أولا : تقديم :
نشرت صحيفة (سيليش زايتونغ) الألمانية يوم 5/1/2012 دراسة للمفكر الألماني الدكتور يورغن تودنهوفر عنوانها (لماذا تأخرت الثورات العربية 222 عاما عن الثورة الفرنسية). ولقيت هذه الدراسة صدى واسعا في المانيا لسببين أولهما المنزلة العالية للكاتب كمفكر جريء شديد النقد الموضوعي للسياسات العدوانية الغربية وشديد الإعجاب بالحضارة العربية والإسلامية، وثانيهما لإن الدراسة هذه لم تكن بحثا نظريا، بل خلاصة تجربة الكاتب خلال خمسين عاما قضاها متنقلا بين الدول العربية والإسلامية، وآخرها معايشته الثورات العربية عام 2011، فقد زار ليبيا مرارا خلال الصراع الدموي الأخير وكاد يفقد حياته عندما قصفت قوات الجيش الليبي سيارته في الطريق بين بنغازي والبريقة وقتل مرافقه الليبي، وكان في ميدان التحرير طيلة أيام الثورة وشارك الثوار المصريين إحتفالاتهم يوم تنحي مبارك في 11/2/2011، وهو الغربي الوحيد الذي زار درعا وحمص وحماة قبل أن تسمح سوريا بوصول وسائل الإعلام الغربية اليها.
إستنتاجات وخلاصات دراسة تودنهوفر عن الثورات العربية ذات قيمة فكرية كبيرة ومن المفيد إطلاع المثقفين العرب عليها من أجل تعميق النقاش الفكري العربي حول الثورات العربية ومستقبل النظام السياسي العربي ويسرني أن أقدم ترجمتها إلى اللغة العربية بعد أن أقدم لها بهذه السطور (الترجمة العربية للدراسة في آخر المقال).
ثانيا : إستعراض موجز لأهم خلاصات الدراسة :
1 –تعامل الغرب مع الثورات العربية إنطلاقا من مصالحه الإستعمارية، فهو لم يكن معنيا مطلقا بنشر الديمقراطية في العالم العربي لا في الفترة الإستعمارية ولا حاليا. يقول تودنهوفر (لم يكن نشرالحرية والمساواة والاخاء وإدخال الديمقراطية إلى الوطن العربي جزءا من أهداف الغرب المحتل، فبالنسبة للغرب الحرية لا تعني مطلقا " التحرر منّا "، وعندما إنتهت فترة الإستعمار الغربي المباشر للبلدان العربية تحوّل الغرب إلى دعم الملوك والحكام المستبدين العرب الذين كانوا مستعدين لتبني سياسات الغرب الخارجية مقابل حصولهم على السلاح والمال. ولغاية بداية عام 2011 ساعد الغرب بلا خجل الدكتاتوريات العربية على قمع شعوبها لا بل إستخدم الغرب الأجهزة الأمنية للأنظمة الدكتاتورية العربية كمراكز متقدمة له للتعذيب). ويضيف (بعد أن فوجئت الولايات المتحدة بأحداث تونس ومصر حاولت أن تجعل من الربيع العربي فرصتها التاريخية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق تصوراتها والهدف الأساسي للولايات المتحدة ليس الديمقراطية بل تعزيز وحماية مصالحها في شرق أوسط كبير موالٍِ لها).
2– يرى تودنهوفر أن ثورات (الربيع العربي) جارفة وستتواصل، فهي (تشبه المعجزة بقوتها وتأثيرها السحري) مضيفا (حتى لوإحتاج التغيير في العالم العربي الى عقود أو أكثر، كما حصل في أوربا، فإن زمن الملوك والسلاطين والحكام غير المنتخبين والحكام الذين يعينون أنفسهم وصل إلى نهاية مؤكدة ولم يعد لهم مكانا على المسرح السياسي الدولي). ويعتبر السبب الرئيس لهذا التحول نحو الديمقراطية هو أن (الديمقراطية هي أكثر أشكال الحكومات نجاحا في عصر الصناعة والإعلام الحالي) وأن (الهياكل الاستبدادية المتحجرة لعصر ما قبل الصناعة لا تستطيع مواجهة تحديات عالمنا الصناعي الحالي) مضيفا (إن الحكام الذين يفشلون في إدراك ديناميكية السلوك الجمعي للثورة الديمقراطية في الوقت الصحيح، مثل قادة تونس ومصر، يكون رد فعلهم بطيئا وبذلك يفقدون فرصتهم وتقوم القوة الجارفة للجماهير الثائرة بإزالتهم). وحذّر تودنهوفر بقية الحكام العرب ممن لم تصلهم رياح الثورة بقوله (إن حكاما، كملك المغرب وملك الاردن، من الذين يحاولون منع حدوث الاصطدام من خلال تنازلات ذكية لربما يكسبون وقت نجاة ثمين، ولكن حتى بالنسبة لهم إذا لم يواجهوا إستحقاق الانتخابات الحرة وإذا لم يقبلوا بتحديد سلطاتهم مثلما يحصل في الملكيات الدستورية، فعند ذلك سوف تقوم الثورات الديمقراطية ذات الجاذبية السحرية- الصوفية بإزالتهم).
3– يعتبر تودنهوفر أن الربيع العربي فضح زور إستخدام الغرب لشعار(الإرهاب الإسلامي) لتبرير دعمه للأنظمة الإستبدادية في الوطن العربي، إذ يقول (لسنين طويلة صوّر إعلامنا المجموعات الإرهابية المتطرفة المتكاثرة، كالقاعدة، على أنها الخصم الخطير للحكام المستبدين في الدول العربية، والهدف من ذلك هو شرعنة دعمنا لهذه الأنظمة). وأضاف (الثورة لم تكن ضد الحكام المستبدين فحسب بل وأيضا ضد الإرهابيين الذين تجاسروا وتحدثوا بإسم العالم الإسلامي، وهي بالنتيجة ثورة ضد الصورة المشوهة التي صنعها الغرب بعناية عن بعبع سمّاه الإسلام).
4– أفرد تودنهوفر فقرة عن دور الإعلام في الثورات العربية، وبدأ بإقرار حقيقة أنه (جرى تسريع دوران عجلة الثورات وإمتداد تأثيرها بشكل هائل من قبل الإعلام الحديث). ووصف دور قناتي الجزيرة والعربية بالآتي (تعمل هاتان القناتان العربيتان سوية مع بعض الشبكات الإخبارية الغربية لصب الزيت على النار، فهي تضخّم الثورة وتعطيها حجما أكبر واقوى من حجمها الحقيقي). ويضيف عن سبب تبني الجزيرة للثورات العربية بالقول (قناتا الجزيرة و العربية هما الموجهتان الرئيسيتان للمليونيات العربية. أمير قطر هو الموجّه لقناة الجزيرة ثمّ تحوّل إلى أكبر مزود للثورات العربية بالأسلحة. لم تعد الجزيرة و العربية قنوات إخبارية ولكن محركاً ويداً ضاربة للثورات طالما أن هذه الثورات ليست موجهة ضد المشايخ في الخليج أو ضد السعودية. قطر هي في المقام الاول قاعدة أمريكية جيوستراتيجية وفي المقام الثاني هي دولة عربية صغيرة تعدادها عدة مئات من الألاف من السكان).
ثم يتحدث عن التقارير الكاذبة التي بثتها الجزيرة والعربية وتحقق بنفسه من كذبها حيث يقول (خلال الأسابيع الأربعة التي قضيتها في سوريا في شهري يونيو/حزيران ونوفمبر/تشرين الثاني 2011 كنت شاهدا على الكثير من التقارير الكاذبة التي لو أردت تدوينها لملأت صفحات كتاب). ويسرد في دراسته الكثير من تلك التقارير التي تأكّد بنفسه أنها ملفقة.
5– يستعرض تودنهوفر لعبة الغرب في تلفيق الأخبار لتبرير عمل عدواني محدد ثم يجري تناسيها بعد أن تحقق أغراضها، ويضرب لذلك مثلين صارخين حيث يقول (إدّعى مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية السيد مورينو أوكامبو وإدّعت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة السيدة سوزان رايس أن جيوب جنود القذافي كانت مليئة بالفياغرا من أجل إغتصاب النساء، والحقيقة لم تكن كذلك، وأصلا القتلة ومغتصبو النساء لا يحتاجون للفياغرا، وهكذا إختفت رواية الفياغرا من عناوين الأخبار بعد أن أدّت غرضها في تبرير قيام قوات الناتو بتدمير دبابات القذافي في مداخل مدينة بنغازي، بالضبط كما حصل في كذبة (حاضنات الأطفال) الكويتية التي استخدمت ضمن مبررات شن حرب الخليج الثانية).
ثالثا : ملاحظات على الدراسة :
1– يبقى المفكر والمثقف الغربي، مهما كانت حصانته المبدأية وسلامة تفكيره ومنطقه، متأثرا بشكل أو بآخر وبوعي أو بدون وعي ببعض الصور النمطية والمسلمات الغربية، وأدناه بعض ما يؤخذ على هذه الدراسة، ولعل القاريء سيجد غيرها :
1– عنوان الدراسة يقول إن الثورات العربية تأخرت 222 عاما عن الثورة الفرنسية، وهذا يفصح عن إقتناع ضمني للكاتب بإن أوربا هي النموذج ومعيار الحكم على بقية أجزاء العالم، وبالنتيجة فهو يربط بشكل غير موضوعي بين السياق التاريخي لتطور الأمة العربية وذلك الخاص بالأمم الغربية متجاهلا الخلفيات الفكرية والثقافية المختلفة للأمتين. فخلال القرون الثلاثة الأخيرة، مثلا، تداخل كفاح العرب ضد الإستعمار الخارجي مع كفاحهم ضد الاستبداد الداخلي، بينما لم تشهد اوروبا غزوا أجنبيا خلال هذه الفتره وكان كفاح شعوبها يتركز على معارضة الاستبداد الداخلي وتحقيق الديمقراطية. إن إستعراض ثورات العرب في القرن الثامن عشر ضد الستعمار العثماني والبريطاني والفرنسي والاسباني والايطالي يؤكد أن ثورات العرب تزامنت مع، إن لم تسبق، الثورة الفرنسية. وبالمقابل، وعلى العكس مما كان متوقعا، فإن الثورة الفرنسية أنجبت نظاما عمل على إحتلال بلدان عربية مثل مصر والجزائر وثار العرب ضد المستعمرين الفرنسيين. إن سياسة الغرب في إجهاض سعي العرب للحرية والديمقراطية يزداد شراسة مع تنامي كفاح العرب لنيل الحرية، ورأينا كيف يواصل الغرب دعم الاحتلال الصهيوني لفلسطين ومنع الفلسطينيين من تقرير مصيرهم، وكيف غزا الغرب العراق لإجهاض تجربته الوطنية، وكيف دعم الغرب إنفصال جنوب السودان، لا بل وكيف يسعى الغرب الآن لمصادرة الثورات العربية لتحويلها إلى (فوضى خلاّقة).
2– يعتبر تودنهوفر ثورات (الربيع العربي) بداية عصر الديمقراطية، ويضع جميع الأنظمة العربية في خانة الإستبداد والتسلط متجاهلا الإختلافات في الوضع السياسي بين الدول العربية، فهناك أنظمة ملكية وراثية إستبدادية وهناك جمهوريات تقودها احزاب شعبية تقدمية وضعت بلدانها على طريق الديمقراطية والتنمية.
3– مع إقرار تودنهوفر أن الثورات العربية هي في جانب منها ثورة الفقراء ضد الأغنياء، إلا أنه لم يتطرق إلى حقيقة أن الذي سبب إفقار الملايين في الوطن العربي وفي دول الجنوب عموما هم اغنياء دول الشمال، وثورة الفقراء على أغنياء الداخل لن تنجح في إزالة الفقر وتحقيق المساواة في داخل المجتمعات العربية طالما أن سبب الفقر الرئيس خارجي ويتعلق بظلم النظام الإقتصادي العالمي حيث تتعمق الفجوة الإقتصادية بين بلدان الشمال الغنية وبلدان الجنوب الفقيرة المحرومة من الوصول إلى روؤس الأموال والتكنولوجيا والأسواق العالمية. ومعلوم إن الفقر ونقص التنمية يزيد التخلف السياسي والثقافي والإقتصادي ويقود إلى الإحباط ويشجع قيام صراعات داخلية جديدة. إن حرب الفقراء على الأغنياء يجب أن تكون عالمية تتوحد فيها مظاهرات ميادين التحرير العربية مع حركات (إحتلوا الوول ستريت) الغربية.
4– بدا الدكتور تودنهوفر متحاملا بعض الشيء على العقيد القذافي ونظامه، وقال إن القذافي توعّد بملاحقة الثوار (زنقة زنقة) ثم إنتهى الأمر بأن لاحقه الثوار زنقة زنقة. والحقيقة هي أن حلف الناتو هو الذي لاحق القذافي زنقة زنقة، أما المتمردين فكانوا كالكومبارس يملأون المشهد لإغراض إعلامية بينما الجهد العسكري موكول للناتو الذي حوّل هذا التمرد إلى مناسبة لتصفية الحساب مع القذافي وللإغارة على أهداف مدنية وإقتصادية لإعادة ليبيا إلى عصر ماقبل الصناعة. ومن باب الإنصاف القول أن الدكتور تودنهوفر وبعد نجاته من قصف قوات القذافي عقد مؤتمرا صحفيا في بنغازي وآخر في القاهرة قال فيه ان قوات القذافي تستهدف المدنيين ولكنه يحذر الثوار الليبيين من طلب المساعدة من حلف الناتو لإن للناتو اهدافا غير أهدافهم وان نقاء الثورة ومبدئيتها ستتلوث بطلب المساعدة من الناتو.
رابعا : تودنهوفر يتعرض للإعتداء في ميدان التحريرفي مصر :
يبدو أن تجربة الدكتور تودنهوفر مع الربيع العربي لن تقف عند حدّ، ففي يوم 25/1/2002 عاد تودنهوفر للمشاركة في إحتفالات شعب مصر بالذكرى السنوية الأولى لثورة يناير، وفي ميدان التحرير المكتضّ بمئات الألاف من البشر إعترضه بعض الغوغاء و(البلطجية) وإعتدوا عليه بالضرب وكسروا نظارته وحاولوا سرقة نقوده وهاتفه، كما هجموا على مرافقته المصورة الألمانية وجردوها من ثيابها وحاولوا إغتصابها لولا تدخل بعض الثوار الذين أنقذوهما. هذ الحادثة لم تكن الوحيدة في ميدان التحرير ذلك المساء، فقد سجلت عشرين محاولة إغتصاب، وهي تعطي صورة عن إندساس الغوغاء في الثورة أو حتى خيانة الثوار لمبادئهم والتي تطرق اليها تودنهوفر في دراسته وحذّر منها. الرائع في هذا الرجل ومرافقته أنهما لم يصابا بالإحباط نتيجة هذا الأعتداء الوحشي، بل تحمّلا هذه التجربة المريرة برضا وواصلا لقاءاتهما مع الشخصيات السياسية ومع شباب الثورة. ولم ينس تودنهوفر علاقته الخاصة بالعراق فقد خص قناة (الرافدين) العراقية المجاهدة بمقابلة تلفزيونية أكّد فيها حبّه للعراق وتضامنه مع شعب العراق في التحرر من الإحتلال، وإستعرض في المقابلة كتبه الثلاث التي أصدرها عن العراق : الأول عن آثار الحصار الظالم على شعب العراق وعنوانه (من يبكي على عبدول وتانايا) والثاني عن الغزو الأمريكي للعراق والمآسي الإنسانية التي خلفها وعنوانه (آندي ومروه) والثالث عن المقاومة العراقية وعنوانه (لماذا تقتل يا زيد) والذي كتبه بعد أن عاش أياما مع المقاومين العراقيين في الرمادي. كما إستعرض آخر كتبهوعنوانه (بعبع الإسلام) الصادر أواخر عام 2011 وفيه يكشف فيه زيف ربط الإرهاب بالعرب والمسلمين ويوثّق إرهاب الغرب ضد العرب والمسلمين منذ الفترة الإستعمارية لحد الآن..
خامسا : أدناه ترجمة دراسة الدكتور تودنهوفر:
كيف وصلت الثورة الفرنسية الى العالم العربي بعد 222 عاما
بقلم الدكتور يورغن تودنهوفر
ترجمة الدكتور عبد الواحد الجصاني
كبت الحريات
بعد تفجّر الثورة الفرنسية عام 1789، وما تلاها من ردّات دموية لا تحصى، إحتاجت فرنسا ثمانين عاما لتصبح ديمقراطية حقيقية، واحتاجت ألمانيا مائة وثلاثين عاما، أما الوطن العربي فقد إحتاجت الثورة الفرنسية مائتان وإثنان وعشرين عاما لتصل اليه. لم يكن نشرالحرية والمساواة والاخاء وإدخال الديمقراطية إلى الوطن العربي جزءا من أهداف الغرب المحتل، فبالنسبة للغرب الحرية لا تعني مطلقا (التحرر منّا). وعندما إنتهت فترة إستعمار الغرب المباشر للبلدان العربية، تحوّل الغرب إلى دعم الملوك والحكام المستبدين العرب الذين كانوا مستعدين لتبني سياسات الغرب الخارجية مقابل حصولهم على السلاح والمال. ولغاية بداية عام 2011 ساعد الغرب بلا خجل الدكتاتوريات العربية على قمع شعوبها، لا بل إستخدم الغرب الأجهزة الأمنية للأنظمة الدكتاتورية العربية كمراكز متقدمة له لممارسة التعذيب، وقام سرا بنقل المتهمين بالإرهاب، وأغلبهم أناس أبرياء، الى دول شمال أفريقيا لإن الغرب يعتبر حكامها الدكتاتوريين هم افضل من يعذب المعتقلين. وكانت زنازين معمر القذافي لغاية وقت قريب مراكز تعذيب مشهورة. وبمقابل خدمات القذافي في التعذيب إستجيب لبعض نزواته : زوده ساركوزي بسيارة مصفحة تشبه سيارة المارسيدس الشبح من التي يحلم بها جميع قادة المافيا. أما وتوني بلير فقد أرسل أحد معارضي نظام القذافي إلى حتفه، والمانيا زودته بأحدث الأسلحة وكذلك فعلت بقية دول حلف الناتو وروسيا أيضا. ويشاء القدر أن ينفجر صاروخا من تلك الأسلحة على سيارتنا في ليبيا ويحولها الى كرة من نار ويقتل صديقي عبد اللطيف. عبد اللطيف الهادي الجعكي رجل أعمال دائم الإبتسام من بنغازي كان مضيفنا خلال زيارتنا الى بنغازي في مارس/آذار 2011، وكانت لازمته المحببة عند الحديث هي (ولم لا!)، وبها أجابني عندما سالته إن كنا نستطيع الذهاب من بنغازي إلى البريقة، وهي مدينة نفطية ليبية تقع على مسافة 190 كيلومترا جنوبي بنغازي كانت قوات القذافي قد إحتلتها لأيام وسمعنا أنها تحررت. وإنطلقنا إلى البريقة، وقبل الوصول إليها بمسافة 25 كيلومترا وفي منطقة وادي اللهب شاهدنا خمس سيارات مدنية دمرت توا ولا زالت النار تشتعل فيها، فنزلنا من سيارتنا لمعرفة ماذا حصل ولإلتقاط بعض الصور، وفجأة إنهمر الحجيم علينا فسقط صاروخ أرض - أرض على سيارتنا، وكان عبد اللطيف قد عاد إليها لتوّه اليها لجلب شيء ما، ثم إنهمر وابل من القذائف عليّ وعلى مرافقيّ وهما المصوّرة الصحفيّة الألمانية يوليا ليب والشاب الليبي يوسف. وبدا وكأن جنود القذافي يستهدفون إبادة جيش كامل. وإستمر سيل القذائف المضادة للجو والرمانات والصواريخ لثلاث ساعات، وإختبأنا خلف كثيب رملي منحنا الحماية وانقذ حياتنا. وعندما حل الظلام هربنا عبر الصحراء إلى بنغازي.
وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2011 عدت من جديد الى وادي اللهب حيث موقع المعركة السابقة ووجدت العديد من القنابل وفوارغ القذائف وكثير منها مصنوع في الغرب. لقد إستخدم القذافي الأسلحة التي استوردها من الغرب ومن الشرق ضد شعبه وضد غيرهم، وسيستمر حكام مستبدون آخرون في البلدان العربية بإستخدام الأسلحة المشتراة من الغرب بنفس الطريقة، ولحدّ اليوم لا زال الحكّام المستبدون القساة العرب يحظون بدعم الغرب في قمع شعوبهم.
فترة التسامح
لعقود طويلة تعرضت الشعوب العربية للظلم والإذلال من حكام ما بعد الفترة الإستعمارية. هذه الأنظمة الظالمة دأبت على قمع الإنتفاضات التي تحصل بين الحين والآخر بوحشية وبلا هوادة. وفي بلدان مثل سوريا وليبيا والعراق والجزائر تعايش كثير من الناس في النهاية مع تركيبة السلطة هذه، والبعض منهم إستفاد منها. وهكذا كان على الشعب العربي أن يرزح تحت أعباء 222 سنة من الاستعمار ومابعد الاستعمار والدكتاتوريات. لم ار بحياتي شعبا بمثل هذا الصبر!
تنقلت بين البلدان العربية خلال الخمسين سنة الأخيرة، حتى اصبحت وطني الثاني تقريبا. في عام 1960 كنت في مدينتي الجزائر وقسنطينه شاهدا على حرب الجزائر، وكنت شاهدا على الأزمة الدموية الفرنسية – التونسية في بنزرت عام 1961، وعبرت صحراء الجزائر على ظهور الإبل، وكتبت كتابا عن حرب العراق وأنا مقيم في أطراف صحراء المغرب، ولمرات لا تحصى زرت سوريا ومصر، وخاصة خلال العقد الماضي، ولم يكن هناك شيء ينبيء بإن العاصفة قادمة.
ثورة المستضعفين
وصل تراكم الإحباط والإذلال في النهاية إلى درجة تفوق التحمل، حصل ذلك قبل أن يحرق بائع الخضار نفسه وقبل جريمة قتل صاحب صفحة على الإنترنت بوقت طويل، ليقود تراكم المرارات الى إنفجار كالبركان في تونس ثم في مصر. إنطلقت فجأة رياح الثورة وبما يشبه المعجزة أو كحرائق الغابات بين مجموعة من البشر تعدادها مائة أو ألف أو عشرة آلاف من المستضعفين الذين طغى عليهم شعور يصعب وصفه وغيرقابل للتفسير المنطقي بالقوة الجماعية التي لا تقهر. وهكذا تمكنت جرثومة الديمقراطية والحمّى الثورية المصاحبة لها من الجماهير ولم يعد ممكنا الإفلات منها. مرة قال لي عبد اللطيف وهو يبتسم : فجأة وبدون سابق إنذار أصبح الأمل أكبر من الخوف.
ورغم حقيقة أن الثوار لم يكونوا أغلبية، فأغلبية الشعب نادرا ما تكون ثورية، ولكن روح الثوار المعنوية المؤمنة بالنصرإنتشرت بين الجماهير كالنار في الهشيم، وأصبحت مثل عاصفة النار أو الزوبعة أو الطوفان أو مثل الوباء ينتشر من مدينة الى مدينة ومن بلد لآخر. من كانوا مستضعفين مهمشين أذلاء ها هم اليوم يتحدّون حكامهم وهم انفسهم مندهشين من هذه الشجاعة والقوة التي إعترتهم فجأة.
في البداية إعتقدت ان الثورة التونسية كانت إستثناء ولكن عندما نزل مئات الآلاف من الناس الى الشوارع في مصر وطالبوا بالحرية والديمقراطية شعرت بإن الحظة التي إنتظرتها طويلا قد أتت أخيرا. لقد قرر الشعب العربي أن يتخلص من نير الدكتاتورية، ولذلك سافرت فورا الى القاهرة ومنذ ذلك الوقت قضيت ما مجموعه أربعة أشهر في تونس ومصر والمغرب وليبيا وسوريا، وكنت دائما بجانب الثوار. وجدت أن الكثير من الأشياء التي أعرفها عن الثورات الأوربية تكررنفسها هنا في شارع الحبيب بورقيبه في تونس العاصمة وفي ميدان التحرير في القاهرة وفي ساحة التحرير في بنغازي، حتى الرموز وصور الأطفال والمراهقين وهم يلوحون بالأعلام كانت متشابهة، بل وحتى أعمال التخريب كانت متشابهة ولا تشكّل إستثناء، مثلما حصل في ليبيا عندما قام الثوار في فورة الإنتصار بتدمير النصب والتماثيل والأبنية وقطع فنية لا تقدر بثمن متناسين أنهم أصبحوا الآن مالكين لها. عندما ذبح الثوار القذافي كما يذبح الكلب الضال فإنهم بذلك لم يكونوا أفضل من جلاّديهم، فقبلهم تنكّر ثوار الثورة الفرنسية لمبادئهم بطريقة مشابهة.
لا عقلانية الثورة
الثورة العربية، مثل جميع الثورات، تشبه المعجزة بقوتها وتأثيرها السحري والصوفي وحتى الديني. ورغم مكابرة الكثيرين فلا بد من إقرار حقيقة أن لا أحد يمكنه أن يدعي القدرة على تفسير ما حدث، ولا حتى الحكام ولا الثوار أنفسهم. من الصعب أن يفسّر أحدنا بشكل دقيق ما حدث ويحدث في تونس ومصر وليبيا وسوريا. الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون كان أول من عمل تشريحا عقلانيا لما أسماها (سايكولوجية الجماهير) وإستنتج أنها تتجاوز أي منطق عقلاني. لنتذكر الثورة السلمية في جمهورية المانيا الديمقراطية أو ما سميت (معجزة توحيد ألمانيا)، ألم نشعر وقتها إن ما حصل تجاوز كل منطق؟ فالاندفاع الذي يشبه الصحوة الدينية للجماهير في المانيا جعل جميع القادة السياسيين تقريبا يقفون عاجزين، قليل منهم فقط إستطاع ركوب الموجة المعجزة للثورة والإدعاء فيما بعد أنهم (آباء الثورة) و (آباء الوحدة الألمانية) متناسين كيف كانت مواقفهم قبل التغيير.
في مطلع شهر مارس/آذار 2011 كنت في الرباط والتقيت بقائد المعارضة المغربية عبد الإله بن كيران في مكتبه المتواضع، وبينما كنا نستمتع بشرب الشاي بالنعناع سألته إن كان يستطيع أن يفسر ما يجري في الوطن العربي، فما كان من الرجل الأريحيّ ذو اللحية الخفيفة الرمادية إلا أن أطلق ضحكة وقال : لا أعرف. وعذرته فلربما كان يتوقع مني أن أعطيه تفسيرا باعتباري كنت شاهد عيان على الثورة المصرية، أو قد يكون مبالغا في تواضعه. بعد هذا اللقاء فاز ابن كيران في الانتخابات البرلمانية وجرت تسميته من الملك محمد السادس لتشكيل الحكومة الجديدة، فهل إستوعب الملك الثورة؟
حتمية الثورة الديمقراطية
إن الحكام الذين يفشلون في إدراك ديناميكية السلوك الجمعي في الثورة الديمقراطية في الوقت الصحيح، مثل قادة تونس ومصر، يكون رد فعلهم بطيئا وبذلك يفقدون فرصتهم وعندها تقوم القوة الجارفة للجماهير الثائرة بإزالتهم. وفي الحقيقة جميع الحكام بشكل عام يبالغون في تقدير قوتهم.
إن حكاما، كملك المغرب وملك الاردن، الذين يحاولون منع حدوث الاصطدام من خلال تنازلات ذكية لربما يكسبون وقت نجاة ثمين، ولكن حتى بالنسبة لهم إذا لم يواجهوا إستحقاق الانتخابات الحرة وإذا لم يقبلوا بتحديد سلطاتهم مثلما يحصل في الملكيات الدستورية، فعند ذلك سوف تقوم الثورات الديمقراطية ذات الجاذبية السحرية- الصوفية بإزالتهم. الحكام المستبدون الذين يعتمدون حصريا على القوة العسكرية، مثل الثائر السابق معمر القذافي، لا فرصة للنجاة لديهم، فالثورة تأكل أبنائها كما يقال. اراد القذافي أن يلاحق المتمردين (زفقة زنقه) ولكنهم لاحقوه في النهاية زنقة زنقه. وحتى في الأنظمة الاستبدادية التي تواصل ديمومتها بفضل المزاوجة بين استخدام القوة الغاشمة وتقديم المنافع المادية للجماهير، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية أو البحرين، فإن المهمشين المقهورين والذين لا وصوت لهم سوف لن يفرّطوا بالثقة بالنفس والمعنويات العالية التي إكتسبوها.الشرارة الثورية ستستمر في التوهج في قلوب جميع العرب. قال لي رجل أعمال سوري : مهما تكن نتائج الثورة الحالية فسوف لن يعود الوضع إلى ما كان عليه سابقا.
الديمقراطية هي أكثر أشكال الحكومات نجاحا في عصر الصناعة والإعلام الحالي. الهياكل الاستبدادية المتحجرة لعصر ما قبل الصناعة لا تستطيع مواجهة تحديات عالمنا الصناعي الحالي، وهذه حقيقة لم أكن يوما مقتنعا بها كمثل إقتناعي بها خلال الأشهر الأربعة التي كنت فيها شاهدا على معركة العرب من اجل الديمقراطية. يشاهد العرب بشكل يومي، عبر الفضائيات، الحرية التي ينعم بها الآخرون ويتساءلون أين حريتنا؟ وحتى الديمقراطيات الغربية، التي تعاني من المديونية وعدم الثبات والمخادعة وما تتصف به أحيانا من نخب سياسية غير كفوءة، تبقى نموذجا يحلم به العرب كون البشر في هذه الديمقراطيات مواطنون وليسوا رعية، وأن مجتمعاها، رغم مظاهر الإنحدار فيها، تشهد تقدما لا يشوبه فساد كبير. حتى لواحتاج التغيير في العالم العربي الى عقود، أو أكثر، كما حصل في أوربا، فإن زمن الملوك والسلاطين والحكام غير المنتخبين والحكام الذين يعينون أنفسهم وصل إلى نهاية مؤكدة ولم يعد لهم مكانا على المسرح السياسي الدولي. لا يمكن إيقاف انتصارات الديمقراطية. الديمقراطيات العربية الجديدة ستواصل مسيرتها مع ما يعتريها من آثار وتركات الماضي التي تتخفى تحت أسماء وأقنعة جديدة لا تتوافق مع مفاهيمنا الدستورية. إن إزالة ظلم الماضي لا يكفي لوحده لنجاح الأشكال الجديدة للحكومة. الديمقراطية لا تأتي بالضرورة بإنجازات سريعة ولكنها بالتأكيد تملك أفضلية حاسمة على الأشكال الإستبدادية للحكم، فهي تسمح بتنفيس الإحباط، وفيها دائما بديل لعنف الثورة ودمويتها وهذا البديل هو التصويت السلمي لإسقاط الحكام أي هزيمتهم بالإنتخابات بدلا من تقديم خمسين ألف ضحية لتحقيق هذا الهدف كما حصل في لليبيا.
الثوار
التحدي الأكبر أمام الثورات العربية هو البطالة والشباب الخريجين الذين يجدون آفاق المستقبل مغلقة أمامهم. هؤلاء الشباب غالبا ما يكونوا متأثرين بالغرب أو حصلوا على تعليمهم فيه. بعض الثوار الذين التقيت بهم في ميدان التحرير في ذروة الثورة المصرية كانوا يتحدثون الألمانية، وظهر لي أنهم يشاهدون التلفزيون الألماني، أحدهم هتف بي وبمرافقيّ في وسط الجماهير المحتشدة قائلا (يا سيد تودنهوفر شكرا لمشاركتك في ثورتنا) وكنت بالغ الإندهاش، ثم فهمت منه أنه شاهد قبل أسبوع أحد البرامج الحوارية الألمانية التي شاركت فيها وكان النقاش حول مصر.
وسائل الإعلام حوّلت عالمنا الى مجتمع صغير، او لنقل على الأقل أصبح العرب يعرفون الغرب جيدا. كان الشباب العربي خلال التظاهرات يخبرونني بآخر نتائج مباريات الدوري الألماني. الشباب الثوري يتلقى الدعم من الطبقات الفقيرة من سكان أحزمة الفقر حول المدن الذين سبب تفكك البنى التقليدية للمجتمع وتوسع المدن إفقارا متواصلا لهم. الطبقة الحاكمة التي كانت في السابق تعتبرهم رعاع، أخذت الآن تغازلهم، لكن فقراء المدن فضّلوا التحالف مع الشباب الأكاديمي الذي يشتركون معهم في صفة البطالة والتهميش. هناك حقيقة أقر بها حتّى (مترنيخ) وهي إن الثورة الديمقراطية في جانب منها حرب الفقراء على الأغنياء.
قبل أيام من الانتخابات البرلمانية في مصر التي جرت أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2011 عدت من جديد الى ميدان التحرير في القاهرة، وهذه المرة كان أغلب المتواجدين فيه من الطبقة الفقيرة، وكانوا يحملون حنينا وشوقا إلى تلك اللحظات من القوة المطلقة ليوم الحادي عشر من فبراير/شباط 2011 عندما إستطاع من لا أسماء ولا وجوه ولا أهمية لهم أن يسقطوا الفرعون مبارك.
وتماما كما حصل في الثورة الفرنسية التي قامت قبل 222 عاما، فإن الثورات العربية فجّرها أناس لا إنتماء سياسي محدد لهم، إنهم من نخبة البرجوازية الصغيرة : مثقفون وشباب وأطباء ومهندسون يدعمهم، في الغالب، مواطنون يعيشون في الخارج وكذلك القوى الأجنبية المهتمّة. في القاهرة أنشأ الأطباء مستشفيات مؤقتة في قلب ميدان التحرير يقدمون فيها الاسعافات الأولية لجرحى المتظاهرين ويشدّون من عزيمتهم. شاب ليبي طالب في الدراسات العليا في القانون هو الذي نظّم مؤتمري الصحفي مع الثوار في بنغازي. في دمشق تحدثت حتى آخر الليل مع شاب فنان يسافر بإنتظام إلى واوربا لينقل رسائل الثوار إلى المعارضة في الخارج. هذه النخب الصغيرة أخذت المبادرة وحرّضت الجماهير ونظّمت المظاهرات وادامت الإتصالات مع الإعلام ومع الدول الخارجية. نادرا ما تبدا الأمة ثورتها بنفسها. الجماهير بحاجة إلى قيادة وتوجيه هذه المجموعة الصغيرة من النخبة زبدونها ستفقدالجماهير الفرصة. الشعوب لديها أحلام ولكنها لا تعرف السبيل لتحقيقها.
لسنين طويلة صوّر إعلامنا المجموعات الإرهابية المتطرفة المتكاثرة، كالقاعدة، على أنها الخصم الخطير للحكام المستبدين في الدول العربية، والهدف من ذلك هو شرعنة دعمنا لهذه الأنظمة. هذه المنظمات الإرهابية لم تكن جزءا من الثورات العربية. قلت لثائر ليبي شاب مظهرك يشبه مقاتلي القاعدة فأبدى إنزعاجه لمقارنته بمجرمي القاعدة وقال إن إي ثائر ليبي لا يقبل هذه المقارنة وإنه لم يحلق لحيته لإنه أصلا لا يملك الوقت الكافي للنوم ولا يهتم بأمر اللحية. في الحالات النادرة التي خرج فيها الإرهاب من حجوره لركوب الثورة إستطاعت الثورة تنحيته جانبا. الثورة لم تكن ضد الحكام المستبدين فحسب بل وكانت ضد الإرهابيين الذين تجاسروا وتحدثوا بإسم العالم الإسلامي، وهي بالنتيجة ثورة ضد الصورة المشوهة التي صنعها الغرب بعناية عن بعبع سمّاه الإسلام.
تأثير الإعلام
جرى تسريع دوران عجلة الثورات وإمتداد تأثيرها بشكل هائل من قبل الإعلام الحديث، وهذا ليس أمرا جديدا، فحتى في أيام الثورة الفرنسية كان هناك حديث عن دور الإعلام في الثورة ولعبت المئات من الصحف والمجلات والكتيبات والملصقات والبوسترات والرسوم الكاريكاتورية، التي إنتشرت بشكل فجائي، دورا مؤثرا في الثورة الفرنسية.
واليوم، أصبحت سلطة الإعلام أكبر، ففي شمال أفريقيا إعتمدت الثورة بالدرجة الأساس على التلفزيون، الذي كان دورة في (المليونات العربية) أكثر أهمية من الأنترنت. ففي ليبيا، على سبيل المثال، جرى قطع خدمة الأنترنت كليا في أيام الثورة، وكان التنظيم والإتصالات تجري من خلال الهواتف النقالة والمساجد والتلفزيون. كان الناس يتظاهرون خلال النهار وفي الليل يشاهدون وقائع الثورة على شاشات القنوات الفضائية التي تنقل أخبار الثورة بشكل مستمر، وإن تحولت عنه فيكون ذلك لنقل أخبار بطولات دوري كرة القدم الأوربية أو أية أحداث كروية مهمة. إن الفهم السائد في الغرب بأن الثورة المصرية كانت (ثورة فيسبوك) هو فهم يثير السخرية وخاصة لدى الشباب المصريين. في البدايات الاولى للإنتفاضة لعب الفيسبوك دورا مهما كوسيلة للإتصال، ولكن كانت هناك وسائل إتصال أخرى كالهواتف النقالة والمنشورات والإعلام الشفاهي. وكما حصل في جميع التظاهرات اللاحقة تحول الفيسبوك إلى وسيلة من ضمن وسائل عديدة أخرى من وسائل الإتصال، مع أن الفيسبوك وسيلة إتصال مجانية لم تجن منها شركات التسويق التجارية العالمية أرباحا.
أمّا قناتا (الجزيرة) و (العربية) فقد كانت أهميتهما إستثنائية، فهما الموجهتان الرئيسيتان، عن قصد، للمليونيات العربية. أمير قطر هو الموجّه لقناة الجزيرة ثمّ تحوّل إلى أكبر مزود للثورات العربية بالأسلحة. لم تعد (الجزيرة) و(العربية) قنوات إخبارية ولكن محركاً ويداً ضاربة للثورات طالما أن هذه الثورات ليست موجهة ضد المشايخ في الخليج أو ضد السعودية. قطر هي في المقام الاول قاعدة أمريكية جيوستراتيجية، وفي المقام الثاني هي دولة عربية صغيرة تعدادها عدة مئات من الألاف من السكان. تعمل (الجزيرة) و(العربية) بالتناغم مع بعض الشبكات الإخبارية الغربية لصب الزيت على النار، فهي تضخّم الثورة وتعطيها حجما أكبر واقوى من حجمها الحقيقي، وتطلق رسائلها وتقاريرها الثورية بشكل يومي بطريقة الحملة المنظّمة لتصل الى بيوت الناس في الوطن العربي. هي في أحيان تكون القوة الدافعة وفي أغلب الأحيان تكون القوة التي تنشر المبالغات عن الثورة. أحيانا إستنادا إلى سياسة المحطة نفسها، ولكن في أغلب الأحيان بناء على حسابات سياسة القوة الدولية. ومعلوم أن الثورات تزدهر بدعم الإعلام بمبالغاته عنها وبشيطنته للحكام الظالمين وبالتفريق السطحي بين الأخيار والأشرار. هناك من يرى أن الظالم لا يجب أن يعامل بعدل وموضوعية وصدق، وهكذا في الثورة كما في الحرب تكون الحقيقة هي الضحية الأولى ويجري تجاهلها بلا تحفظ بينما تزدهر روايات المجازر والرعب وأحيانا تختلق إذا دعت الضرورة لذلك. الدعاية الثورية تكون دائما أحادية الجانب والجرائم تنسب دائما إلى الطرف الآخر فقط، بينما جرائم الثوار يتم تجاهلها. أفلام (اليو تيوب) يجري التعامل معها على أنها حقائق دامغة وأصيلة مع أنها لا تعتبر دلائل أو قرائن في أية قاعة محكمة محترمة. منذ الثورة الفرنسية كانت الثورات أفضل فرصة لمروجي القصص الكاذبة أو (حكواتية العصر الحديث). إدّعى مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية السيد مورينو أوكامبو وإدّعت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة السيدة سوزان رايس أن جيوب جنود القذافي كانت مليئة بالفياغرا من أجل إغتصاب النساء، والحقيقة لم تكن كذلك، وأصلا القتلة ومغتصبو النساء لا يحتاجون للفياغرا، وهكذا إختفت رواية الفياغرا من عناوين الأخبار بعد ان أدّت غرضها لتبرير قيام قوات الناتو بتدمير دبابات القذافي في مداخل مدينة بنغازي، بالضبط كما حصل في كذبة (حاضنات الأطفال) الكويتية التي استخدمت ضمن مبررات شن حرب الخليج الثانية.
خلال الأسابيع الأربعة التي قضيتها في سوريا في شهري يونيو/حزيران ونوفمبر/تشرين الثاني 2011 كنت شاهدا على الكثير من التقارير الكاذبة التي لو أردت تدوينها لملأت صفحات كتاب. في أحد الأيام في شهر نوفمبر/تشرين الثاني أذاعت قناة الجزيرة خبرا يقول إن خمسة قتلى مدنيين نقلوا إلى المستشفى العام في مدينة حمص، فهرعت في الحال إلى المستشفى المقصود فأخبرني الأطباء أنهم لم يستقبلوا اي جريح أو قتيل، وكذا الأمر مع بقية مستشفيات المدينة، ولما اخبرت أحد الأطباء أن مصدر هذا الخبر الكاذب هو قناة الجزيرة أشاح بوجهه عنّي ولم يعلق. لقد تحولت الجزيرة منذ وقت طويل إلى إعلام تابع لقوى دولية. لربما شعر هذا الطبيب الرائع أنه يجب أن لا يشغل نفسه بالرد على تقارير كاذبة، ومع ذلك فإن هذا لا ينفي حقيقة أن هذا الطبيب كان شاهدا على وفاة عدد غير محدود من الأبرياء في بقية الأيام، إنهم ضحايا القتل المجاني من كل الأطراف. في تشرين الثاني/نوفمبر2011 تحدثت الصحافة العالمية عمّا إدعته كارثة إنسانية نتيجة نقص المواد الغذائية في حمص فذهبت فورا الى حمص لإجد دكاكين المدينة مليئة باللحوم والخضار والفواكه. وفي رحلة تالية الى المدينة تحدثت مع أحد الثوار عن هذه الأخبار الملفقة فضحك وقال لي لا تلم قناة الجزيرة فقد كنت أنا واصدقائي من زودها بهذه المعلومات.
وفي شهر ديسمبر/كانون الأول 2011 نشرت وسائل الإعلام الدولية أخبارا تقول أن سوريا منعت إستخدم أجهزة الهاتف من نوع (آي فون)، وعلى الفور إتصلت بشخص في دمشق ممن يستخدمون هذا الجهاز فأجابني بإن هذه القصة غير صحيحة وواصل الحديث من جهاز الآي فون عن الكثير من الإدعاءات الكاذبة التي ينقلها الإعلام الدولي.
لا شك أن الحكومة السورية تتحمل أيضا حصتها من المسؤولية عن هذه الفوضى الإعلامية. التقارير الإعلامية المضللة وأفلام اليوتيوب وصلت ذروتها عندما منعت الحكومة السورية وكالات الأنباء الأجنبية من دخول البلاد. ولا مناص من أن نذكر هنا إن مصداقية التلفزيون الرسمي السوري ليست بأفضل من مصداقية (الجزيرة) و(العربية).
دور القوى الإقليمية والقوى الكبرى
تحاول القوى الإقليمية والقوى الكبرى دائما أن يكون لها دور في سياق الثورات وأن توجهها من أجل أن تكون لها الكلمة الأخيرة في تحديد المنتصرين. بعد أن فوجئت الولايات المتحدة بأحداث تونس ومصر حاولت أن تجعل من الربيع العربي فرصتها التاريخية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق تصوراتها. ومعلوم إن الهدف الأساسي للولايات المتحدة ليس الديمقراطية بل تعزيز وحماية مصالحها في شرق أوسط كبير موالٍِ لها. حلفاء أمريكا مثل السعودية والبحرين ليس لديهم ما يخشونه من الغرب طالما إنه يسمح لهم بمواجهة الحركات الديمقراطية في بلدانهم بالهراوات. وبالمقابل يتصرف الغرب بطريقة مختلفة عندما يتعلق الأمر بالثورات في دول معادية له، فهي تعطيه الفرصة للتخلص من الأنظمة التي تضمها قائمته للأنظمة المارقة، كما هي الحالة إزاء القذافي ثم الأسد، كما إنها تعطيه الفرصة، من جديد، لحمل لواء الدفاع عن حقوق الإنسان وتشكيل تحالفات (مقدسة) للدفاع عن الديمقراطية، وهو بذلك يكرر ما فعلته القوى الأوربية الكبرى في القرن التاسع عشر عندما أنشأت (التحالف المقدس) للدفاع عن الأنظمة الملكية.
وبنفس الحماسة الزائفة يقوم الغرب بدمج هدفي الديمقراطية والتدخل الأجنبي في عملية قذرة واحدة تطير بجناحي الكذب.
وحتى عندما تساعد بعض القوى الكبرى الثوار من اجل تحقيق الإنتصار فغالبا ما يسرقون منهم ثورتهم في النهاية، إنهم لا يكترثون بالحرية للمضطهدين أو لمن سماهم فرانز فانون (المعذبون في الأرض).
الطريق الصعب للديمقراطية
نادرا ما ينجح الثوريون في محاولتهم الأولى لتحقيق احلامهم بالحرية والكرامة والعمل والرفاهية، ونادرة هي الحالات التي يدرك فيها الثوار أن تغيير رأس السلطة لا يكفي بل يجب ان تصل الثورة الى عقول الناس. الثورة تحتاج لعقود وقرون لتنشيء الديمقراطية الحقيقية وسيادة القانون وفصل السلطات واحترام حقوق الإنسان، وغالبا ما تحتاج لوقت اكثر لكي تنضج ثمار الثورة. الثورات هي خطوات صغيرة في الطريق الطويل نحو دولة ديمقراطية دستورية، فالديمقراطيون في الغرب لا زالوا لحد اليوم يبحثون عن الديمقراطية الحقيقية، وخلال مائتي عام عانت أوربا من نكسات ودمار ودماء ودموع. إن الغربيين الذين، بعد أشهر فقط من الثورات العربية، يشيدون بنجاحاتها أو ينقمون عليها لا يعرفون شيئا عن تاريخ الثورات الطويل في قارّتنا الأوربية. العرب لن يصلوا في أشهر إلى ما إحتجنا أجيالا للوصول اليه، وتبقى الثورات العربية مهددة دائما بالإنتكاس والتحول إلى الإستبداد إذا تراكمت الآثار البغيضة للثورات. ومثلما عملت الديمقراطيات في الغرب يجب أن تتحول الديمقراطية في البلدان العربية إلى واقع معاش وأن يجري الدفاع عنها بشكل يومي دائم. الدكتاتوريات الشعبية هي أخطر عدو لجميع الديمقراطيات، وهي مرض يتربص بالديمقراطيات كظلها وبشكل أزلي وحتى ألمانيا لم تنفض، إلى اليوم، عن نفسها هذا الخطر بشكل نهائي.
هناك بدائل لدموية وبؤس وبربرية الثورة. الحكام العرب المهددون بالثورة اليوم يحتاجون أن يضعوا أنفسهم على رأس حركة الديمقراطية، وأن يتجرأوا في البدء بالثورة من القمة. ملوك السعودية والمغرب والأردن، وحتى الرئيس بشار الأسد، لا زالت الفرصة أمامهم للقيام بذلك،والفرصة لن تنتظر طويلا.
قبل عودتي إلى ألمانيا بقليل، وفي أوائل ديسمبر/كانون الأول 2011 عدت إلى بنغازي وتجولت في ساحة التحرير وكانت مزينة بمئات الأعلام وآلاف الصور لقتلى الثوار. وشعرت وأنا أشاهد هذه الصور كأن عبد اللطيف ينظر إليّ بتساؤل. كانت هنالك لوحة كبيرة عليها شعار بالإنجليزية يقول (لدينا حلم) مع ان القلة في ليبيا يتحدثون الإنجليزية. صديقي أحمد، وهو شقيق عبد اللطيف، سحبني من أطراف قميصي وقال لي (قل لإصدقائك الذين صمموا هذا الشعار الجميل باللغة الإنجليزية بأن هذا الحلم هو حلمنا وقتلانا دفعوا حياتهم ثمنا من اجل ثورة عربية وليس أمريكية.
|