حوارا بين نزار قباني وعبد الرزاق عبد الواحد ودكتورة سعاد الصباح وكان الحديث: ان مثل هذه المهرجانات جيدة ولكن على القائمين عليها ان لايقصدوا اغتيال المربد.

ودار الحديث عن ضياء الدين الخاقاني فقال حميد سعيد: انه مشغول بقضية الاحواز، وقال عبد الرزاق عبد الواحد: انه معتكف ولا يعرف السبب، وقال اخرون مثل هذه الاقوال فعبر نزار قباني: عليكم ان لاتحرمونا من امثال ادب الخاقاني، وعقب البردوني: ان مثل ضياء الخاقاني اخينا نكهة الريحان في البادية، واضافت سعاد الصباح: اجد قصورا في عدم تواجد ضياء الخاقاني لانه عنوان التجدد للثقافة العراقية ومن رواد مهرجان مثل المربد وهذا الاغفال مؤذي لمسيرة الادب العربي ووجدت من يحترمه في الخليج.

وهناك تعليقات اخرين، وقد ردد البردوني احدى قصائد الخاقاني الاولى في الايام التأسيسية للمربد في البصرة وما ان عدنا الى اليمن كتبتها وحفظتها في ارشيف البردوني:
القصيدة بعنوان (الى واحة المربد)
فتحت الباب
قلت.. اسامر الاضياف والاجناب
لم ابخل بالف بويب
يطلع من شبابيك ابنة الجلبي
قلت ازف الف حبيبة لكم
تبرعم رملة الاعتاب
تمسح من عيونكم دموع الحزن
تزرع في قلوبكم رؤى السياب
فتحت الباب
احمل في جيوبي دولة الماضين
اجمع كلما نثروه في دربي
اقدمه لكم كاسا من الرطب
ليسكر مارد الادب
فتحت الباب
جسم حبيبتي الحسناء في الامواج
تقذفه اعاصير الرياح
وفي يميني وردة حمراء
تأمل ان يعيد الشط
الف حبيبة حسناء
تأمل منكم ان لا تكونوا ابخل البخلاء
فاستمعوا وقولوا واكتبوا الاسرار
والاخبار
واحتفلوا بأن حبيبتي الحسناء
عادت بعد طول غياب
فتحت الباب
قلت، صرخت، لم اشتم
ولكن سكبت مدينتي في الكأس
قلت، ليشرب الاحباب
قلت، ليطرب الاجناب

وتكلم اخرون واخرون وطال الحديث وكان جله عن ضياء الدين الخاقاني الذي قرأت له الاشعار والبحوث ولكني لم اقرأ له كتاب او ديوان وهذا ما ادهشني وكان يدهش البردوني وحاول بكل جهده ان ترى مؤلفات الخاقاني النور في اليمن ولكن لا اعرف السبب الحقيقي من كل هذا التهميش في بلده سابقا ولاحقا.
فقبل اكثر من عشر سنوات سافرنا إلى روسيا وأجرى الاستاذ الراحل البردوني فحوصات عديدة أثبتت ان به 27 نوعا من الامراض، بينها ضغط الدم والسكر والربو والأملاح، والقلب، وكان يتناول العلاج لكل هذه الأمراض بانتظام، وكان العلاج يأتي أحيانا متضاربا مع مرض لآخر، وقد تحمل كل هذه الأمراض والعقاقير، وكان يعتمد عليها وكان إلى جانب تناولها يبدع في الكتابة وفي الشعر والأدب، لتأتي قصيدة ضياء الدين الخاقاني الرائعة مواسيا له ومخاطبا هذه الامراض بعنوان:
(فنحن داء لها مهما تكاثرها... بين العناوين امراضا ومضطربا)..
وكان البردوني سببا لمنح الرئيس عبد الله صالح وسام الوحدة الى الخاقاني بسبب خدماته قبل الوحدة لكلا اليمنين في جانب الموانيء والمصافي التي كانت بدعم العراق في السبعينات قبل الوحدة اليمنية، فضلا عن انجازاته الادبية ومحاضراته انذاك في منتديات اليمن وجامعاتها وكان قد حصل على تكريم مؤسسات يمنية كثيرة، وكان البردوني يحمل فكرة الرئيس عبد الصالح الى الخاقاني في اخر مربد حضره وكنت معه بان ينتقل الى اليمن ويكون مستشارا للرئيس اليمني وان كان هناك اشكالات من الدولة العراقية يمكن حلها بين رؤساء البلدين، علما بأن الخاقاني كان قد كرم سابقا من مسؤلي الشطرين قبل الوحدة، ولكن لا اعرف لماذا انتهى الموضوع دون نتيجة واغلب العاملين كانوا يرغبون بتقديم خدمة لضياء الدين الخاقاني وبما انه عصفت الامراض بالبردوني فقد كان ذلك ايضا مانعا لتنفيذ الموضوع. وكان البردوني معتزا بقصيدة المرحوم ضياء الدين الخاقاني حول الشريف الرضي الكبير وهي بعنوان: (لو عاد الشريف ثانية) وكان الخاقاني قد قراها في مهرجانات عدة منها اتحاد ادباء العرب وايضا مهرجان الرضي وهذه القصيدة وجدتها معروفة في اكثر من بلد عربي ومنها الوسط الادبي في القاهرة:
أعده فالليلة الظلماء ترصده... فجرا يفيق على احلامنا غده
أعده فالشمس تحيا في قرارته... كالروح تسعد دنياه وتسعده
عاش الضحى ما استظاف الليل مقلته... ولا نغشاه حتى حين يرقده
ولا تسله عن الماضي فقد حملت... عيناه كل الذي تهوى وتنشدة
فلن نغادر ماضينا لتدرسه... شتى الميول ولكنا نجدده
اعده ان كنت ممن ينتمون له... ياشعر قد مل هذا الفن ينقده
اعده في روح هذا العصر ملحمتن... تشدو ماانبت من اوتارها يده
يا شعر هاتيك دنياه اذا انبعثت... يوما فذلك رغم الموت مولده
تغنَّ يا شعر رغم القيد أغنية... بالعبقري تناسى ما يقيده
بالشاعر الحرِّ اقسى ما يراوده... ان لا تجرد بما يهواه خرَّده
قل فيه ما شئت الا ما يروعه... من الهواجس نماهنَّ حسده
عن الرضي سقى الايمان عزته... قاعا تفجر بالينبوع جلمده
فعاش حرية غنت بلابلها... فجرالزمان و مازالت تغرده
يبكي الحسين ويستعلي خلافته... ارثا تألق في عينيه سؤدده
في حين يسقى اب اسحان من فمه... كأس الحياة ويأسى حينن يلحده
ادى الصلاة وعند الصبح سارقه... لكل ناعسة الطرفين موعده
فللحجاز انفتاح من قلائده... تطل غيداؤه منها واغيده
وللعقيدة الواح يلوح بها... فم الكتاب ويجلوها محمده
عاش العبادة طورا فهو رائدها... وكان للفن اطوارا تمرده
فللدارين ازدحام في موائده... يحلو وان كثر الساعي تصيده
للشعر دولة خلاقين كأسهم... من الضحى يهب الاحلام صرخده
ليت الذين جفوها وهي منعمة... سعوا لها بجديد لا تفنده
وروضة الادب المعطاء يزرعها... افق يزين سواقيها يجدده
اليهٌ بالقوافي البيض ارقصها... لحن تقطع يستهويك اجوده
نحن البناة حريٌ ان يقلدنا... فيما بنيناه مَنْ صرنا نقلده
واننا حين نحيا ما استقام بنا... فأنما هو تاريخ نشيده
حقيقتا لست اخشاها على هدف... اسير فيه فعين الصبح ترصده
والصبر حلية موهوب يمزقها... اذا استكان مع البلوى تجلده
هو الرضي فلو عشناه معتقدا... لما استطال على الاسلام ملحده

وفي الايام الاخيرة من حياة المرحوم البردوني اعتكف عن السفر حيث كان دائماً يمثل اليمن في كل المحافل ولكنه لم ينقطع الصديقان من التواصل.. وقد نال الراحل البردوني جائزة العويس وهي مبلغ 100 الف دولار وقام بطباعة اربعة كتب وهذه الكتب كانت دعماً للمكتبة اليمنية ولكن قبل ذلك اتصل بالخاقاني وسأله هل هو بحاجة منها فكان الرد كما هي العادة الشكر والعرفان منه وانه مكتفي ذاتيا ولكني وجدت ان البردوني يهمس: انه بحاجة لها ولكنها اباة النفس العالية لديه. وكان كل ما تركه المرحوم البردوني من كتب وقصائد اخذتها الدولة اليمنية بحضوري وموافقتي ومنها المراسلات والقصائد المتبادلة مع صديقه ضياء الدين الخاقاني المهمة، لكي تحفظ من الضياع، اخذوا كل شيء الكتب والاعمال التي لم تطبع بعد حتى الصور التي أخذت لنا داخل البلاد وخارجها، ووعدني وزير الثقافة بالحفاظ على ما قدم البردوني وموروثه الثقافي والادبي بما في ذلك المنزل الذي كنا نسكن فيه والذي ربما يحولونه الى متحف.
ونتوقف عند الحادية عشرة من صباح يوم الاثنين 30/8/1999م ويوم رحيل رائد الكملة الشاعر والأديب والحبيب عبدالله البردوني لتصلنا قصيدة رثاء ضياء الدين الخاقاني عبر الفاكس:
(رحلنا كلانا ما استفاق بنا دهر... لعل لنا في ثاني مشيئته عمر)
وكأنه يرثي نفسه والمرحوم البردوني سوية....
ومرة اخرى فقبل خمسة وثلاثين عاماً، قام البردوني معارضاً بقصيدته بائية أبي تمام الشهيرة (السيف أصدق انباءًا من الكتب)، التي ذكرت رداً على ابوتمام التي قال قصيدتة في فتح عمورية، امام جمهور الشعر كما هو معروف عن العراقيين النجباء في موصل الحدباء العراقية ولكن عندما ناصف البردوني قصيدتة قام كل الحضور وصفقوا له تصفيقاُ حاراُ وطالبوه بأعادة القاء القصيدة مرة ثانية، وقد اعادها البردوني في أحد مهرجانات مربد العراق العظيم، ورغم أن القصيدة مكتوبة في سنة 1971م، الا أنها تنطبق على حالنا اليوم، وقد حاكاه بالمقابل معارضا لقصيدة ابي تمام ايضا ضياء الدين الخاقاني..
(ما اصدق السيف ان لم يصدأ السبب... واكذب السيف ان لم يعدل العرب)...
فمنذ أن كتب البردوني قصيدته وحتى اليوم والليل العربي يزداد ثِقَلاً واسوداداً، ليل طويل، كأن البردوني يكتب قصيدته اليوم.
واهديكم اياها هنا للاستذكار بالمناسبة.. (أبو تمام وعروبة اليوم):
ما أصدق السيف! إن لم ينضه الكذب وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب
بيض الصفائح أهدى حين تحملها أيد إذا غلبت يعلو بها الغلب
وأقبح النصر... نصر الأقوياء بلا فهم.. سوى فهم كم باعوا... وكم كسبوا
أدهى من الجهل علم يطمئن إلى أنصاف ناس طغوا بالعلم واغتصبوا
قالوا: هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً.. كما أكلوا الإنسان أو شربوا
ماذا جرى... يا أبا تمام تسألني؟ عفواً سأروي.. ولا تسأل.. وما السبب
يدمي السؤال حياءً حين نسأله كيف احتفت بالعدى حيفا أو النقب
من ذا يلبي؟ أما إصرار معتصم؟ كلا وأخزى من الأفشين ما صلبوا
اليوم عادت علوج الروم فاتحة وموطنُ العَرَبِ المسلوب والسلب
ماذا فعلنا؟ غضبنا كالرجال ولم نصدُق.. وقد صدق التنجيم والكتب
فأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا... وتحدى نارها الحطب
وقاتلت دوننا الأبواق صامدة أما الرجال فماتوا... ثَمّ أو هربوا
حكامنا إن تصدوا للحمى اقتحموا وإن تصدى له المستعمر انسحبوا
هم يفرشون لجيش الغزو أعينهم ويدعون وثوباً قبل أن يثبوا
الحاكمون وواشنطن حكومتهم واللامعون.. وما شعّوا ولا غربوا
القاتلون نبوغ الشعب ترضيةً للمعتدين وما أجدتهم القُرَب
لهم شموخ المثنى ظاهراً ولهم هوىً إلى بابك الخرمي ينتسب
ماذا ترى يا أبا تمام هل كذبت أحسابنا؟ أو تناسى عرقه الذهب؟
عروبة اليوم أخرى لا ينم على وجودها اسم ولا لون.ولا لقب
تسعون ألفاً لعمورية اتقدوا وللمنجم قالوا: إننا الشهب
قبل: انتظار قطاف الكرم ما انتظروا نضج العناقيد لكن قبلها التهبوا
واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا نضجاً وقد عصر الزيتون والعنب
تنسى الرؤوس العوالي نار نخوتها إذا امتطاها إلى أسياده الذئب
حبيب وافيت من صنعاء يحملني نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟ مليحة عاشقاها: السل والجرب
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن ولم يمت في حشاها العشق والطرب
كانت تراقب صبح البعث فانبعثت في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقب
لكنها رغم بخل الغيث ما برحت حبلى وفي بطنها قحطان أوكرب
وفي أسى مقلتيها يغتلي يمن ثان كحلم الصبا... ينأى ويقترب
حبيب تسأل عن حالي وكيف أنا؟ شبابة في شفاه الريح تنتحب
كانت بلادك رحلاً، ظهر ناجية أما بلادي فلا ظهر ولا غبب
أرعيت كل جديب لحم راحلة كانت رعته وماء الروض ينسكب
ورحت من سفر مضن إلى سفر أضنى لأن طريق الراحة التعب
لكن أنا راحل في غير ما سفر رحلي دمي... وطريقي الجمر والحطب
إذا امتطيت ركاباً للنوى فأنا في داخلي... أمتطي ناري واغترب
قبري ومأساة ميلادي على كتفي وحولي العدم المنفوخ والصخب
حبيب هذا صداك اليوم أنشده لكن لماذا ترى وجهي وتكتئب؟
ماذا؟ أتعجب من شيبي على صغري؟ إني ولدت عجوزاً.. كيف تعتجب؟
واليوم أذوي وطيش الفن يعزفني والأربعون على خدّي تلتهب
كذا إذا ابيض إيناع الحياة على وجه الأديب أضاء الفكر والأدب
وأنت من شبت قبل الأربعين على نار الحماسة تجلوها وتنتخب
وتجتدي كل لص مترف هبة وأنت تعطيه شعراً فوق ما يهب
شرّقت غرّبت من والٍ إلى ملكيحثك الفقر... أو يقتادك الطلب
طوفت حتى وصلت الموصل انطفأت فيك الأماني ولم يشبع لها أرب
لكن موت المجيد الفذ يبدأه ولادة من صباها ترضع الحقب
حبيب مازال في عينيك أسئلة تبدو... وتنسى حكاياها فتنتقب
وماتزال بحلقي ألف مبكيةٍ من رهبة البوح تستحيي وتضطرب
يكفيك أن عدانا أهدروا دمنا ونحن من دمنا نحسو ونحتلب
سحائب الغزو تشوينا وتحجبنا يوماً ستحبل من إرعادنا السحب؟
ألا ترى يا أبا تمام بارقنا إن السماء ترجى حين تحتجب

وكنت احس ان امثال هؤلاء قلة في هذا الزمن فالبردوني رحمه الله إنسان استطاع أن يعبر من خلال كلمة واحدة عن معان قد لا يستطيع الإنسان أن يعبر عنها في كلام كثير، فهو في جملة واحدة يلخص موقفا يمكن أن يكون في صفحات وكتب. والخاقاني رحمه الله انسان اخر استطاع ان يفاعل الوفاء بالادب فينتج ضياء الدين. وقد تابعت المربد بعد تغيير النظام فلم اجد ضياء الدين الخاقاني ولا هدير صوته ولا تلك الاسماء المبدعة ولا ذكر لتكريمها او الاحسان اليها، على رغم ما قيل ان مهرجان المربد بات حرا بعيدا عن شروط وفرضيات الدولة وهذا شيء جيد يحسب للتغيير ولكن لابد من التحرر من الانانية فقد كان المربد حرا رغم اشراف الدولة، كان حرا باسلوب وخلق وصدق امثال ضياء الدين الخاقاني وعبدالجبار البصري وشاعر الامة عبد الرزاق عبد الواحد كان لهم اسلوبهم بان يحرروا المربد من قيود الدولة، والدولة راضية وهذا هو الادب والابداع وفي نفس الوقت هي السياسة والتحرر في الذات لهؤلاء العباقرة قبل ان يكونوا ادباء او سياسيين. ولابد ان اقول كلمة اخيرة ان المربد لايخص العراقيين لوحدهم... وان العراق درة الامة ولابد ان يعي الجميع هذه الحقيقة فهو من مسؤلية الجميع ومبدعيه ابناء هذه الامة العظيمة لايمكن ان يحاصصوا او يتجزؤا هم رمز وحدته مهما كانت الاديان والقوميات
انتهى
في ذكراه السنوية 2009
شبكة البصرة
السبت 2 صفر 1437 / 14 تشرين الثاني 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق