ابحث عن فضولي
توجان فيصل (كاتبة أردنية)
ثورات الربيع العربي اختلطت بمطالب معيشية. وهي مطالب كانت تنكرها الأنظمة الحاكمة .. ثم بدأت تصر على وسم الثورات بأنها فقط معيشية .
ومع تصعيد الحِراكات بدأت الأنظمة تعترف بأحقية المطالب المعيشية دون المطالب التنظمية والتشريعية .. ثم وصل التنازل الرسمي للاعتراف بالحقوق التنظيمية والوعد بإصلاحات تشريعية، لشراء الوقت بأرخص الأسعار لإجهاض "المطالب السياسية" تحديدا.
وهذا التنازل لا يعني تحقيق إصلاح معيشي . فالحكومات يمكن أن ترفع الرواتب والأجور دون أن تمس مصالح المسؤولين الفاسدين، إذ تعود لترفع أسعار مادة إستراتيجية واحدة، فتنطلق موجة ارتفاع أسعار تعود بفوائد على كارتيل "الحكم والتجارة " بأضعاف كلفة التنازل الشكلي .. فيجري تدوير المعاناة المعيشية وليس علاجها. والحكومات تعتقد أن هذا ممكن للأبد .. لولا فئة مسيسة "تندس" بين المحرومين، والمالكين لكل شيء.
عينة من هؤلاء المندسين نجدها في المهندس الشاب رامي سحويل الذي اعتقل ضمن دزينة من زملائه السبت الفائت. بداية، رامي كان طفلا ذكيا مشاكسا ككل الأطفال حادّي الذكاء والفضول. عرفته كون أهله يملكون فيلا في الحي الذي أقطنه في منطقة تعتبر جزءا من غرب عمان الموسر. وذكاء الطفل رامي وثقافته وفضوله جعلاه يتنبه، وهو في سن لعب الكرة في الحي، لبرنامجي الانتخابي الذي نزلت به الانتخابات التي أجريت نتيجة انتفاضة نيسان 1989.
ولكن لصغر سن رامي، فإن طريقته في التعبير عن فضوله كانت باختلاق أحداث للاحتكاك بي، كأن يستوقفني عند مغادرتي كراج المنزل ليزعم أنني دست بسيارتي على كُرته..ما جعلني أناقش الطفل العجيب في حقيقة أن لا كرة مطاطية يمكن أن تداس بسيارة ولو طاردتها، فالكرة ستظل تتدحرج أمامها. وكان هذا النوع من الحوار المنطقي يعجب الطفل الذكي، فيعود إليّ بعد أيام بزعم آخر .. وحين شب الطفل ودخل الجامعة، طرق بابي بطلب دعمي لمشروعه الذي واظب عليه لسنوات بعد تخرجه، وهو تشكيل اتحاد للطلبة.
رامي شاب يساري مثقف ثقافة موسوعية، ومنفتح بصورة تمثل توْق الشباب العربي لصهر كل تياراته الفكرية في وحدة تحقق نهضة حديثة. وهو متدين بما يسقط مزاعم احتكار الإخوان للقواعد المتدينة. وهو وصحبه منفتحون على الليبرالية، التي يعلن كثير من اليساريين المتصلبين عداءهم لها ويخلطون بينها وبين النيوليبرالية والرأسمالية المتوحشة. وتصل درجة انفتاحهم أنهم يخوضون نقاشات مع أولئك المتصلبين لصالح ما يمكن أن تقدمه الليربالية.
ورامي شاعر أيضا، ومثله كتاب وشعراء عديدون في تلك المجموعة النشطة، ما يجعل المرء يتساءل من أين يأتون بالوقت الكافي. ولإيمان رامي بحقوق المرأة حصل على ماجستير في دراسات المرأة، فيما هو يعمل ويحب وينشأ بيت زوجية مع محبويته، ويواصل نشاطاته السياسية والثقافية.
ومن فضائل هؤلاء الشباب روحهم الجمعية وبعدهم عن "الأنا" والفئوية. ومرة لم أر رامي في مسيرة الجامع الحسيني التي أعد لها مطولا، لتفاجئني ابنتي بصورته في زاوية لقطة أخذت لمسيرة أصغر انطلقت في اليوم ذاته من مخيم البقعة، يقودها المناضل الذي فقد بصره نتيجة التعذيب في سجوننا، عدنان الأسمر .. فرامي حريص على البقاء قرب الأسمر ليكون عينه. وعلقت ابنتي على الصورة ضاحكة :"ابحث عن فضولي" . والعبارة هي عنوان زاوية تسلية في مجلة أطفال تتمثل في رسم مزدحم يخفي في ثناياه وجه " فضولي" المطلوب البحث عنه.
رامي من شباب ثورات الربيع العربي الذين ليست لهم شكاوى معيشية، ولكنهم اختاروا ان ينزلوا للشارع مطالبين بحقوق غيرهم المعيشية، وبحقوق أبعد يعرفون أنها ضمانة أن يعيش الجميع بكرامة وحرية .. مصنف كفضولي (حِشري) لدى الأمن والمخابرات ، يتدخل حتى حين لا يوقف هو، لصالح صديق يتم توقيفه بنقاشاته الهادئة المنطقية مع ضباط التحقيق، ما جعل هذا الفضولي يصنف باعتباره خطرا.. ولهذا تقرر في اعتصام أمام رئاسة الوزراء "لفضوليين" في عمان تدخلوا لإطلاق سراح معتقلي الطفيلة، أن تكون الأوامر الصادرة لرجال الأمن والدرك الضرب والسحل ابتداء دون إتاحة فرصة لحوار. حتى بعد الوصول للمخفر استمر الضرب كي يطغى على الكلمة التي بها كان بدء الخليقة.
وأودعت الأجساد الشابة المدماة سجن الموقر (1) ، والترقيم لازم لأن "الإصلاح" الوحيد الذي تجسد على الأرض، هو التوسع في فتح السجون باسم "مراكز إصلاح وتأهيل". وأحيل الشباب لمحكمة " أمن الدولة" التي لا مكان فيها لدفاع يقوم على حقائق وحقوق ومنطق ، بل أحكام جاهزة كوقع العصي والهراوات ..ولكن ..
برغم الدماء التي تعتريه
برغم السهام الدفينة فيه
يظل "الأسير " على ما به
أجلَّ وأعظمَ من "آسريه".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق