الأحزاب السياسية والسلطة في الوطن العربي
د. أحمد قايد الصايدي
انتشرت في الوطن العربي أحزاب سياسية بألوان مختلفة، قومية _ إسلامية _ ماركسية:
بعضها لم يصل إلى السلطة ولم يؤثر تأثيراً حقيقياً في الشارع العربي. فبقي مجرد ظاهرة صوتية، لم تلبث أن تلاشت، بعد أن انقسمت على نفسها وغير بعض قادتها خياراته أحياناً، من النقيض إلى النقيض.
وبعضها وصل إلى السلطة، بعد نضال طويل. ثم تلبسته السلطة ونسي كثيراً من أفكاره وتوجهاته ومواقفه السابقة، قبل أن يصبح حزباً حاكماً. ومع أنه أضحى حزباً حاكماً في نظر نفسه وفي نظر الناس، فإنه في واقع الأمر تحول إلى حزب محكوم، تحكمه السلطة التي تُمارَس باسمه. فتلاشى دوره، رغم بقاء شعاراته مرفوعة في الشوارع وفي المكاتب الرسمية وفي المناسبات (الثورية)، دون أن يكون له وجود فعلي أو تأثير ملموس على الحكم وسياساته وقراراته.
وبعضها صنعه الحكام أنفسهم، ليضفوا على حكمهم شكلياً طابع (الديمقراطية). فأنشأ كل منهم لنظامه حزباً، لحمته وسداه من رجال الأمن ومن الموظفين الرسميين المقربين من الحاكم، القادرين على خدمته. ولم يتجاوز هذا النوع من أحزاب السلطة في وظيفته وفي نشاطاته، لم يتجاوز المشاركة في إحياء المهرجانات العامة، ورفع صور الحاكم والهتاف باسمه والتصفيق له. كل هذا مع حظر الأحزاب الأخرى، وتجريم أي نشاط سياسي أو إعلامي خارج أطر السلطة وحزبها الأوحد.
ورغم هذه الأعراض المرضية التي أصابت الأحزاب السياسية العربية، فإنها ما تزال صيغة مطلوبة لإحداث تغيير حقيقي في الوطن العربي. شريطة أن تحدث تغييراً في قياداتها وفكرها وقيمها وممارساتها، وأن تمتلك هياكل تنظيمية متماسكة ومشاريع سياسية واضحة وحركية عالية في أوساط الجماهير وقدرة على التأثير على الشباب العربي وحشده وتنظيمه وتعبئته وتوجيه جهوده في عمل هادف منظم ناضج ومؤثر. وإضافة إلى ذلك، بل قبل ذلك كله، أن تحصن نفسها من الاختراقات الأمنية المدمرة، التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات المحلية والعالمية داخل الأحزاب وفي أوساط النخب السياسية والثقافية والإعلامية العربية.
وليس هناك بديل لدور الأحزاب السياسية المنظمة، المسلحة بالأخلاق والعلم، ذات الخيارات الوطنية الواضحة، والالتزام المبدئي تجاه شعبها وقضاياه العامة، وذات الفعل المؤثر في أوساط الجماهير، إلا إذا حلمنا، كما حلم الأحرار اليمنيون في سجون حجة، في عهد الإمام أحمد بن يحي حميد الدين، بدكتاتور وطني عادل، يمتلك مشروعاً وطنياً واضحاً وإخلاصاً لشعبه غير محدود (أنظر كتاب: من وراء الأسوار، لمحمد أحمد نعمان). ومن أين لنا أن نستورد دكتاتوراً من هذا النوع، على غرار (المستبد العادل) الذي سبق أن حلم به بعض المفكرين الأوربيين في عصر التنوير، وحلم به بعض المستنيرين العرب؟
فالحاكم العربي له تكوينه النفسي والعقلي الخاص، ومستواه العلمي المتواضع، وانتماؤه العشائري، الذي يمثل امتداداً لمجتمع ما قبل الدولة الحديثة. وله كذلك ارتباطه وولاؤه للقوى الخارجية، التي وضعته في سدة الحكم، خادماً لمصالحها، وتعهدت بحمايته من شعبه. فتراه، بجهله وبارتباطاته المختلفة، يدير ظهره لمصالح شعبه ولكل ما من شأنه أن يحقق نهضة شاملة لبلده. وهو بذلك لا يمكن أن يكون (الدكتاتور العادل) الذي حلم به بعض المستنيرين، ولا يمكن بمواصفاته هذه أن يكون عاملاً من عوامل النهوض والتقدم، بل عاملاً من عوامل التردي والتخلف.
ولذا لا بد من أن نراهن على أن تصحو الأحزاب العربية الحالية، لاسيما الأحزاب العريقة، ذات التاريخ النضالي الطويل، التي غاب فعلها وتأثيرها عن مسرح الأحداث في هذه المرحلة التاريخية الصعبة، لابد من أن نراهن على أن تصحو وتعيد تأهيل نفسها، قيادة وتنظيماً وفكراً وأخلاقاً وممارسة والتزاماً بقضايا الأمة، وأن تتخذ الفعل المقاوم خياراً لها في كل الجبهات، الثقافية والسياسية والعسكرية. وإذا خسرنا هذا الرهان، فلابد من العمل على إيجاد نماذج جديدة من الأحزاب، تتجاوز الأحزاب الحالية، وتحل محلها، وتملأ الفراغ الناجم عن غيابها عن الفعل المؤثر، في هذه المرحلة التاريخية الصعبة، التي تمر بها أمتنا العربية. فالتحديات كثيرة والمؤامرات كبيرة، ومواجهتها تتطلب أحزاباً صلبة وقيادات تاريخية، في مستوى هذه التحديات والمؤامرات. فالأعداء لا يرحمون، ولنا في أحداث غزة، بعد عملية (طوفان الأقصى) المجيدة، أبلغ مثال، يكشف لنا طبيعة أعدائنا ومدى توحشهم ولا إنسانيتهم، ويعلمنا أن أمة لا تقاوم شرورهم، لا تستحق الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق