بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
|
مابدا بدينا عليه
|
شبكة البصرة
|
د. أحمد قايدي الصايدي |
عملية (تقدير الموقف) من الأبجديات الأساسية، التي يتعلمها طلاب الكليات العسكرية. فقبل بدء المعركة لابد أن يقوم كل قائد عسكري، من مستوى الجيوش والفرق إلى مستوى الفصائل والجماعات، كل بحسب حجم مهامه واتساع جبهته القتالية، لابد أن يقوم بعملية تقدير للموقف، معتمداً على معلومات دقيقة، توفرها عمليات إستطلاعية مختلفة، تأخذ أحياناً شكل الإشتباكات المحدودة، لاكتشاف مصادر النيران ونوعياتها، وأحياناً أخرى شكل الإغارات المدروسة، تقوم بها وحدات خاصة صغيرة داخل مواقع العدو، لجمع المعلومات والإستيلاء على وثائق وخرائط، تكشف مخططات العدو ونواياه. ويتناول تقدير الموقف، في مايتناوله عادة حجم وتسليح ومواقع ومهام ومسرح عمليات القوة التي يقودها، ووضع القوى الصديقة المجاورة. كما يتناول حجم وإمكانيات القوة المعادية، المكلف بالإشتباك معها، ومواقع انتشارها والفواصل بين وحداتها ونوعية الأسلحة في كل موقع ونقاط الضعف في جبهتها، التي يمكن تركيز الهجوم عليها واختراقها، وطبيعة الأرض في مسرح العمليات وكيفية الإستفادة منها،...إلخ. ولايمكن مطلقاً أن يعطي أي قائد، صغر أو كبر، لايمكن أن يعطي أمر البدء بالمعركة، قبل أن يجري تقدير موقف دقيقاً، مبنياً على معلومات دقيقة، وقبل أن يشرحه بالتفصيل لمرؤوسيه ويستمع إلى ملاحظاتهم، ويتأكد من أن كل واحد منهم قد استوعب الموقف واستوعب مهمته القتالية، استيعاباً كاملاً.
فإذا كان تقدير الموقف، على هذا النحو، يتم في الوحدات العسكرية، التي تخوض الحروب، ويُعتبر من أولى أولويات القائد العسكري، مهما كانت رتبته ومهما صغرت مجموعته القتالية، فكيف بمن يقود حركات سياسية، تتصدى لمهام أكبر، يتوقف على حسن إنجازها مستقبل شعب ومستقبل أجيال. وكيف بمن يقود دولة ويتحمل مسؤولية وجودها أمناً واقتصاداً وتعليماً وصحة وتنمية وسلامة أراضٍ... إلخ؟ أظن ظناً يبلغ حد اليقين، أن مهمة القائد السياسي، سواءً كان في السلطة أو كان في المعارضة، هي أكثر تعقيداً من مهمة القائد العسكري، وتتطلب قدرات تفوق القدرات العسكرية. ولكن ترى كم من قادة الأحزاب وقادة الدولة يجري، بشكل دوري، أو على الأقل قبل مباشرة اتخاذ القرار في نطاق مهامه، وفي إطار صلاحياته، كم منهم يجري عملية تقدير دقيق للموقف، أسوة بأصغر ضابط، يخوض معركة عسكرية؟
يقال في التعبير الدارج: "مابدا بدينا عليه". وهذا القول يعبر عن فلسفة المغفلين أمثالنا. وهي فلسفة خارج العصر، بل وخارج العقل. ومع ذلك لا أتردد في الزعم بأنها هي بالضبط الفلسفة، التي تحكم تفكيرنا وسلوكنا حتى الآن. فنحن عادة لانفكر في حل مشكلة من المشاكل التي تواجهنا إلا بعد أن تكون قد استحكمت وغمرتنا حتى الرقاب. عندها فقط نتخبط ونصرخ ونهذي، ونظن أننا بذلك نحلها، وإن لم تنحل نتجاهلها. وكأن لسان حالنا يردد حكمة الحمار، المتمثلة في هذه الأبيات:
أقول كما يقول حمار سوءٍ *** وقد ساموه حملاً لايطيق
سأصبر والأمور لها انفراج *** كما أن الأمور لها مضيق
فإما أن أموت أو المكاوي *** وإما ينقضي عني الطريق
بعض الحكام والقادة السياسيين العرب لاتمكنهم قدراتهم ولاثقافاتهم من مغادرة فلسفة الحمار هذه. فهم مسترخون راضون بها، يطبقونها في شؤوننا العامة. وإن كانوا على الأغلب لايطبقونها في شؤونهم الخاصة.
تقدير الموقف مسألة ضرورية، في الشأن العام، كما هي في الشأن الخاص. ولايمكن لبلد أن يعالج مشكلاته ويدير شؤونه وينهض بأحواله، إذا لم تكن قياداته في مستوى من الوعي يمكنها من تقدير الموقف، تقديراً سليماً، في كل مايتعلق بالعلاقات الخارجية، وكل مايتعلق بالعلاقات الداخلية. فالأعداء في الخارج كُثر، ولابد أن نتبين قدراتهم ونعرف مصالحهم ونقف على أهدافهم ومخططاتهم، حتى نتعامل معهم تعاملاً محسوباً. والأصدقاء كُثر أيضاً، ولابد أن نتبين قدراتهم وسبل الإستفادة من إيجابياتهم وتحاشي سلبياتهم وطرق التفاعل المثمر معهم، ونوع العلاقات، التي يمكن أن نقيمها بيننا وبينهم، والتي من شأنها أن تخدم مصالحنا ومصالحهم. إن تقدير الموقف على هذا النحو، كفيل بأن يقينا اختلاط الأمور، ويجنبنا التعامل مع العدو على أنه صديق، والتعامل مع الصديق على أنه عدو. لأن هذا الخلط وعدم التمييز، بين العدو والصديق، يمكن أن يلحق أضراراً بمصالحنا وبأمننا القومي، يصعب علاجها.
وكما هو تقدير الموقف ضروري في علاقاتنا الخارجية مع دول العالم، فهو ضروري أيضاً في علاقاتنا الداخلية، أي في تعاملنا، بعضنا مع بعضنا الآخر. لاسيما تعامل القوى السياسية، مع بعضها، باعتبارها جميعها شريكة في الوطن، مجبرة على أن تنشئ علاقات في مابينها، حتى وإن اختلفت أهدافها وتعارضت مصالحها، ولابد أن تبحث عن مستوى من مستويات الأهداف والمصالح ينتفي عندها الإختلاف والتعارض. وذلك المستوى هو المصالح العليا للوطن. التي تتضاءل بجانبها كل المصالح الفردية والفئوية والحزبية. فالمصالح العليا للوطن تعني أن لكل فرد في هذا الوطن ولكل حزب وفئة ومنطقة نصيبه من تلك المصالح. مالم تطغ فئة حاكمة وتحول المصالح العليا إلى مصالح خاصة. عندها تفقد هذه الفئة شرعيتها، ويتوجب على كل القوى المخلصة أن تتعاون وتتضافر لإزاحتها. منطلقة من تقدير للموقف، يأخذ في اعتباره كل الظروف المحيطة، ويحسب للعقبات والصعوبات حسابها، ويستعد للتغلب عليها، بالقدرات المتوفرة.
كلام نظري قد يفهمه البعض ولايفهمه البعض الآخر. وقد يرى فيه من يفهمه أنه مجرد كلام نظري في الهواء، لانحتاج إلى العمل به. فالذكاء الفطري والحكمة اليمانية كفيلان، بأن يوجهاننا الوجهة السليمة، دون حاجة إلى أن نستخدم العلم، ونشغل أنفسنا بجمع المعلومات ودراسة المعطيات ووضع الفرضيات وتقليب الخيارات، بل حتى دون حاجة إلى أن يشاور بعضنا بعضاً. فما بدا بدينا عليه.
|
قال سبحانه وتعالى
قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم
الجمعة، 31 أكتوبر 2014
د. أحمد قايدي الصايدي : مابدا بدينا عليه
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق