رحل عن عالمنا المفكر القومي البارز، مجدد ورائد العقلانية القومية الدكتور نديم البيطار، الذي تمحور مشروعه الفكري على تأسيس منظومة فكرية قومية تقوم على العلم والعقلانية والاستفادة من معطيات علم الاجتماع والسياسة والثقافة ومدارسها الحديثة في أوروبا والعالم بغية ادماج هذه المعارف في الرؤى العقلانية النقدية الجديدة للفكر القومي العربي.
كان البيطار يعرف بدقّة الفراغات الفكرية المتكونه أو المفترضة داخل مدارس الفكر القومي العربي وتياراته، ويعرف اعضالات هذا الفكر وأزماته، ولذا عمل بكل الطرق على استدخال رؤية نقدية تجديدية – عقلانية في ثنايا هذا الفكر دون الخروج عن أفكاره المكونة والقارّة، بغية اعادة تأسيسه وتجديده وفق منظورات جديدة تتناسب وحال الأمة العربية والتحولات الجارية فيها على كل صعيد، ومن أجل تعميق الفكرة القومية حتى لا تبقى عرضة للتبسيط والتحلل والانسداد.
كانت معظم مؤلفاته تدور حول هذا الهاجس الفكري – العقائدي – الوحدوي الكبير حيث تناولت معظم هذه المؤلفات الأبعاد المختلفة للمسألة القومية والوحدوية وسبل ادراكها بفكر معاصر خلاّق وحيوي، وتحويلها الى برامج وسياقات عملية في الحياة العربية.
ولأن الوحدة العربية قد شغلته بمضامينها وأبعادها، وما طرأ عليها من تطورات فقد خصص لها الجزء الكبير من اشتغالاته النظرية، وحاول أن ينأى بها عن منزلقات التسطيح والتبسيط أو التوظيف السياسي العابر، فوضع لها الأطر والمنظورات النظرية الوحدوية، كما أسس لها القوانين الرئيسة والثانوية التي تشكل فضاء اشتغالها وتجعل منها حقيقة عقلانية قابلة للادراك في الواقع العربي تستحق أن تكون في مقدمة مهام النضال العربي.
ومع أن نظريته عن الاقليم – القاعدة، والحركة العربية الواحدة قد تعرضت للنقد والمراجعة في أكثر من مناسبة، الا أنها كانت تقدم مثالا على الاجتهاد والابداع الفكري الذي كان ممعنا فيه الى حدوده القصوى، ومتمكنا من تنظيره وصياغة مفرداته، كما أنها كانت تدلل دون ريب على محاولاته الدائبة في طرح أنماط من الأفكار التي قد تدفع بالواقع العربي المأزوم الى الأمام أو تأخذه الى مساحات التغيير.
ولأن فكر الدكتور نديم البيطار كان عميقا وخصبا ومركبا يستحضر النظريات والأفكار التأسيسية المعمقة، ويجول في كل ألوان النظريات الغربية لأخذ عصاراتها واستخلاص العبر والدروس منها، فقد عدّ البعض أطروحاته الهامة خطابا نخبويا لا يمكنه أن يتحول الى دليل أو برنامج عمل نضالي، أو أن يكون فكرا ارشاديا ملهما للأحزاب والقوى القومية، ولذا طاله التعتيم وعدم الانتشار، وبقي تراثا نظريا للفكر القومي يعد من أبرز المشروعات النظرية التي أسهمت في تطوير هذا الفكر.
وعلى الرغم من كل ما قيل وما يقال عن المفكر الراحل نديم البيطار وفكره، الا أنه يبقى علما من أعلام الفكر القومي العقلاني، ومناره يستهدى بها دائما في كل المنعطفات والمراحل، وتبقى مؤلفاته اطروحات نتمنى أن تعاد قراءتها باستمرار وتحديدا في هذه المراحل الفاصلة من حياة الأمة العربية التي يراد بها اجتثاث هذا الفكر وتتفيهه واخراجه من ساحة التداول، وهي فرصة لكي نطالب مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت لاعادة طباعة مؤلفاته الكاملة وتعميمها نظرا لأهميتها الفكرية الفائقة والراهنة.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق