بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
|
الى اين انت ذاهب يا سيدي
|
شبكة البصرة
|
القس لوسيان جميل
|
المقدمة: في الخمسينيات من القرن المنصرم، صادف ان شاهدت فيلما بعنوان كوفاديس. ذلك الفيلم كان يحكي بشكل سينمائي قصة اضطهاد المسيحية الناشئة في روما الوثنية، في عهد الطاغية المجنون نيرون، والذي يقال عنه انه احرق روما ليتمتع بنيرانها، ثم اتهم المسيحيين بحرق هذه المدينة. وبما انه كان قد مضى وقت طويل منذ مشاهدتي ذلك الفيلم، الذي كان عنوانه: كوفاديس، فقد ذهبت الى موقع ويكيبيديا، لاستكمال بعض المعلومات عن الفيلم المذكور، وتأكدت من هذا الموقع ان الاسم الكامل لذلك الفيلم كان Quo vadis domine ومعناه الى اين انت ذاهب يا رب، او يا سيد، وان ذلك الاسم يأتي من رواية قديمة في روما، بعد ان تنصرت، هذه الرواية التي كانت تقول: لما اشتد الاضطهاد في زمن نيرون على المسيحيين، قصد مار بطرس، زعيم الحواريين، أن يترك روما خوفا من الاضطهاد. وتقول القصة: ولما وصل مار بطرس بوابة المدينة، ظهر له السيد المسيح في رؤيا، فقال له مار بطرس بعفوية، وربما بنبرة الخوف على معلمه: الى اين انت ذاهب يا سيدي؟ فأجاب السيد المسيح قائلا: سوف اذهب الى روما لأصلب من جديد. وتقول الرواية ايضا، أن مار بطرس خجل من عتاب السيد المسيح له، وعاد ادراجه الى روما، حيث استشهد فيهـا.
تحديد اهداف المقال: قرائي الكرام! كما سوف ترون، من المؤكد، اني لن اقدم لحضرتكم مقالا عن اضطهاد المسيحيين الأوائل في المملكة الرومانية، كما اني لن اتكلم عن استشهاد مار بطرس وغيره في هذه المدينة الوثنية القديمة، غير انني سوف اقدم لحضرتكم شيئا عن خوف مار بطرس امام الموت، ومحاولته ترك الرسالة والهرب الى خارج روما، حفاظا على حياته، كما سأحاول ان اقدم قصة مار بطرس، كدرس مهم لنا نحن العراقيين، بعد الاحتلال. فما حدث في الواقع لمار بطرس يمكن ان يحدث لكل انسان، لأن ما حدث لمار بطرس يعود الى ثوابت انسانية وإيمانية في طبيعة الانسان. كما يمكن ان يحدث خاصة لكل مناضل او مجاهد ضد الاحتلال الباغي.
قصة توضيحية أخرى: وهنا! وزيادة في غنى المقال، اذكر ايضا اني قد شاهدت, منذ زمن طويل، فيلما آخر تحت عنوان: حوار الكرمليات. اما مختصر قصة هذا الفلم، فيقول بأن احد أديرة الراهبات الكرمليات، تعرض للاضطهاد في اعقاب الثورة الفرنسية، وتم اعدام جميع الراهبات، الواحدة بعد الأخرى بالمقصلة. غير ان هذا الفيلم ايضا مثل فيلم كوفاديس لا يتعرض لمسألة الاضطهاد نفسه، ولكنه يتكلم عن قدرة الايمان على ان يساعد صاحبه على التغلب على خوفه، حتى لو كان الانسان يرتعب من الخوف بطبيعته، ازاء اي خطر.
وتقول القصة ان راهبة صغيرة كانت تنتمي الى ذلك الدير. وقد قدمها الفيلم منذ البداية كبنت تخاف من ظلها. اما هذه الراهبة الصغيرة فقد كانت خارج الدير عندما هاجمه رعاع الثورة الفرنسية، وبدءوا عملية اعدام الراهبات واحدة بعد أخرى. فلما سمعت الراهبة الصغيرة بالخبر بقيت فترة من الزمن تتصارع مع خوفها، قائلة في نفسها: ترى هل علي ان اهرب الى مكان آمن ولا اعود الى الدير، ام اذهب الى الدير لكي اشارك اخواتي مصيرهن، وشهادتهن الايمانية. اما في نهاية الفلم، وهنا اسرد من الذاكرة فقط، يقدم لنا المخرج المشهد الأخير للإعدام، وفيه نرى عددا قليلا من الراهبات اللواتي كن تنتظرن دورهن للإعدام، ولكن المخرج يظهر لنا خاصة الراهبة الصغيرة، وقد حضرت بشكل طوعي، واصطفت في المؤخرة، لتعدم مع اخواتها الأخريات.
حوار الايمان والخوف: قرائي الأفاضل! في هذا المقال سوف اتكلم بصورة خاصة عن حوار الايمان والخوف. فنحن هنا امام حالة انسانية فيها يتجاوز الانسان خوفه ويقبل كل المضايقات وحتى الموت الطوعي في سبيل ايمانه الذي لا يرضى ان يضحي به، حتى لو ضحى بحياته. وهنا طبعا نقول: قد يستطيع علماء النفس والأنثروبولوجيون ان يقولوا لنا شيئا معقولا وعلميـا عن هذه الظاهرة، غير اني اعتقد ان لكل انسان حالته الخاصة، مما يعقد التفسيرات كثيرا ويخرج هذه الظاهرة من ميدان العلم، وان مؤقتا، لتصبح ظاهرة تعود الى وجدان الانسان وضميره، سواء كان هذا الضمير واضحا وقويا ام كان ضعيفا مترددا. علما بأن قصة مار بطرس قادرة على ان تكشف لنا دخيلة النفس العراقية وبواطنها، ولاسيما بعد الاحتلال.
العراقيون بين الايمان والخوف: ولكن، لكي نفهم علاقة قصة مار بطرس بالشعب العراقي، علينا ان نفهم اولا ان الشعب العراقي قد تعرض لاضطهاد حقيقي مثل الشعب المسيحي في روما القديمة، وأن بين الشعب العراقي اليوم، ومنذ عشر سنين، اناسا يشبهون في موقفهم مار بطرس زعيم حواريي المسيح، لكننا نجد بينهم ايضا، من ضعف ولم يواصل مقاومة المحتلين. كما نجد بين الشعب العراقي من بقي متفرجا على التل، منتظرا انتهاء المعركة بين الخير والشر. ولكن مع الأسف بينهم ايضا، من خان العراق، مثلما خان يهوذا الاسخريوطي سيده المسيح، مقابل ثلاثين من الفضة. اما شهداءنا الأعزاء ورموزنا الوطنية، من الذين لم يترددوا دقيقة واحدة في مواجهة العدو الغادر، فلن نقول عنهم، في هذه العجالة، سوى انهم صاروا بالحق والحقيقة الأكرم منا جميعا، على الرغم من قلتهم. مع تحية خاصة، لكل من قرر الجهاد من اول يوم من ايام الاحتلال، وربما قبل ذلك، ولا زال حيا يرزق ويجاهد في سبيل الحق العراقي.
السفاحون قديما وحديثا: اما اذا سألنا عن السفاح في العراق، فلم يعد هو نيرون الطاغية القاتل، لكنه المجرم بوش الذي لم يختلف كثيرا عن نيرون السفاح، ولا عن هتلر النازي، مع اختلاف الظروف طبعا، حيث يظهر لنا اليوم بأن جريمة المجرم بوش الذي جرمته بموجبها محكمة كوالالامبور، اكثر جبنا وخسة ونذالة من جريمة نيرون وهتلر النازي، لأن جريمة بوش الابن، الذي ورثها عنه السيد اوباما وحزبه، وزاد عليها، ارتكبت بحق شعب اعزل لا مجال للمقارنة بينه وبين من اعتدى عليه، من حيث القوة العسكرية وسائر اشكال القوة الأخرى، كما ان هذه الجريمة اقترنت بـلصوصية واضحة، وباعتداء على ثروات العراق، مما يسحب عن بوش الابن صفة الفروسية التي كان كل مقاتل شريف يعتز بها في ما مضى من الأيام، عندما بدأ الانسان يتحضر. اما السيد اوباما فلا نعتقد انه يختلف عن سلفه وقلة مبالاته بقواعد الشرف الخاصة بالحروب إلا قليلا جدا، في حين ان اعوان المحتلين اتموا الجريمة التي بدأها المحتلون وزادوا على وحشيتها وحشية لا توصف، معتمدين على قوة خارجية، لم تكن قوتهم الذاتية، مع الأسف عليهم، هذا اذا كان علينا ان نأسف على مثل هؤلاء الأعوان الذين خسروا أنفسهم امام شعبهم وأمام العالم.
مسألة النزوح والهجرة المكانية: مسألة اخرى نعرضها هنا، لكي لا يحدث اي التباس فيما نقول. فقصة كوفاديس، تتكلم عن هروب مار بطرس، من مدينة وثنية معروفة اسمها روما، من اجل انقاذ نفسه من الموت. غير اننا لا يمكننا ان نعمم محاولة هروب مار بطرس على جميع الهاربين ماديا من العراق، لأننا نعرف علميا وروحيا ان لكل شخص بشري تركيبته الفريدة الخاصة، كما له ظروفه المختلفة، ولا يمكن التعميم في حالتنا العراقية، حيث يمكن اليوم ان يكون الهروب بأشكاله المختلفة مختلفا عما كان عليه بالأمس القريب والبعيد.
وعليه نقول لجميع اخوتنا الذين غادروا العراق انقاذا لحياتهم او مدارات لعملهم الوطني، بأن ما نكتبه هنا لا يخصهم، لكي يبقى ضميرهم ومشاعرهم وحدها من يحكم عندهم اولا وأخيرا. نقول ذلك من اجل الحق والعدل، وأيضا لكي لا يستطيع احد ان يصطاد في الماء العكر ويقول كلاما بحق المهاجرين والمهجرين غير منصف وغير حقيقي وغير عادل. علما بأن الهجرة الحقيقية ظاهرة مقبولة، لا بل ممدوحة في جميع الأديان، لأن الهجرة غالبا من تسبق النصر والتحول.
غير انه، وعلى ما يبدو، لم يكن هروب مار بطرس مجرد هجرة مؤقتة، وانما كان تخليا عن الرسالة، ولذلك كانت تنطبق على هذا الهروب كلمة يسوع المسيح في الانجيل: من انكرني قدام الناس ينكره ابي امام ملائكته في السماوات. الأمر الذي ينطبق على كل شكل من اشكال الانكار، الذي سنتكلم عنه ادناه، باستثناء الهجرة الجغرافية والمكانية. فما حدث في حياة مار بطرس، بحسب قصة بوابة روما، هو توبة حقيقية وسريعة بعد الكلام الذي سمعه من سيده يسوع، ولذلك تستحق هذه التوبة، مثل توبته السابقة المذكورة في الانجيل، في اليوم الذي انكر فيه معلمه يسوع ثلاث مرات، قبل ان يصيح ديك الفجر، هذا الصياح الذي اعاد مار بطرس الى رشده الايماني وجعل دموع التوبة تهطل من مقلتيه غزيرة.
حالة المؤمن بطرس النفسية: غير اننا في هذه الفقرة نعود قليلا الى مار بطرس ثانية، وهو امام بوابة روما، لكي نستفيد من هذه اللقطة امرا مهما وهو ان كلمة واحدة تكفي المؤمن لكي يشعر بتقصيره ويعود الى رشده. وبما ان ظهور السيد المسيح لمار بطرس يدخل في اطار قصصي بوضوح، يحق لنا ان نوظف شيئا من الأنثروبولوجيا وعلم النفس فنتكلم عن الضمير الذي يقوم مقام السيد المسيح في القصة المذكورة، او يقوم مقام الله الذي يتكلم مع البشر بأشكال مختلفة وأشباه شتى. من هنا تكون طاعة الضمير من الفضائل المهمة في الحياة الروحية الانسانية. فصحيح ان الله ( الحق والعدل ) احق بالطاعة من الانسان، ولكن، وكما يقول جزء من آية قرآنية كريمة: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
إلا اننا هنا قد نتساءل ونقول: ترى ما هي درجة هذا الوسع يا ترى، ومن يكون الحكم في ذلك؟ ونجيب انه ضمير الانسان نفسه، ببنائه الانساني وسخائه الشخصي، لكي يبقى الانسان بالنتيجة هو الذي يقرر ويختار عمله، على ضوء الدوافع والمحرضات الانسانية والإيمانية الالهية. ومع ذلك، علينا ان لا ننسى بأن الروح فينا، يحل في آنية من خزف، هي بطبيعتها ضعيفة وقابلة للعطب، على حد قول مار بولس، الأمر الذي يتطلب حوارا داخل الانسان لكي يصل الانسان الى شيء من التوازن بين روحه وجسده، وبين ايمانه ومخاوفه الكثيرة، ولكي يستطيع هذا الانسان ان يقرر بحرية، من خلال المساعدة الايمانية التي يتلقاها، ومن خلال المرونة والمطاوعة التي يبديها امام حركة الروح، حيث يكون الانسان احيانا، مدعوا دعوة خاصة الى تجاوز الحد الوسط كثيرا، باتجاه الروح طبعا، كما حصل لمار بطرس امام بوابة روما، وكما يمكن ان يحصل لكل واحد منا امام الشدائد.
تطبيق القصة: بما اننا قلنا في فقرات سابقة اننا لن نتكلم عن حالة الهجرة المكانية والجغرافية، لأسباب عديدة، ومنها تعقيد هذه الحالة، لذلك قد يسأل سائل ويقول: اذن عن اي هروب سوف تتكلم؟ ونجيب السائل على عجل ونقول له: اننا سوف نتكلم عن هروب آخر، هو الهروب الحقيقي الذي يدمر حياة الانسان. وفي الحقيقة هنا توجد امكانية لنعمل من هذا الموضوع مقالات ومقالات، ولكننا سوف نكتفي بالإشارة الى بعض حالات الهروب التي لاحظناها لدى الشعب العراقي بعد الاحتلال، وربما ما قبله ايضا، منذ ايام صعوبات الحصار المجرم علينا، هذا الحصار الذي خرب نفسية كثير من ابناء الشعب العراقي وفضيلتهم وأخلاقهم.
الهروب من الالتزامات الأخلاقية: ان اية دراسة انثروبولوجية نفسية للإنسان تظهره لنا متشبعا باقتناعات دينية وأخلاقية انسانية، لا يسهل عليه تجاوزها. وبما ان مثل هذه القناعات تختلف من انسان الى آخر، وربما من شعب الى آخر، من حيث قوتها وضعفها، وتأثرها بالعوامل الخارجية، فإننا نفهم بأن يكون الحصار الذي تعرض له العراقيون منذ اوائل التسعينيات، ثم الحرب المدمرة التي شنت عليه، عسكريا واقتصاديا ونفسيا، جعلت الكثيرين يفرون من معتقداتهم الأخلاقية طلبا للحماية في انتماءات أخرى، كانت في الواقع جزءا من الاحتلال. وبما ان المسألة لم تكن هينة على الانسان العراقي فقد وجد هذا الانسان لنفسه اعذارا ومبررات تغطي على عجزه وخيانته ونقص ايمانه الديني والوطني. اما هذا التبرير فقد ارتدى اشكالا مختلفة، لكنها جميعها تقع في بند نفسي يتكلم عن ميكانيكية الحيل الدفاعية، كما جاء ذلك في اطروحة السيد شوقي يوسف للماجستير، في علم النفس. وهذا يعني ان هذه الميكانيكية هي تحايل على الذات وتحايل على الآخرين، وتحايل على الله سبحانه وتعالى. وهكذا تحول الانسان العراقي من الدين الى الطائفية، وتحول البعض الآخر الى ما يسمى بالعلمانية الكاذبة، والديمقراطية التي لم يكن فيها حتى رائحة الديمقراطية. كما اختبأ البعض وراء مظالم كاذبة، ووراء أكاذيب ما انزل الله بها من سلطان، مثل مظلمة الدكتاتورية ومظلمة التمييز العنصري وظلم الأقليات. وهكذا هرب الكثيرون من المواطنة الى الطائفية، ومن وحدة الوطن، الى فرقته الفدرالية، ومن وحدته الى تجزئته، ومن سيادة الوطن الى تبعيته لأقوياء هذا العالم المستبدين واللصوص، ومن حالة كان فيها الوطن يملك كل ثرواته الوطنية الى حالة بعثرة هذه الثروات وإعطائها ثمنا ورشوة للمحتلين.
اما هروب المسيحيين فقد كان اقسى هروب حصل للعراقيين بعد الاحتلال، بعد ان هرب هؤلاء المسيحيون الى احضان المحتلين محتمين بقوتهم وصدقاتهم الوفيرة، كما احتمى البعض الآخر منهم بمحتلين من داخل العراق. غير ان خدعة المسيحيين الكبرى كانت عندما قرر رؤساء المسيحيين ان يتبعوا علمانييهم ويحولوا كنائسهم وطقوسهم الدينية الى كنائس قومية شوفينية ضد الحق والواقع والتاريخ، وضد معطيات علم الاجتماع التي ترفض هذا التضليل، الذي اكد عليه المحتل وطالب به وعلمه لإتباعه وعملائه، ويسكتوا عن جميع جرائم المحتلين، وجرائم اتباعهم، سكوت القبور. علما بأن جميع مسئولينا الدينيين، وغالبية السياسيين المتسيدين علينا خرجوا من بوابة الوطن ومن بوابة المسيحية، ولم يعودوا حتى الآن.
تلكيف – محافظة نينوى – العراق
23- 5 – 2012
|
شبكة البصرة
|
الاربعاء 2 رجب 1433 / 23 آيار 2012
|
قال سبحانه وتعالى
قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم
الخميس، 24 مايو 2012
القس لوسيان جميل:الى اين انت ذاهب يا سيدي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق