مع إطلالة هذا العام، كثيرة هي الأحداث التي تستقطب الاهتمام بالنظر إلى مشهديتها السياسية المخيمة على الواقع العربي.
فمن مصر ودول المغرب العربي، التي دخلت مرحلة إعادة هيكلية حياتها السياسية، والتي قد تطول أو تقتصر تبعاً لدينامية مجتمعاتها.
إلى فلسطين، التائهة، بين تحديات استعادة الوحدة الوطنية، إلى تلك الناتجة عن الاحتلال وتداعياته،
إلى سوريا، التي تدخل أزمتها المتفجرة عامها الثالث، على وقع القتل والتدمير والتهجير، وتعثر إطلاق آلية تنفيذية لحل سياسي، يفتح الطريق أمام إنتاج نظام جديد، يأخذ بالديموقراطية ناظماً لحياتها السياسية ويحمي مكوناتها الوطنية أرضاً وشعباً ومؤسسات
إلى لبنان، الذي تتولى حكومته الحالية، أسوة بسابقاتها، إدارة أزمة، تفد اليها عناصر جديدة بفعل المعطى السوري، دون أن يؤدي ذلك إلى انفجار أمني وسياسي كبيرين، لا لرغبة عند الأطراف التي تدير الشق الداخلي من الأزمة محاذرة الإقدام على "دعسة ناقصة". بل ايضاً لأن الأطراف الخارجية المتماهية مع قوى الداخل تريد أن يبقى الوضع اللبناني منضبطاً تحت سقف التفاهمات والتي يبدو أن نصابها، لم يدخل بعد مرحلة الانكسار
وقبل أن نطل على مشهدية، بالغة الأهمية في الواقع العربي، هي تلك التي يعيشها العراق، نسجل وقفة سريعة، على السجالات السياسية المتمحورة حول قانون الانتخاب، مقدرين أنها لن تسفر عن نتائج حاسمة باتجاه التوافق على قانون انتخابي جديد، لسبب بسيط، متعلق بإعادة تشكيل السلطة على مستوى مؤسساتها الدستورية الثلاث، رئاسة ومجلساً وحكومة،
إننا نستطرد قليلاً في هذه المسألة، لنقول بأن إعادة تركيب السلطة على مستوى المفاصل الأساسية في هرمية النظام، لا تتم بإرادة داخلية منعزلة عن إرادة خارجية، ولهذا فإنه في هذا الوقت، التي يبدوفيها الوضع في سوريا، بأنه في مرحلته الرمادية، فإن الساحة اللبنانية ستبقى منضبطة على إيقاع سياسي يبقي الوضع تحت السيطرة، ولا يدفعه إلى الانفجار، ولهذا فأن كثرة الضجيج حول قانون الانتخاب، ليس إلا إلهاء لملء الفراغ في لحظة الانتظار لما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا، وفيه يصح قول
"ما أكثر الضجيج وما أقل الحجيج".
إن الأطراف الداخلية في لبنان، وخاصة الطرفين الأساسيين، الذي يؤدي كل منهما دور القاطرة السياسية للتمحورين الكبيرين، كان اجدى لها عدم الدخول في هذا السجال السياسي الحاد، لانها بذلك كانت اراحت البلد، وأراحت أعصاب الناس، وتفرغت لمواجهة أزمة النزوح الإنساني من سوريا لمساعدتهم في توفير إقامة كريمة بعيداً عن الاستغلال السياسي الانتخابي، سلباً وإيجاباً ولكانت تفرغت أكثر، لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية وكل ما له علاقة بالشأن المطلبي، والتفلت الأمني، الذي وأن بدا أنه ما زال تحت السيطرة، إلا أن تنقله بين منطقة وأخرى، بات عبئاً ضاغطاً على الأمن الحياتي للمواطنين.
من واقع لبنان نعود لنطل على سياقات التطورات التي تشهدها الساحات العربية حيث تتداخل
تأثيراتها مع بعضها البعض، انطلاقاً من تأثير تفاعلات المكون الوطني على المكون القومي الشامل وبالعكس لأن حال الساحات العربية هي كحال الأوعية المتصلة، استناداً إلى قاعدتين:
الأولى وحدة الجغرافية العربية، وان تعددت كياناتها القطرية، والثانية وحدة الاستهداف وان تعددت أطرافه ومواقعه..
من هنا، فإن ما يستهدف مكوناً وطنياً تحت عنوان تهديد وحدته الوطنية، لا يكون لذاته،وحسب وإنما من خلاله المكون القومي بكليته، وأي انتصار يتحقق تحت عنوان حماية المقومات الوطنية، يتجاوز تأثيره الإيجابي إلى معطى الواقع القومي برمته.
ضمن هذا السياق، تم احتلال فلسطين، والعدوان على العراق واحتلاله، والعدوان على لبنان واحتلاله أقسام منه، وضمن السياق المعاكس، يكون للفعل المقاوم ان في فلسطين او في لبنان او في العراق بعد قومي واضح في تأثيراته إذ عندما يحرر قطر عربي من الاحتلال الأجنبي، لا تنحصر مفاعيل التحرير في إطار التموضع المكاني، بل تمتد إلى المدى القومي الشامل، بتأثيرها النضالية والإيجابية. وهذا ما يدفعنا للتوقف عند المعطى العراقي، حيث تخيم على ساحة العراق مشهدية سياسية، تختلف بمنطلقاتها عن تلك التي تشهدها ساحات عربية أخرى.
فإذا كانت الجماهير العربية في أقطار عربية، نزلت إلى الساحات والميادين مطالبة بالتغيير تحت عناوين المسألة الديموقراطية، فإن جماهير العراق نزلت إلى الساحات والميادين تحت عناوين المسألة الوطنية،
ان الذي يميز الحراك الشعبي في العراق عن ذلك الذي شهدته وتشهده أقطار عربية أخرى، ان الشعب في العراق، ينطلق في حراكه من موقع إكمال مسيرة التحرير التي توجت مرحلتها الأولى باندحار القوات المحتلة، والتي كان الإعلان الرسمي عنها في 30/11/2011.
إن جماهير العراق التي أحييت الذكرى الأولى لتحرير العراق من الاحتلال الأميركي، والذكرى السادسة لاستشهاد قائد العراق الرئيس صدام حسين، تعتبر أن نصرها الاستراتيجي لا يتحقق بإسقاط الاحتلال العسكري وحسب بل يستكمل بإسقاط كل إفرازاته السياسية والتي يعبر عنها بالعملية السياسية.
ولهذا، فإن جماهير العراق التي نزلت إلى الشوارع والميادين حددت بوضوح ماذا تريد، أنها تريد إسقاط قانون "بريمر"، الذي شّرع تقويض ركائز الدولة العراقية وأطلق العنان لتفلت سياسي، تحكمت بسياقاته القوى الميلشيوية والمفتوحة شهيتها على نهب خيرات العراق، والمرتبطة بتوجهاتها وأدائها السياسي والأمني بالمحتل الأميركي، كقوة امر واقع أصيل، والمنتقل بعده إلى النظام الإيراني كبديل، حيث اندفع الاخير بقوة لأحكام هيمنته على العراق سياسياً واقتصادياً وأمنياً واجتماعياً، وضخ منظومة مفاهيمه إلى الحياة المجتمعية.
هذه التحديات التي تبلورت معالمها وأتضحت اتجاهاتها بعد الانسحاب الأميركي، شكلت عنصراً محفزاً للجماهير الشعبية، لأن تتحرك، لا لكي تعيد تصويت الأمور في أداء السلطة، وتحقيق بعض المطالب المطلبية، بل لتسقط ما تعتبره تهديداً، للعراق من زاوية، فرسنة قراره السياسي، وتطييف حياته السياسية، وإسقاط دوره كمكون أساسي من مكونات الأمة.
على هذا الأساس، فإن جماهير العراق التي نزلت إلى الشوارع، وطالبت بإعادة الأمور إلى مرحلة ما قبل الاحتلال، كانت رمزية دعوتها رفع العلم العراقي المرصع بنجومه الثلاث، واعتبار أن كل ما أفرزه الاحتلال من أشكال وصيغ شوهت وجه العراق وهددت وحدته الوطنية، يجب أن تزول مع زواله.
إن ما اكسب هذا الحراك أهمية خاصة، أنه اتخذ بعداً وطنياً، ان بالشعارات التي تظلله وحجم الانخراط الشعبي فيه، وان باتخاذه الطابع الوطني الشامل بعبوره للمناطق والطوائف، رغم عراقيل السلطة، وإجراءاتها التي قطعت أوصال المناطق والمحافظات.
استناداً إلى معطى استنهاض الشعور الوطني لدى جماهير العراق والتي تأبى استبدال احتلال أميركي بوصاية إيرانية، ومعطى شعور القاعدة العريضة من هذه الجماهير، بأن العراق مهدد بوحدته الوطنية، وبتماسك نسيجة الاجتماعي، ومعطى الزخم النضالي، الذي تولد عن شعوره بالنصر على المحتل الأميركي، انطلق هذا الحراك الشعبي ويستمر مزخماً وصولاً إلى إنجاز المرحلة الثانية من مراحل تنفيذ المشروع الوطني الاستراتيجي الذي حملته قوى الفعل المقاوم، والتي اعتبرت أن تحرير العراق سيبقى غير ناجز كلياً، ان لم تنجز المرحلة الثانية، وهي إعادة توحيده وتحصين وحدته الوطنية من كل محاولات الاختراق أو الاحتواء، وان إكمال مسيرة التحرير، بإنجاز التوحيد ببعديه الوطني والاجتماعي، هون الذي يمكن جماهير العراق من ممارسة حياتها السياسية على قاعدة الديموقراطية والتعددية، والتظلل بشعارات الوحدة الوطنية.
وعلى هذا الاساس، فإن إطار الفعل التحريري، الذي كان مفتوحاً لكل القوى والفعاليات التي انخرطت في ادائه، فإن إطار الفعل التحريري، يجب أن يسحب نفسه على الاطار التوحيدي كي يكون مفتوحاً لكل القوى في الداخل العراقي، والتي لا تريد للعراق أن يتجلبب بالرداء السياسي الإيراني، و تعمل لإقامة النظام الذي يلغي المحسوبية ويسقط الفساد، وينقل العراق من مصاف الدولة الفاشلة، إلى مصاف الدولة الفاعلة في إعادة بناء ما تهدم وإعادة تفعيل الدور القومي.
هذا الفعل التوحيدي، هو نقطة الارتكاز في تحديد اتجاهات الحراك الشعبي، وهذا الحراك كي يعطي للحد الأعلى من الفعالية، يجب أن يبقى مزخماً من ناحية، ومفتوحاً لاستقبال كل معطى إيجابي مساعد وداعم لوحده العراق وعروبته.
إن أهمية الانتفاضة الشعبية في العراق، إنها تستند إلى إنجاز التحرير، وانها تنطلق تحت عناوين المسألة الوطنية التي بدون استعادتها لا يمكن للمسألة الديموقراطية أن تأخذ مداها كناظم للحياة السياسية، وأهم من كل ذلك، انها توجه رسالة إلى الحراك الشعبي العربي الذي انطلق تحت عناوين المسألة الديموقراطية، بأن هذا الحراك لن يحقق اهداف التغيير الوطني الديمقراطي ان لم يبق محكوماً دائماً بالحرص على حماية الوحدة الوطنية
ان تأكيد الانتفاضة الشعبية في العراق على سلمية حراكها رغم القمع الذي تواجه به من اجهزة حكومة المالكي الامنية والعسكرية هي رسالة واضحة للمالكي ولمن يقف وراءه بأنه هو الذي سيتحمل مسؤولية معالجة ازمة وطنية وسياسية بنيوية بأسلوب الحل الامني واخراج الامور من نطاق التعبيرات الديمقراطية الى عسكرة الصراع تشبهاً بحالات اخرى يريد التماهي معها.
في ضوء اصرار الجماهير ان لا تراجع عن حراكها الوطني الديمقراطي والسلمي والشعبي الشامل نقول الى العراق الدر لرؤية مشهده السياسي الجديد والذي بإنتصاره في هذا الجولة النضالية الجديدة سترتسم معالم نظام عربي جديد كلمة الفصل فيه لقوى التي تحمل لواء التحرير والتوحيد والديمقراطية.
انبعاث العراق مجدداً انبعاث للامة..
|