حكام الردة
عوني القلمجي
يجد الانسان نفسه عاجزا، إذا فكر في التعرض للحكام العرب، وانظمتهم العميلة للأجنبي، او لقممهم المشينة. فكثرة مساوئهم وشناعة جرائمهم وبشاعة افعالهم وقبح وجوههم، تشل العقل وتعقد اللسان. لكن ليس باليد حيلة. اذ لا يمكن السكوت عن موقفهم المخزي، تجاه العدوان الصهيوني الهمجي على شعب غزة.فعلى الرغم من مضي أكثر من شهرين، على القصف المتواصل على اهل غزة، لم تتحرك ضمائر هؤلاء الحكام، ولم يعيروا اهتماما لهدم المنازل والعمارات السكنية والمستشفيات والمدارس والجامعات، ولا حرمانهم من ابسط مقومات الحياة، كالماء والكهرباء والدواء والطعام. واقتصر موقفهم على تصريحات بائسة، واحتجاجات خجولة، مذيلة بعبارات معيبة، تحمل حركة حماس المسؤولية، لتبرئة جيش الاحتلال من تلك الجرائم الشنيعة. بل ذهب البعض منهم ابعد من ذلك، وقدم المساعدات لجيش الاحتلال، والبعض الاخر طالب سرا، رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو، القضاء على حماس بأسرع وقت ممكن، لتجنب غضب الناس ضدهم. اما الاجتماع الذي عقدوه في السعودية، بحضور عدد من الدول الإسلامية، فلم ينتج عنه سوى بيان، اقتصر على الإدانة والاستنكار والمطالبة بإدخال المساعدات. في حين يعتبر هذا البيان تافها قياسا، ببعض الدول في أمريكا اللاتينية، التي قطعت علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وأخرى طردت سفيره او قاطعت بضائعه.
لم تجد نفعا محاولات هؤلاء الاشرار لتغطية عورتهم، وتقيحات ضمائرهم وعقولهم. فالحديث عن جهودهم المكثفة لحل القضية الفلسطينية، واسترجاع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، عبر المفاوضات وليس عبر الحروب، او المقاومة المسلحة، قد افتضح امره واثبتت الوقائع زيفه. في حين أصبحت مبادراتهم لحل الدولتين، موضع سخرية واشمئزاز. ولم تكن شعاراتهم البديلة للمقاومة المسلحة، اقل سوءا من مبادراتهم. مثل التمسك بالمفاوضات كخيار استراتيجي، لأقناع الكيان الصهيوني بقبول القرارات الدولية، والانسحاب مما احتلته من اراضي فلسطينية وعربية، بعد الخامس من حزيران سنة 1967. حيث تخلوا عنها، وتسابقوا للاعتراف بهذا الكيان الغاصب، والتطبيع معه. بمعنى اخر، فان الشعب الفلسطيني لم يجن من هذه المبادرات والمفاوضات، غير ترسيخ الاحتلال، وفسح المجال للكيان الصهيوني، لتصفية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
اما قممهم العربية، فحدث ولا حرج. فحين يتوافدون لعقد قمة عربية، كأنهم الاسود الضارية، يدلون بالتصريحات والخطب النارية، حتى يتبادر الى الاذهان، بان العدو الصهيوني سيموت رعبا، او يحزم حقائبه استعدادا للرحيل. او في الأقل يخضع لمبادراتهم المعوجة. لكن سرعان ما تتبخر بيانات الاجتماع وقراراته قبل ان يجف حبرها. حتى أصبح الحديث عن عقد مؤتمر قمة عربية، موضع استهجان. في حين كان من المفترض اصدار بيانات مقنعة، للحفاظ على ماء وجهوهم، كما كان يفعله بعض الحكام الوطنيين في عقود سابقة. مثل قمة بيروت، التي عقدت في شهر تشرين الثاني / نوفمبر من عام 1956، ودعت في بيانها الختامي إلى مناصرة مصر ضد العدوان الثلاثي وسيادتها على قناة السويس، وتأييد نضال الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي. ثم قمة القاهرة عام 1964 حول قرار الكيان الصهيوني لتحويل مجرى نهر الأردن، او قمة الخرطوم التي عقدت بعد نكسة حزيران سنة 1967، وخرجت بلاءاتها الثلاثة الشهيرة، لا هدنة لا مفاوضات لا اعتراف بالكيان الصهيوني، او قمة بغداد الطارئة التي رفضت زيارة السادات للقدس المحتلة في سنة 1978، واعتبرتها خيانة وطنية وقومية، وطرد مصر من عضوية الجامعة العربية، ونقل مقرها الى تونس. ثم لاحقا اقامة جبهة الصمود والتصدي لمواجهة الكيان الصهيوني. وكذلك قمة بغداد عام 1990 والتي شهدت إعلان وحدة شطري اليمن الشمالي والجنوبي، بحضور الرئيسين، علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض.
تجدر الإشارة هنا، الى الشبهات التي حامت حول فكرة تأسيس الجامعة العربية، التي هي في الاصل فكرة اقترحها او اوحى بها، حسب العديد من المصادر الغربية والعربية، أنتوني ايدن وزير خارجية بريطانيا آنذاك، في الخطاب الذي القاه في 29 مايو 1941، الذي ذكر فيه "إن العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي تمت عقب الحرب العالمية الماضية، ويرجو كثير من مفكري العرب، درجة من درجات الوحدة أكبر مما تتمتع به الآن. وبريطانيا تشجع مثل هذه المساعي نحو هذا الهدف، بل ان حكومته، كما قال، سوف تبذل تأييدها التام لأيّة خطة تلقى موافقة عامة". وبعدها بسنتين تقريبا، أكد تمنياته الى ان قامت الجامعة، وعقد اول مؤتمر قمة عربية في مدينة انشاص في مصر عام 1946. هنا يكمن الدور المشبوه لهذه الجامعة العتيدة، الذي لا ينبغي التقليل من خطورته، او وصفها بالجثة الهامدة او غيرها من الاوصاف، بصرف النظر عن حسن النوايا.
ان ملف الحكام العرب شديد السواد. فصفحاته مليئة بالحقد والكراهية لكل حركة وطنية وحركة تحرر وطني وكل بلد عربي لا ترضى عنه الولايات المتحدة وحليفها الكيان الصهيوني. فعلى سبيل المثال لا الحصر ما فعله الحكام العرب ضد العراق. حيث عقدوا مؤتمر قمة عربي في القاهرة بعد دخول الجيش العراقي الى امارة الكويت عام 1990. وبدل من الخروج بحل سلمي للازمة، اتخذوا قرارا يسمح لأمريكا والدول المتحالفة معها، استخدام الأراضي السعودية، كقاعدة متقدمة لشن عدوان على العراق، تحت ذريعة تحرير امارة الكويت من الاحتلال العراقي. ولم يكتفوا بما فعلوا، وانما ساهموا مساهمة فعالة في الحصار الجائر على شعبه طيلة 13 عام، والذي راح ضحيته مليوني عراقي. ثم كرروا فعلتهم الشنعاء بمشاركة بعض الدول العربية وخاصة امارة الكويت والسعودية، باحتلال العراق سنة 2003 وتكريس هذا الاحتلال فيما بعد.
لقد أدركت الجماهير العربية وحركات التحرر، مدى خيانة هؤلاء الحكام العرب، او في أحسن الأحوال، أدركوا بان كل ما يهم هؤلاء الأشرار البقاء في السلطة وتوريثها لأولادهم واحفادهم. وان اية مراهنة على اسقاط هذه الأنظمة عبر مظاهرات سلمية او احتجاجات او اعتصامات، او اجبارها على تقديم تنازلات لشعوبهم هو ضرب من المستحيل. بينما من السهل عليهم بيع البلاد والعباد لأمريكا والكيان الصهيوني مقابل تامين حمايتهم، والقبول، إذا تطلب الامر، حذف آيات من القران الكريم، تدعو الى الجهاد او القتال من اجل الأرض والعرض والمال. او الآيات التي تفضح سلوك اليهود وخيانتهم لعهود الله وقتلهم للأنبياء. هذا الفهم الصحيح لطبيعة هؤلاء الخونة، زاد الجماهير العربية وعيا وايمانا، بضرورة لتخلي عن الشعارات المطلبية او تقديم الخدمات او دعوة الحكام للالتفات لمصالح شعوبهم، والعمل بدلا عنها لأسقاط هذه الأنظمة العميلة للأجنبي بكل الوسائل المتاحة.
ان تراجع حركة الجماهير العربية او حركات التحرر العربية، لإنجاز هذه المهمة، لا يعني نهايتها، او التخلي عن واجبها الوطني والقومي. خاصة وان الامة العربية تمر بإرهاصات ما قبل الانتفاضة الكبرى. فالحكام العرب يغوصون في الوحل حتى أخمص اقدامهم، ويشاركون دون حياء او خجل، في تنفيذ المخطط الامريكي الصهيوني الغادر، ضد الامة العربية عموما، وفلسطين خصوصا. في حين تزداد الفجوة بين هؤلاء الحكام الأشرار وشعوبهم، ويزداد السخط عليهم جراء ظلمهم وتعسفهم، واصرارهم على محاربة شعوبهم وقمعها بالحديد والنار، الى درجة تجاوزت كل قدرة على التحمل. ولا اجازف إذا قلت، ان هذا التراجع والسكون، هو الهدوء الذي يسبق العاصفة. وكما حدث وثارت الشعوب ضد أنظمتها قبل أكثر من عشر سنوات، واسقطت أربع رؤساء، فان الثورة القادمة ستسقط كل هؤلاء الحكام بقوة أكبر ووعي أعمق، وستتمكن من تجنب الثورة المضادة، التي نجحت أمريكا وحلفاؤها في افراغ ثورة الربيع العربي من محتواها، لتنتهي الى تدمير دول مثل سوريا وليبيا.
بمعنى أكثر وضوحا، فان الشارع العربي لا زال بخير، رغم تراجعه وسكونه، وان حركته سترتقي حتما الى المستوى المطلوب، وتنجز مهماتها النبيلة، وفي مقدمتها اسقاط هذه الأنظمة، وتحطيم كافة أجهزتها القمعية، لتحقيق مجتمع العدل والحرية والتقدم. وإذا اعتقد البعض بان الحكام العرب لن يقفوا مكتوفي الايدي، وسيقومون بإصلاحات متواضعة لتجنب الثورة التي باتت تطرق الأبواب، او حتى امتصاص نقمة الشارع العربي، وتغيير توجهه نحو أهدافه، فهو اما ساذج او غبي. فالجماهير تعي دائما مسؤولياتها وتدرك حجم الجهد الذي ينبغي تقديمه، وطبيعة الأهداف التي تسعى لتحقيقها، والاستعداد لتقديم التضحيات الجسام من اجلها.
الأهم من ذلك كله، فان عملية طوفان الأقصى، التي نفذها مئات من المقاومين الفلسطينيين، ضد جيش الاحتلال الصهيوني الذي يعد من الجيوش القوية في العالم، وجعلت منه موضع سخرية بالنسبة لعدد كبير من الخبراء العسكريين في العالم، قد قدمت لحركة الجماهير العربية، تجربة ميدانية لقدرة الشعوب الضعيفة، على تحقيق الانتصار ضد الدول المحتلة مهما بلغت من قوة. وهذا من شانه ان يكسر حاجز الخوف، الذي اشاعه الحكام الطغاة بين أوساط من الشعب العربي، وعزز قدرتهم على إبادة أي تحرك شعبي ضدها. الامر الذي عرقل الى حد كبير، جهود حركات التحرر لحشد الجماهير حولها، التي هي وقود الثورات الشعبية. ومن المؤسف ان عددا كبيرا من المثقفين الذين وقعوا ضحية لثقافة الهزيمة، قد ساهموا في تكريس الخوف لدى الناس. ناهيك عن دور الاعلام المعادي في هذا الخصوص، وقدرته على زرع مثل هذه المخاوف في عقول الناس.
اما الذين يعتقدون، بان المقاومة في غزة، قد هزمت بسبب الدمار والخراب الذي حل بها، فهو يرى الامر كما يبدو وليس كما يجري حقا. ففي الحروب بين الجيوش النظامية، يمكن حساب النصر والهزيمة على أساس الخسائر المادية والبشرية التي يتكبدها كل طرف. في حين يسقط مثل هذا الحساب، عندما تكون الحرب بين جيش نظامي ومقاومة شعبية مسلحة. حيث يقترن بها صفة الحرب طويلة الأمد، التي يتقدم فيها المقاوم تارة ويتراجع تارة أخرى. بل يمكن ان تتوقف المقاومة عن القتال فترة، لتعود أكثر قوة، ما دام المقاوم لم يلق سلاحه او يستسلم. والمقاوم في غزة لم ولن يلقي سلاحه، حتى إذا احتل جيش الكيان الصهيوني غزة بأكملها، وهجرتها غالبية سكانها. اذ يكفي بقاء مئات او الالاف من المقاتلين لمواصلة المقاومة ضد القوات الصهيونية على ارض غزة، كما قاتلت المقاومة العراقية في الفلوجة القوات الامريكية بعد احتلال العراق بأكمله، والحقت بها هزيمة نكراء، اعترف الامريكيون بها علنا. او مقاومة حركة طالبان للأمريكان في جبال تورو بورو، التي انتهت بهزيمة القوات الامريكية، على مرأى ومسمع من العالم كله، او مقاومة الشعب الفيتنامي للقوات الامريكية، او المقاومة الجزائرية ضد القوات الفرنسية، والامثلة كثيرة.
الشعوب الحية لن تهزم في نهاية المطاف، والشعب العربي من الشعوب الحية وسينتصر طال الزمن او قصر.
عوني القلمجي
14/12/2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق