مدخل :
كثيراً ما يتردد في قاموسنا السياسي الحالي مصطلحات كـ ( نظام الطائفية السياسية ) ، أو ( أمراء الطوائف ) ، أو ( الحركات الدينية السياسية ) ، أو ( الحركات السياسية المغلفة بغطاء الدين ) . ويعد مصطلح الطائفية السياسية هو مصطلح جامع لكل تلك التسميات.
وقد ابتدأ استخدام هذا المصطلح في الوطن العربي في لبنان منذ عشرات السنين، وتعود أصوله التاريخية إلى العام 1864، وهو تاريخ إنشاء متصرفية جبل لبنان في أعقاب أكبر فتنة طائفية شهدها ذلك القطر العربي . ومن أجل احتواء تلك الفتنة تم تشكيل مجلس إدارة للحكم تمثَّلت فيه طوائف الجبل، وكان يدار من قبل متصرف تركي ، وترعاه الدول الأجنبية التي أعلنت كل منها حمايتها لطائفة من تلك الطوائف.
وبدأ الخطاب السياسي العراقي يعرف تلك المصطلحات بعد الاحتلال الامريكي له في العام 2003، خاصة بعد ان تكرست منطلقاتها في الدستور العراقي الذي كان نتاج صياغة أميركية، ورعاية إيرانية، ومشاركة من عملائهما، حيث أُدخلت نصوص ظاهرها الاعتراف بحقوق الطوائف ولكن بصياغات خبيثة خطيرة اثارت وما تزال معارضة وطنية قوية باعتبارها تهدد وحدة البلاد وتماسك مجتمعها. وأخذ استخدام تلك المصطلحات يتوسَّع ويتعمَّق أكثر خلال ما جرى من انتفاضات وحراك شعبي في الوطن العربي ، إذ مرَّ على الساحة المصرية بعد وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم.
وهو يتفاعل الان ويتعمَّق في ليبيا إلى جانب مصطلح ( نظام العشائر ) . وتبرز تأثيراته في تونس بوصول ( حزب النهضة ) إلى استلام الحكم. وتوسَّع استخدامه في الحراك الدائر في سورية في ظل نشاط ( حركة النصرة ) و ( الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش ) من جهة والقوى والمليشيات الموالية لايران من جهة ثانية ، هذا بالإضافة إلى تنظيمات أخرى بمسميات مختلفة . كل ذلك أدى إلى رفع الكثير من علامات الاستفهام عن الحراك الاسلاموي الطائفي الصبغة ونتائجه في تلك الأقطار. وأصبح المصطلح أكثر خطورة بعد أن أكدت التقارير وجود صلات وثيقة بين تلك الحركات الاسلاموية الطائفية والقوى المعادية للأمة العربية وتطلعاتها وعلى وجه الخصوص الامبريالية الامريكية والصهيونية العالمية ونظام ولاية الفقيه في ايران .
وبانتشاراستخدام هذه المصطلحات والمفاهيم الطائفية ، يقف المراقب متسائلاً:
- ما هي طبيعة القوى الطائفية التي تلعب دوراً لافتاً على ساحة الوطن العربي ؟ وما هو حجمها؟ وما هي أهدافها؟
- كيف يمكن استشراف مستقبل الحراك الشعبي الوطني والقومي في ظل مشاركة تلك الحركات الطائفية في تفاصيله ويومياته؟
ويزداد القلق أكثر إذا عرفنا أن تلك الحركات الطائفية هي من تحاول ان تتصدر المشهد بشكل اوبآخر في مسعى لقيادة او الاستحواذ على الحراك الشعبي الوطني والقومي في هذه المنطقة او تلك . وبالعودة الى الجذور التاريخية لتلك الاحزاب او التيارات نجد ان القوى الامبريالية الاستعمارية قد عملت على تأسيس تلك الاحزاب والحركات الطائفية وهي التي دفعت بها الى الواجهة ( تنفيذاً لمبدأ فرق تسد ) وذلك في مسعى منها للتخلص من الانظمة الوطنية ولمواجهة موجة الوعي الوطني والمد القومي النهضوي التي اجتاحت الاقطار العربية. وبعد الاحتلال الامريكي الايراني للعراق وما شهدته اقطار الوطن العربي من انهيارات متتالية كان من نتائجها استهداف واقصاء المثقفين الوطنيين والقوميين لابقائهم على هامش الاحداث مما ادى الى تعاظم ظهور تلك المصطلحات الطائفية .
ولا بد للمتابع السياسي من دراسة جذور ونشأة الاحزاب والحركات الاسلاموية الطائفية الطابع دراسة دقيقة ليتسنى له تحديد موقف مبدأي واضح ازاءها ومعرفة دورها الحقيقي المرسوم ، مع عدم اغفال تركيز الاعلام الغربي على تضخيم تاريخ الصراعات المذهبية الدموية ذات الطبيعة الدينية وايعازها الى الاسلام حصرياً متجاوزا عن عمد التاريخ الدموي للصراعات في الديانات الاخرى والتي اعتمدت التكفير والتكفير المضاد .
فالدين، في مفهومنا، حاجة روحية ضرورية للإنسان، وقلَّما تجد إنساناً لا ينتمي إلى دين يؤمن بخالق للكون. ولكن الخطير في الحركات الدينية السياسية أنها توسِّع الشرخ بين مكونات المجتمع الواحد. ولهذا فقد شقت الدين الواحد إلى مجموعة من الطوائف. وقسموا الحقوق والواجبات على أساسها، بما يُعرف في المصطلح الشائع، بـ ( أنظمة المحاصصات الطائفية ) .
فما هو مفهوم الطائفي ؟
تعريف الطائفي:
يمكننا معرفة مفهوم الطائفي من خلال تحديد طريقته بالتدين، فالمتدين نوعان:
- النوع الأول هو الذي يحترم معتقدات الآخرين الدينية على قاعدة أن هناك أكثر من طريق لخلاص الأنفس في الآخرة. ويميز بين الدولة الدينية والدولة المدنية، ويختار الأخيرة كنظام سياسي للحكم.
- والنوع الثاني هو الذي ينكر على الآخرين حقهم بالاعتقاد الديني، ويسفِّه معتقداتهم بذريعة أن طريقته لخلاص نفسه في الآخرة هي الطريق الصحيح وما عداه من معتقدات ليست صحيحة، وهنا يتحول المتدين إلى طائفي. والأخطر من ذلك أنه يكفِّر نظام الدولة المدنية، ويدعو لإسقاطه، ويعمل من أجل تأسيس الدولة الدينية، التي غالباً ما تحكم تبعاً لفقه المذهب الديني الحاكم.
الديني يجمع والطائفي يفرِّق:
وهكذا يصبح الفرق بين الديني والطائفي واضحاً . فالدين باختصار اعتقاد روحي يجمع البشر ولا يفرقهم إذا أُخذت القيم العليا ، كقيم جامعة بين الأديان بعين الاعتبار، ومن تلك القيم يأتي واجب الدفاع عن الأرض والعرض، وحول هذه القيم يجتمع أبناء الوطن الواحد على تعدد انتماءاتهم الدينية. وإذا تحوَّل الاعتقاد الديني إلى اعتقاد بقدسية شرائع المذهب الخاصة، فستتحول العلاقات بين أبناء الوطن الواحد إلى مستوى التوتر على قاعدة ( نصرة أبناء المذهب ) على حساب نصرة ( أبناء الوطن الواحد ) ، وبذلك يتحول الاعتقاد الديني أو المذهبي إلى عامل تفريق وتمزيق واقتتال.
فالشعور الطائفي، في مثل هذه الحالة، يحوِّل الاعتقاد الديني إلى عامل تفتيتي، ينتج عنه خطر جسيم على المجتمع الواحد فهوسلاح جاهز لوضعه في موقع الاحتراب مع المعتقدات الدينية الأخرى وبالتالي فهو تفتيتي لأنه يعمل على انقسام المجتمع وفقدان العدالة والمساواة بين مواطنيه.
وعن هذا، ولأن الطائفية مشروع للتصادم مع الأديان والمذاهب الأخرى، نعتبر أن أخطر أنواع الصراعات بين المذاهب تلك التي تنشأ من عقيدة طائفية متزمتة. وبناء عليه، تتمثَّل خطورة المذاهب والأديان، عندما يتحوِّل الدين أو المذهب إلى مشاريع سياسية، وهذا ما عرَّفته أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي، بـ ( الحركات الدينية السياسية ) أي تلك الحركات التي تستغل الدين من أجل مآربها السياسية.
فالديني السياسي يعمل من أجل بناء دولة ظاهرها دينية لكنها تستغل الدين لمآرب سياسية دنيوية لا علاقة لها بالدين. وقد عرفت العصور السابقة الكثير من الفرق الدينية التي عاثت تفتيتاً بمكونات المجتمع، ونشرت الصراعات الطائفية بين تلك المكونات. وقد وصل إلينا، في العصر الحديث، حركتان دينيتان طائفيتان، من بين مئات الفرق التي انقرضت، وهما: حركة الإخوان المسلمين، وحركة ( ولاية الفقيه ) .
( الإخوان المسلمين ) و ( ولاية الفقيه ) حركتان دينيتان سياسيتان:
وعلى الرغم من أن الحركتين متناقضتان فقهياً، الا انه يجمعهما العداء للقومية العربية وللوحدة العربية. وهما تخططان، بعد إسقاط الأنظمة الوطنية، والفكرالقومي ، بكل ملامحه وأشخاصه وأحزابه، للانتقال إلى مرحلة اقتسام مناطق النفوذ في الوطن العربي على قاعدة أن كلاً منهما يشد إلى جانبه من ينتمي مذهبياً لمشروعه الديني السياسي. وبالتالي فانه في الحقيقة يجمعهما تحالف قوي ، لا بالفقه وانما بالتناغم لمواجهة الفكر القومي العربي وكل فكر عروبي يسعى لوحدة الامة العربية . وقد أثبتت الاحداث دعم نظام ولاية الفقيه في إيران للاخوان المسلمين في أكثر من ساحة عربية ، ومن أهمها العراق وفلسطين. وها هي بعض دول المنطقة تنسق مع الولي الفقيه خلال التطورات السياسية الاخيرة التي شهدتها المنطقة .
وضمن هذا السياق فإن كلاً من الحركتين الطائفيتين تعمل بوعي ودراية، من أجل تطبيق ما يسمى ( مشروع الشرق الأوسط الجديد ) الذي يقوم على فكرة إعادة تقسيم الأقطار العربية إلى دويلات طائفية صغيرة ليكون الكيان الصهيوني هوالاقوى بينها والمهيمن بالتالي على كل شؤونها وذلك كمرحلة اساسية من مراحل المشروع الصهيوني الاكبر وهو تأسيس " اسرائيل " الكبرى . وهذا ما ينسجم مع الوقائع التاريخية التي تشير الى ان بريطانيا ( صاحبة مبدأ فرق تسد ووعد بلفور الذي نشأ بموجبه الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة ) هي من اسس حزب الدعوة وحزب الاخوان المسلمين في الاربعينيات من القرن الماضي وانها اوكلت تنفيذ ذلك الى اجهزة المخابرات البريطانية .
ومن الادلة الراسخة على عمق التنسيق وعملهما في سبيل إنجاح ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الجديد، هي التحالفات التي جمعتهما في العراق بعد الاحتلال الامريكي له، فلكل منهما قواعده الحزبية المتمثلة بشكل أساسي في ( حزب الدعوة ) والاحزاب الاخرى الموالية لايران ، وفي ( الحزب الإسلامي في العراق ) .
كان احتلال العراق، وما رافقه من تحالفات مع أميركا وبريطانيا، كاشفاً واضحاً لأهداف الإخوان المسلمين ولأهداف الاحزاب والتيارات التابعة الى النظام الإيراني. وإن التذكير بحقيقة وجودهم في عقر دار دول العدوان وتمهيدهم له لسنين طويلة ودخولهم إلى العراق تحت مظلة الاحتلال الأميركي، قد ألقى مزيداً من الضوء على علاقتهم الوثيقة بالاحتلال ، ومشاركته في مشاريعه وأهدافه. وإن من البراهين الأكثر وضوحاً كانت مشاركتهم جنباً إلى جنب في أول ( مجلس حكم ) أسسه الاحتلال لإدارة شؤون العراق المحتل. حيث كان لكل منهما ممثلين في المجلس المذكور. ومن بعده كانت مشاركتهما في الموافقة على نص الدستور الذي وضعه الاحتلال، والذي اتاح لهم التمثيل في ( العملية السياسية ) التي فصّلها الاحتلال على قواعد المحاصصة الطائفية، وتولوا المناصب الحكومية طوال فترة الاحتلال الأميركي حتى تاريخ هزيمته وفرض الانسحاب عليه تحت ضربات المقاومة الوطنية الباسلة . واستمر تعاونهم ومشاركتهم في ( العملية السياسية ) ذاتها تحت إشراف النظام الإيراني. وعن ذلك وللبرهان على ضلوع نظام ولاية الفقيه في إيران في التعاون مع الإدارات الأميركية منذ احتلال العراق، كان تصريح أكثر من مسؤول إيراني عن الدور الإيراني المباشر في تنفيذ المشاريع الأميركية، حيث كان التصريح المذكور واضحاً في أهدافه ومراميه، اذ نص على انه : ( لولا إيران لما كانت أميركا قد دخلت كابول وبغداد ) .
وأما على الصعيد العربي العام، فبعد انهيار السد الامني القومي الذي كان يشكله العراق في ظل نظامه الوطني فقد اندفعت تلك الاحزاب والتيارات لتساهم بالتفتيت والدمار الذي تشهدة العديد من الاقطار العربية تحت رعاية ايرانية واضحة
وبين هذه الساحة أو تلك، كانت الصهيونية والرأسمالية العالمية، تقودان الاحداث هنا أو هناك، وذلك من أجل تطبيق مبادئ التفتيت والتقسيم على قواعد إنشاء دويلات طائفية تحول بشكل نهائي دون مشاريع توحيد الوطن العربي وتمهد للمشروع الصهيوني الاكبر من الفرات الى النيل .
نظام الطائفية السياسية لا يعيش خارج عوامل الاستقواء بالخارج-
لبنان مثالاً:
لقد عُدَّ النظام الطائفي السياسي في لبنان ( أنموذجاً ) لمضمون مشروع الشرق الأوسط الجديد. وهذا ما تُثبته الأحداث التاريخية، وكذلك الوقائع الحالية. وعن ذلك، حُكم لبنان، من بين كل الأقطار العربية، بنظام الطائفية السياسية. إذ تعود أصوله التاريخية إلى العام 1864. وأطلق على تأسيسه الأول بـ ( متصرفية جبل لبنان ) .
فنظام المتصرفية هو نظام حكم أقرته الدولة العثمانية، بمشاركة عدد من الدول الأوروبية، بعد مذابح حصلت بين الدروز والموارنة في جبل لبنان، وعُمل به منذ العام 1864 إلى العام 1918. وقد جعل هذا النظام جبل لبنان منفصلاً من الناحية الإدارية عن باقي بلاد الشام، تحت حكم متصرف أجنبي مسيحي عثماني غير تركي وغير لبناني، تعينه الدولة العثمانية بموافقة الدول الأوروبية العظمى: بريطانيا وفرنسا وبروسيا والنمسا وإيطاليا. بحيث يسعى كل مندوب في اللجنة الدولية إلى جعل مقرراتها تخدم مصالح بلاده في لبنان. ويكون للجبل مجلس من إثني عشر عضواً: 4
عن الموارنة، و3 عن الدروز، و2 عن الروم الأرثوذكس، وواحد عن كل من السنة والشيعة والروم الملكيين الكاثوليك.
وبعد مرور قرن ونصف القرن تقريباً، ما يزال النظام في لبنان يعيش عصر ( المتصرفية ) ، وإن كان بثوب حديث. ورغم انه يتم اختيار رجالاته بطريقة ديموقراطية، ولكن العملية تكون محكومة بثابتين هما:
- توزيع المسؤوليات على قواعد المحاصصة الطائفية، بدءاً من رئاسة الجمهورية، ومروراً بتشكيل الحكومة ورئاستها، وبعدد أعضاء مجلس النواب ورئاسته، وانتهاء بتوزيع الوظائف بكل مستوياتها.
- تكون كل طائفة في لبنان مرتبطة بعوامل الاستقواء الخارجي الدولي والإقليمي من جهة، وعوامل الاستقواء العربي بامتداداته الطائفية من جهة أخرى.
وعلى هذا الأساس، صعد نجم طائفة من الطوائف اللبنانية في مرحلة وأفل في مرحلة أخرى، بشكل يتناسب مع عوامل الاستقواء الخارجية. واستطراداً، فقد كانت الطائفة المارونية، المدعومة من الانتداب الفرنسي تحتل مركز القرار في النظام اللبناني. وبعد العام 1982، صعد نجم الطائفة الشيعية بعد دعمها من قبل النظامين السوري والإيراني.
إن كل ذلك يثبت أن التفتيت الطائفي، ونظام المحاصصات الطائفية، يجعل من كل الطوائف ضعيفة وهذا بالذات هو ما يدفعها للاستقواء بالخارج. ان هذا الاستقواء يقوِّض أسس المجتمع المدني، ويجعل الوحدة الوطنية هشَّة لا تصمد أمام هبَّة واحدة من الرياح القادمة من الخارج.
وقد أثبتت وقائع ما سمي بـ ( الربيع العربي ) ومكامن انعكاساتها الخطيرة على لبنان مخاطر كل ذلك . فعلى الرغم من تحييد لبنان عن رياحه ، في الفترة ما بين بداية انطلاقه وبداية انحساره، الاّ ان المجتمع اللبناني كان يقف خلاله على حافة الهاوية. الا ان السبب الذي منع قوى التدخل الخارجي من الوقوع بها هو أن لبنان كان في خرائط القوى العالمية تفصيلاً يمكن حياكة ثوبه على حسب ما كانت سترسو عليه أوضاع مشروع الشرق الأوسط الجديد. ولولا هذا السبب، لعرف لبنان ( في حالة اندلاع الحريق على ساحته ) أسوأ مرحلة في تاريخه لما كان سيتعرَّض له من اقتتال طائفي أشد دموية مما جرى على الساحات العربية الأخرى، وذلك لشدة التداخل السكاني بين طوائفه. وبذلك كان النظام الطائفي السياسي قنبلة جاهزة للتفجير في أية لحظة لتضع ( السلم الأهلي ) في لبنان في خبر كان.
ان هذا الواقع لم تكن الأطراف الداخلية في لبنان لتدركه، أو تدرك مخاطره. كما انه سيبقى حاضراً في مخططات الخارج، لاستثماره في وضع تسويات للمنطقة كلها، ولإبقائه عاملاً مؤثراً في الهيمنة على القرار السيادي في لبنان. ومن هنا يتأكد كم هو ضروري دور القوى والأحزاب الوطنية والقومية ً في النضال من أجل إلغاء نظام الطائفية السياسية. ومن أجل ذلك ظلَّ حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان يرفع هذا الشعار ويحضُّ على تنفيذه مهما طال الزمن.
العراق بعد الاحتلال وُضع على طريق ( اللبننة ) :
قبل احتلال العراق، في العام 2003، كان يُضرب بالنظام اللبناني المثل ، كأنموذج للنظام الطائفي السياسي. وجاء احتلال العراق لكي يلبنن ( العملية السياسية ) فيه. وبعد احتلال العراق، كان من المخطط له من قبل واضعي مشروع الشرق الأوسط الجديد، أن ( يُعرقنوا ) الأنظمة الجديدة. والدليل على ذلك، هو ما ورد في أحد تصريحات وزير الدفاع الأميركي في عهد إدارة جورج بوش الإبن دونالد رامسفيلد ، عندما كان يعرض خطة احتلال العراق، واقفاً أمام خريطة للمنطقة ، اذ قال ما مفاده ، " إن العراق يمثل محور الدائرة المحيطة به، فإذا سقط تتدحرج الأنظمة الأخرى كأحجار الدومينو" .
وبعد عدة أيام من احتلال بغداد، صرَّح بول وولفويتز، أحد أعمدة مشروع ( نحو قرن أميركي جديد ) ، قائلاً: " إذا توقفنا عند العراق فكأننا لم نفعل شيئاً". ان تلك التصريحات الموثَّقة، تثبت أن نشر الطائفية السياسية كان أهم أعمدة مشروع الشرق الأوسط الجديد القائم على تقسيم المنطقة كلها، وخاصة أقطار الوطن العربي، إلى دويلات تحكمها أنظمة المحاصصات الطائفية.
لذلك نرى من المفيد هنا أن نستعرض بإيجاز كيف قوَّض الاحتلال أسس النظام الوطني في العراق، وأرسى بديلاً عنه نظاماً طائفياً سياسياً، بحيث وضع كل طائفة فيه في مواجهة حادة مع الطوائف الأخرى. ومن أهم تلك المظاهر، نذكر ما يلي:
• تشكيل ( مجلس الحكم الانتقالي ) في بداية أيام الاحتلال، على قواعد تمثيل الطوائف فيه.
• لغم الدستور ، الموضوع أميركياً والمبارك إيرانياً، بنصوص كانت واضحة بهدف تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم: ( شيعي وسني وكردي ) ، مع ابقاء حبلها مفتوحاً على تشكيل أقاليم أخرى.
• تقسيم المناصب الرئاسية حسب الاعراق والطوائف فجرى تثبيت رئاسة الجمهورية للأكراد، ورئاسة الحكومة للشيعة، ورئاسة مجلس النواب للسنة. وبين هذا الموقع أو ذاك، كان يُسمى نواب للرؤوساء من المذاهب أو الأعراق الأخرى.
• توزيع حصص وظائف الدولة، بناء على محاصصات طائفية، وليس بناء على الكفاءة والخبرة المهنية والعملية والتخصص العلمي.
• تشكيل الجيش الحكومي وأجهزة الأمن الداخلي، و أجهزة المخابرات على قواعد الولاء لأمراء الطوائف ، بحيث يكون لكل شريحة طائفية أجهزتها واختراقاتها في كل تلك الأجهزة.
• تقسيم الحصص في البنية الفوقية والتحتية للدولة بين الطوائف ، بحيث يتم اختيار من يملأ تلك المواقع من بين الفاسدين والجهلة واللصوص، وسيئي السلوك والأخلاق. على ان يكون المعيار الوحيد لكل تلك التشكيلات هو الولاء للإدارة الأميركية و للنظام الإيراني، ومن بعده لا تهم اية معايير أخرى .
• نتيجة للمظاهر المذكورة أعلاه، عرف العراق، وما زال، أسوأ مراحله التاريخية. فمنذ ذلك الحين يسود الفساد والرشوة وشراء المناصب وسرقة ثروات الدولة وعدم الاهتمام بالحد الأدنى من البنى التحتية على صعيد الخدمات العامة.
• وفوق هذا وذاك، انتشرت موجة المعممين من الذين تمَّ تسخيرهم لخدمة أغراض الاحتلال الأميركي والإيراني بشكل مباشر. فتكاثرت موجات الحقن الطائفي والمذهبي، وتكاثرت مظاهر الصراع الطائفي بشكل كبير، وذلك بتشجيع من وكلاء الاحتلالين، من أجل تفكيك البنية الاجتماعية للشعب العراقي وذلك امعاناً بسيطرة الاحتلال الاجنبي .
وعن هذا الدور، وتلك النتائج، لعب النظام الإيراني أخطر الأدوار، بما يفوق كثيراً دور الاحتلال الأميركي. ويعود السبب في ذلك لأن الاحتلال الأميركي كان عاجزاً عن تحقيق هذا الامر لافتقاده الى الحاضنة الشعبية له. بينما يعتبر النظام الإيراني أن له حاضنة شعبية، خاصة بزعمه المستمر على انه هو من يمثل الطائفة الشيعية. ولذلك عاث في ابنائها تخريباً وتجهيلاً وعلى كل المستويات ثقافيا وقيميا وخلقيا. اضافة الى إغراقها في ممارسة الطقوس الخاصة من خلال أشكال وألوان من الممارسات الغريبة التي يأنفها الفكر الديني بما فيه المذهبي التقليدي.
وفي المقابل كان الاحتلال الأميركي، ومن قبيل تبادل الأدوار وتكاملها، يُعنى بتشكيل الجماعات السنية المتطرفة، وذلك من قبيل توليد الأضداد الطائفية التي يبرِّر وجود الواحد منها وجود الآخر.
كان تبادل الأدوار بين الاحتلالين، في تنمية وتغذية النزعات الطائفية، ضرورياً لإبقاء الإصبع العراقية جاهزة لإطلاق النار ضد خصومها المذهبيين. وكانت النتائج أن المجتمع العراقي تحول لفترة من الزمن و لأول مرة في تاريخه الحديث، إلى مجتمع مفتت ومتقاتل، يكفِّر بعضه البعض الآخر، ويقتل بعضه البعض الآخر. ومن فاته من تكفير وقتل، كانت تكمل حكومة الاحتلال على الباقي منه. وبهذا تحوَّل منهج الدفاع عن المذهب، أو العرق، إلى قاعدة عامة في علاقات العراقيين بعضهم مع البعض الآخر، وأصبح الولاء للوطن لغة خشبية عند معظم العراقيين الغارقين في وحول الطائفية.
الأقطار العربية الأخرى، وُضعت على طريق ( العرقنة ) :
إن صورة استفحال أنظمة المحاصصة الطائفية في لبنان والعراق، ستبقى الدرس الأكثر وضوحاً من أجل الاستفادة منها في كل الساحات العربية المشتعلة من سورية إلى اليمن مروراً بليبيا. خاصة أن مشروع الشرق الأوسط الجديد، وإذا كانت قد ضعفت ركائزه، باستثناء الإصرار على تطبيقه من قبل النظام الإيراني، الا انه ما يزال يُنذر بالخطر إلى أن يتم استئصاله بشكل نهائي، وهذا ما يتم التخطيط له للساحات السورية واليمنية والليبية. وحتى إذا وصل إلى هذه النتيجة، فيجب أن لا يعني ذلك أنه انتهى كاستراتيجية للاستعمار الأميركي والحركة الصهيونية العالمية المتكاملة في اهدافها مع أيديولوجيا ولاية الفقيه الايرانية . وإنه سيبقى ماثلاً كخطر كبير تجب مواجهته في الفكر وعبر عمليات التلاحم المجتمعي والسياسي، التي تقع مسؤوليتها على عاتق حركة التحرر العربي أولاً، وعلى الأنظمة الرسمية العربية ثانياً، لأنه مشروع يهدد بنية الدولة العربية على المستوى القطري، كنقطة انطلاق لتطبيقه في كل الوطن العربي.
الحل هو في قيام دولة وطنية مدنية بعمق عربي :
وإذا كان هذا هو المناخ العام السائد حالياً في العراق، و لبنان وليبيا واليمن وسورية، إلاَّ أن هذا لا يعني أن المعركة انتهت فلأن للفكر الوطني والقومي قوى ثورية مازالت تناضل ، وترفض كل ماهو طائفي وعرقي وعشائري ومناطقي . وهنا، نستحضر الفكرالعربي القومي الذي شخص امراض المجتمع العربي وفي مقدمتها الطائفية وهذا ماجاء به حزب البعث العربي الاشتراكي في نظرته للمسألة الطائفية .
فالحل الذي جاء به حزب البعث لمعالجة مايحدث على سبيل المثال في العراق هو العمل بمبدأ المواطنة والمساواة بين المواطنيين وممارسة الحرية الدينية ، وإحلال عقيدة الدفاع عن الوطن وحمايته محل الولاءات الاخرى ، واعتبار الاعتقاد الديني والمذهبي حرية فردية. ففي الوطن تسكن مجموعات لها عقائد دينية ومكونات اثنية و عرقية، كما هو واقع الحال في اغلب دول العالم ، لذا لن يجمعها إلاَّ نظام سياسي وتشريع موحد يضمن الوحدة الوطنية والعدالة والمساواة وحرية الاعتقاد الديني لكل أبنائه.
وخلافاً لمبادئ أنظمة المحاصصة الطائفية، نصت الفقرة ( 2 ) من المبدأ الأساسي الثاني من دستور حزب البعث العربي الاشتراكي، على ان : ( قيمة المواطنين تقدر، بعد منحهم فرصاً متكافئة، بحسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى أي اعتبار آخر ) .
لذا تبقى الأوطان موحَّدة إذا اجتمع سكانها حول هدف واحد هو الولاء للوطن، وتتفتت إذا كان الولاء للمذهب هو البديل. كما وتنص المادة ( 15 ) من الدستور على ان : ( الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية ) . من كل ذلك، يتبنى حزب البعث العربي الاشتراكي مبدأ الولاء للوطن على حساب الولاء للمذهب والطائفة .
وأخيراً، ندعو الى صحوة عربية تدعو للعودة الى الاسس السمحة الجامعة للدين الاسلامي الحنيف ونبذ الطائفية ايا كانت من اجل ان نكون اقوياء ، فسر قوتنا يكمن في وحدة الصف وبناء دولة مدنية، يتساوى فيها الجميع بالحقوق والواجبات. وأن الدفاع عن وحدة الوطن والامة والحرص عليهما هو قوة لجميع ابنائهم وهي كفيلة بان تعفيهم من عبء الاستقواء بالخارج. كما أن الولاء للوطن والامة يشكل اكبر حماية للمعتقدات الدينية ، فلقد اثبت التاريخ فشل الدويلات الطائفية في حماية ابنائها كما فشلت في توحيد المجتمعات .
مكتب الثقافة والاعلام القومي
١٩ / تمــوز / ٢٠١٩