الأسئلة التي تتوارد على الخاطر في هذا الإطار تتكثف في كيفية التأمل والنظر في واقع عربي مأزوم ومتراجع، وأي منهج ورؤية مقترحة للنظر الى هذا الواقع، وأي أفكار بديلة يمكن أن يتمخض عنها النظر والتأمل لتغيير هذا الواقع وتغييره.
أما عن كيفية التأمل والنظر فلا بد من الواقعية والاختبار والاستبار في قراءة المشهد ذلك أن أي قفز عن مثل هكذا واقع بالرؤى الرغبية الحالمة أو التفاؤلية القدرية سوف يقود حتما إلى إبقاء هذا الواقع حبيس الأوهام والأحلام والانتظارية والتوقعات والاحتمالات، ولن نفلح في رؤية العناصر والقوى التي تكوّن هذا الواقع وتحركه وتجعله في هذا الحال من التشطير والتبدد والتأزم وتؤشر على دوام واسترسال كارثيته.
ولابد لنا في مثل هذا الحال والمآل أن نبدأ التأمل والنظر في الظاهرات والتحولات التي جعلت هذا الواقع بهذه الصورة المغبّشة والمبددة ذلك أن مثل ما يجري في وطننا العربي من صراعات وتناقضات ومقتلات لم يأت من خلال مصادفات طارئة وإنما خلقته قابليات وتراجعات وتراكمات داخل نسيج المجتمعات العربية ذاتها أدت إلى تعقده وإنسداده، بالإضافة إلى ضرورة أن تشمل رؤيتنا وإدراكنا التحولات الكوكبية التي غيرت وجه العالم الحديث بصور متعددة وكانت بلادنا مسرحا رئيسا لبعض تطبيقاتها وتجسداتها العملياتية.
أذن رؤية الداخل العربي وتأمله بتفاعلاته ومعطياته السلبية وعوامل تأزمه وإنسداده، ورؤية الخارج ومؤثراته واستدخالاته الاستعمارية المستحدثة هي مقدمات رئيسة في النظر والبحث عن آفاق جديدة في الحياة والمستقبل العربي، وهي رؤية لابد أن تكون في جوهرها نقدية تفكيكية وجارحة تخرج أفاعي الغموض والالتباس والنكوص من أوكارها وتخلق مساحات صالحة للتفكّر والتغيير وتجترح نقاط بداية ممكنة لتجاوز الوضع الراهن.
وليس الذي نقوله ونقترحه من نمط غرائب التفكير ولا من معجزاته وإنما هي خطواته التأسيسية للبدء والإنهمام بواقع عربي نراه يتشظى أمام أنظارنا ويقف عاجزا عن تجاوز راهنه وإشكاليته واشتغاله الانحطاطي ويغط في عجز اسطوري لم يسبق له مثيل، ويولد فراغا استقطابيا غير مسبوق ولا مثيل له.
وبهذا نكون أمام السؤال الاجرائي والنقطة التالية المتعلقة بالرؤية المقترحة للتأمل والنظر والتي نرى جزما وضرورة في أن لا تنطلق من أفكار إطلاقية وعدمية بل من إدراك وإيمان تاريخي عميق بأن الشعوب تقدر على تجاوز واقعها إذا وعت وأدركت هذا الواقع وعيا تاريخيا حافزا، وإذا تكونت وتولدت لديها الارادة وتوفرت لها الطليعة الواعية القادرة على اشتقاق برنامج استراتيجي ودليل عمل واضح يرنو إلى التغيير واطّراح العجز واللامبالاة والإحباط، وإذا حسمت القوى النهضوية والتغييرية أمرها إزاء واقع عربي مأزوم في استنهاض عملية تاريخية من هذا النوع.
وما نقوله عن قدرة الشعوب والجماهير دائما ونكرره في كل المناسبات هو حقيقة تاريخية راسخة في الوعي والعقل العربي حتى اللحظة وليست حلما وهاجسا مفارقا بل هو الأقرب الى التأمل والادراك إذا قرأنا جيدا الإفاقة الأخيرة المجهضة في بلادنا العربية وطريقة انبنائها الجماهيري الذاتي في لحظتها البدئية الأولى وما حملته من وعود وأحلام استمدادا من تلك اللحظة الفارقة ووهجها وتباشيرها النوعية.
إن إدراك ذلك بقياسات ومناهج تفكيرية جديدة يجعلنا ننخرط جميعا في عملية البحث عن الأفكار التجاوزية البديلة واشتقاق الرؤى والمفردات الجديدة ويبعدنا عن التشاؤمية والانسحاب من الساحة، ونريد لهذا الاستغراق الايجابي في فكر الأزمة والتأزم أن يخلق فضاءا جديدا للأمل وتأثيث الفراغ العربي بصور جديدة من التفكير والعمل الاستنهاضي وإدامة التمسك بتاريخ ووحدة وهوية الأمة ليكون ذلك ردا وحلا في آن لكل الإعضالات ومظاهر العجز والتراجع السائدة.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق