المتأسلمون والخلافة الراشدة الثانية ـ صقر بن زايد بن صقر آل نهيان
المتأسلمون
كلمة مستجدة دخلت قاموس مفرداتنا مع الخريف العربي. سبكت الكلمة نتيجة
حالة وعي وإدراك لما استجد ويحدث على الساحة السياسية ببروز الاسلام
السياسي وتوظيفه الدين خدمة لأهدافه السياسية.
وسبك الكلمة من الايجابيات التي ولدت من رحم أحداث ميادين التحرير التي
أسقطت دكتاتوريات الجمهوريات العسكرية الاشتراكية التي تكلست في الشرق
الأوسط ستون عاما مضت، وإيجابية كلمة متأسلم أنها تحمل استهجان إنزال قدسية
الدين ومبادئه ومثله السامية وقيمه العالية ومعزته في نفوس عامة الناس قبل
خاصتها لمزالق السياسة وبخاصة للجوانب الدنيئة من السياسة في بعض الاحيان
إن لم نقل أكثرها!
إن نظرية الفصل بين الدين والدولة وممارستها ليست أوروبية كما يزعم
ويردد المتأسلمون على مسامعنا صباح مساء نتيجة جهلهم قراءة التاريخ
الاسلامي بلغة عصرنا الحاضر.
فالحقيقة التاريخية أن أكبر دولتين إسلاميتين هما الدولة الأموية
والدولة العباسية أقيمتا على الفصل بين الدين والدولة واللتان اتسعتا لكل
المذاهب والملل والنحل وما خرج من أو عن جادة الاسلام أو غيره من الديانات!
فقد كانتا الدولتان ملكيتين وراثيتين وإن تسمّتا بالخلافة؛ وحيث كان أئمة
الدين يمارسون همهم السامي والخالد بالتفقه في الدين والدعوة له فكان
الأئمة الأربعة: الإمام أبو حنيفة النعمان (80هـ/699م – 150هـ/767م)
والإمام مالك بن أنس (93هـ/715م – 179هـ/796م) والإمام محمد بن إدريس
الشافعي (150هـ/766م – 204هـ/820م والإمام أحمد بن حنبل (164هـ/780م ـ
241هـ/855م) رضي الله عنهم الذين لم ينازعوا السلاطين سلطانهم علما منهم
باستقلال دور الفقيه عن دور السلطان فكان عمران تلك الدول ورفعة شأنها.
أما من يدعون اليوم بأنهم بصدد إقامة الخلافة الراشدة الثانية فهذا من
شطط الخيال وضرب من المستحيل؛ فالخلافة الراشدة تحققت لظرف تاريخي لن يتكرر
وذلك بحضرة النبي، عليه الصلاة والسلام، والشعلة الايمانية الفريدة
لصحابته الذين ذكروا في القرآن الكريم: “وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ” (التوبة:100)، ولقلة الشعوب والأعراق
بالخلافة الراشدة مقارنة بما تلاها نتيجة انتشار الاسلام في مختلف أصقاع
المعمورة وتباين العادات والتقاليد واللغات بها واختلاف اقتصاداتها
وبيئاتها.
والادعاء بإقامة خلافة راشدة ثانية، كما يزعم الإخونجية، ليست إلا هرطقة
لا يقول بها سياسي ذو نظرة واقعية سياسية اقتصادية أو أي عاقل حصيف، فقد
ذهب الإخونجية مذهب الخوميني باقتدائهم به كما صرح بذلك القيادي الإخونجي
كمال هلباوي حينها في مؤتمر عام وعلى رؤوس الأشهاد في طهران جالسا ليسار
المرشد العام الإيراني على خامنائي ممثلا للجماعة الإخونجية.
فمن الممارسة الإسلامية لفصل الدين عن الدولة استلهم الغرب ممارسته التي
نرى اليوم، وسميت بالدولة المدنية الحديثة ملكية أم جمهورية؛ إذ إن أوروبا
حاربت الدولة الدينية وحاصرت سلطانها وقـَـصَرته بدولة الفاتيكان بوسط
روما على مساحة 0.44 كم مربع وبعدد سكان يقارب 800 نسمة، ولم تتبلور صيغة
الفاتيكان النهائية كما نرى اليوم إلا بمنتصف القرن المنصرم.
أما في شرقنا العربي الحديث فقد كان الرئيس الحبيب بورقيبة رائدا في
مناداته وعمله لإقامة الدولة المدنية العربية الحديثة بصيغة جمهورية، وهو
صاحب مذهب الواقعية السياسية بخصوصية كل شعب عربي والذي نادى بسياسة خذ
وطالب بالنسبة للحق الفلسطيني، فناصبته دكتاتوريات الجمهوريات الاشتراكية
العسكرية العداء برؤيتها أن ما أخذ بقوة السلاح لا يسترد إلا بقوة السلاح
ووصمته بالخيانة والعمالة للغرب.
وكما رأينا فقد تبنى عرفات حل المفاوضات وسياسة خذ وطالب، وتبنى شباب
ميادين التحرير “لا لحكم العسكر”، والمطالبة بإقامة الدولة المدنية الحديثة
بعد زوال حكم العساكر.
فالحبيب بورقيبة هذه الأيام غائب حاضر بحق وحقيقة كما هو حال جمال عبد
الناصر، وتأريخا للمرحلة التاريخية المهمة التي انقضت بعالمنا العربي يجب
أن يقام لهما نصب تذكاري يضمهما جالسين معا يقرآن كتابا من التاريخ، حيث لا
مجال للوقوف، بنسختين واحدة في قاهرة المعز والأخرى في العاصمة تونس!
سنتان مضتا على انهيارات دكتاتوريات الجمهوريات العسكرية وثورات ميادين
التحرير، إلا أن المتأسلمين اختطفوا السلطة من شباب ميادين التحرير ومن
جميع الاحزاب والرموز الوطنية والليبرالية والعلمانية لتشتتهم وعدم طرحهم
برنامج عمل وخطة اقتصادية سياسية اجتماعية جامعة، بينما المتأسلمون غطوا
قصورهم بالالتحاف بالدين وجمعا لأصوات الناخبين!
كل يوم يمر تكتشف الشعوب العربية واقعها السياسي ومدى تصحر الفكر
السياسي الذي أصاب المجتمعات التي حكمتها الدكتاتوريات العسكرية مقارنة
بالحياة السياسية التي سبقت الجمهوريات العسكرية فأصبحت ميادين التحرير
اليوم بشبابها ميادين تنوير فكر سياسي ليس للجماهير فقط بل للأحزاب والنخب
السياسية أيضا!
إن ما أودى بحكم العسكر غياب الفكر السياسي بعيد المدى، وما أودى
بانحسار شعبية المتأسلمين السريع المريع جهلهم وانعدام رؤيتهم لمتطلبات
الحكم في العصر الحديث، فكانت بتونس التظاهرات ضد حكم حزب النهضة
والمتأسلمين وما تلاه من انشقاقات لحزب النهضة الاخونجي، أما في مصر التي
أحدث الاخونجية بها أول صدع انشقاق لشعبها فقد آلت الأوضاع فيها لأول عصيان
مدني ضد حكم المرشد.
فبقدر وعينا لمفردة المتأسلمين ودلالتها الصحيحة ضمن لغتنا وسياق
تاريخنا وتاريخ العالم نستطيع أن نرى الضوء في نهاية النفق ونرى براعم
الربيع تبزغ في خريفنا العربي ليعم بنجلاديش والباكستان وأفغانستان ومالي
وإيران وإسرائيل أيضا!
من ليس له ماض ليس له حاضر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق