أنشأت فلسطين معناها وحفرته في ثنايا التاريخ بقدرات شعبها وحفاظهم على هذا التاريخ الاستثنائي العريق في متنه ومفرداته وسطوره وهوامشه، وتمسكهم الملحمي به ودفاعهم عنه حتى النفس والرمق الأخير وعبر كل العهود والحقب.
لم ينتج تاريخ الأمم والشعوب قاطبة مثلما أنتجته فلسطين من قدرات على البقاء والتحدي وقدرات على المقاومة ومواصلتها طوال قرن وأزيد، إذا أخذنا في الاعتبار قوة ووحشية عدوهم الصهيوني العنصري البربري وسطوته وهيمنته الثقافية والإعلامية على شعوب الأرض وأممها وابتزازها واستنزافها باختلاقاته وهذاءاته عن المحارق والمظلوميات المزعومة.
وآمن أهل فلسطين عبر التاريخ والأجيال بأن أرضهم وأكنافها مقدسة ولم يكن ذلك إدعاءا أو زعما (على طريقة اليهود والصهاينة وأساطيرهم)، بل كان ذلك تصديقا وتجسيدا لما ورد في الكتب السماوية وتعبيرا من التعبيرات العلوية السامية، ولذلك أقنعتهم هذه اليقينات والاعتقادات بأنهم في نضالهم المسترسل ضد الصهاينة إنما يرفعون غمامة عن الأعين ويزيلون غشاوة عن العقول ويبددون ضلالة وأسطورة وخرافة ويدافعون عن حقيقة من حقائق التاريخ ولا يستنبتون تاريخا متخيلا وواهما وأراض موعودة مدعاة ولا يزرعون قباحات وجرائم ومستعمرات في أرض الغير.. لقد كانوا عبر التاريخ والزمن حماة للمقدس ضد المدنس وكان ذلك عنوانا ودافعا لبذلهم الوطني وتضحياتهم.
كانوا وما يزالون يدافعون دفاعا ملحميا عن تاريخ حقيقي وجغرافيا نبوية طاهرة في فلسطين ضد تاريخ أسطوري وجغرافيا مغتصبة فيها، وكانوا بهذا اليقين والمعنى يفتحون فضاءا وأفقا (بدماء وأرواح وأشواق وطنية فلسطينية مشروعة وبريئة) أمام أنظار العالم لكي يرى الخرافات الصهيونية والمسكنة اليهودية، ويقدمون أدلة صارخة وجارحة مضمخة بدماء شعب فلسطين لهذا العالم الغافي عن الحقائق الفاقعة في فلسطين وعن وقائع "هولوكوست فلسطيني" دام يومي حقيقي يقوم به الصهاينة وهم يقتلون الأطفال الأبرياء بلا رحمة وبدم بارد ويهدمون المنازل وينكلون بالجثث بدوسها بأحذية الجند واللقطاء ويحولون بينها وبين أن تدفن بكرامة ويدنسون المساجد ويتجمع جيشهم المدجج بالسلاح والدناءة على جثة طفل مقتول.
يصمدون بهذه المعاني السامية أمام القوة الغاشمة، يرابطون في قلب وروح فلسطين وفي هدأة وحمى الأقصى بحجارتهم وعندما تتعذر الحجارة يلوذون (بأحذية مقطعة وما هو أدنى) لتقذف في وجه الغزاة، عراة إلا من هذا المعنى الكبير الذي يدفعهم الى التضحية ويقودهم إلى هذا الانتصار على الذات وعلى الما- حول العربي المستكين المتلحف بالخنى والخذلان والغارق حتى الرأس بضلالاته وعجزه وإشكالاته، وعلى هذا العالم الأعمى الذي يرى قتل الأطفال دفاعا عن النفس ويلوذ بعاره المديد.
ينوب شعب فلسطين في هذه اللحظات التاريخية الفارقة عن الناس جميعا وعن التاريخ بأكمله لكي يدون مفردات ثقافة تاريخية جديدة تتحدى عقل الأمم والبشرية بمجموعها، حيث يتحدث القتيل الفلسطيني بالصوت والصورة عن القاتل العنصري الصهيوني بفصاحة وعلانية وإدانة، وحيث يكشف القتيل وحشية وزيف وهزالة حجج القاتل وبيناته ويجرده قبلاً من إنسانيته ومحاجاته الفارغة ومن أطروحاته وأزعوماته التي بدت مقبولة لبعض العالم في لحظة تاريخية غابرة وتمسك بها طويلا لإحلال الصهاينة في فلسطين والدفاع عن وجودهم بغيا وجورا وفجورا.
الشعب الفلسطيني يعيد الآن "وكما فعل طوال القرن وفي كل العهود " الحقائق إلى أصولها وجذورها، والتاريخ الملتوي إلى سراطه، والأساطير الى كهوفها ومعاقلها الزائفة وغبارها الخانق، ويضع مجددا أمام عقل العرب معادلة الصراع التناقضي الحاد وغير القابل للمجادلة والمساجلة .. إما نحن وإما هم! أن نكون هنا بحقيقتنا التاريخية أو هم بأساطيرهم المختلقة! وعلى الجيش الصهيوني العنصري الهمجي وكل شذاذ الآفاق الذين يمضون في غيهم وغطرستهم أن يقرأوا المعاني الكامنة في بطولة أطفال فلسطين وهم يتحدون جيشهم الباطش العرمرم بالسكين والحجر، وأن يحدقوا طويلا بعيونهم الزائغة بالعجوز الفلسطينية وهي تتوسد شجرة زيتون دفاعا عن أوراقها وزيتها القادم وأن يتمعنوا بمفتاح بيتها العتيق المستلب المخبأ في عبّها لكي يروا في ذلك إنذارا من إنذارات التاريخ ودعوة جارحة لكي ينصرفوا من هذا التاريخ وهذه الجغرافيا، وكلا سوف يعلمون!
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق