قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

السبت، 1 سبتمبر 2012

صلاح المختار : لماذا يعتمون على الانتفاضة السودانية؟

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لماذا يعتمون على الانتفاضة السودانية؟
شبكة البصرة
صلاح المختار
لا خير فيكم اذ لم تقولوها، ولا خير فينا اذ لم نسمعها
عمر بن الخطاب (ر)

كتبت هذا المقالة في الايام الاولى لبدء الانتفاضة السودانية ولكنني تريثت في نشرها لسبب واحد وهو ان تتبلور النظرة والموقف الدولي الغربي منها بشكل لا يقبل التأويل وعندها سوف تقدم احداث السودان مؤشرات اخرى تضاف الى مؤشرات احداث بقية الاقطار العربية التي تثبت وجود مخططات امريكية تستغل فساد واستبداد الانظمة وعمالة بعضها لتفجير فوضى هلاكة تحرق الاخضر واليابس، لتكون بديلا ومانعا للتغيير الثوري المطلوب منذ عقود، والان وبعد اسابيع على انطلاق الانتفاضة السودانية المباركة وما وصلت اليه وملاحظة مواقف كافة الاطراف منها اجد من الضروري نشر المقال لاهمية فكرته الاساسية والتي سوف تطرح نفسها من خلال العرض والتحليل.
صلاح المختار 29/8/2012

نص المقال وبنفس تاريخ كتابته الاصلي
ما يلفت النظر بطريقة مدهشة هو ان الانتفاضة الشعبية التي بدأت في السودان تتمييز عن غيرها من الانتفاضات العربية الاخرى كالتي حدثت في تونس ومصر، بانها تمتلك العوامل الاساسية المطلوبة لضمان النصر وتحولها الى ثورة شعبية حقيقية تحقق اهداف الشعب الاساسية، وهو ما سنوضحه، ولكن، ورغم هذه الحقيقة المعاشة والميدانية، فان ما نراه في واقع الحال منذ بدء الانتفاضة هو تعمد اعطاء انطباع واضح، بواسطة الاعلام المسير، بانها لن تنجح ومصيرها الفشل، ويتم ذلك من خلال تنفيذ عملية تعتيم منظمة ومقصودة عليها من قبل نفس الجهات التي دعمت بقوة الانتفاضة المجهضة في تونس ومصر واججت الاحداث الكارثية في غيرهما وضخمت الاحداث ولفقت الاكاذيب في مسعى واضح لتكوين انطباع بانها (ثورات ناجحة  لا محالة)! وكما هو واضح فان هدف هذه العملية المتناقضة التوجه هو التقليل من شأن الانتفاضة السودانية وتغليب انطباع انها هبة عابرة ومؤقتة، او ان ظروف نجاحها لم تتوفر بعد كما تروج قناة الجزيرة وغيرها، في حين ان الترويج لنجاح التحركات الاخرى تحول الى هستيريا تجاوزت كل حدود المنطق!
والسؤال المركب والمهم الذي لابد من طرحه والاجابة عليه هو : لماذا وكيف تجري عملية التعتيم على الانتفاضة الناضجة وربما الانموذجية في السودان؟ ومن يقف وراء هذا التعتيم المتعمد مقارنة بدعم ما حدث ويحدث في اقطار اخرى؟
الفكرة الجوهرية عند محاولة فهم ما يجري حول السودان وفي داخله هي التالية : ان الطبيعة المميزة للانتفاضة السودانية تجعلها تمتلك مزايا لم تتوفر في الاقطار العربية التي تشهد احداثا تتراوح ما بين الانتفاضة من اجل الديمقراطية والفتن المبرمجة لنشر الفوضى الهلاكة، وهذه الطبيعة تمنح الانتفاضة السودانية بعضا من اهم شروط النصر وهو شرط منع السطو عليها من قبل الطارئين عليها وعدم السماح بحرفها عن اهدافها الديمقراطية والوطنية، وبما ان ثمة مخططا كونيا امريكيا لفرض السيطرة الامريكية على العالم فان اي انتفاضة تملك مقومات النجاح والتطور المستقلين عن المخطط الامريكي يجب ان تقمع بطرق عديدة من بينها التعتيم على النضال الشعبي ضد النظام وحمايته من السقوط.

فما هي هذه الطبيعة المميزة للانتفاضة السودانية التي جعلت اداوت امريكا، خصوصا قناة الجزيرة، تمارس لعبة التعتيم عليها والتقليل من شأنها؟
1 - شرط الجماهيرية : في السودان توجد تنظيمات شعبية عريقة ومجربة وتملك نفوذا ثابتا وليس عابرا او مؤقتا، ومنها حزب البعث والحزب الشيوعي السوداني وغيرهما، وهي قوى اتحدت في تحالف شعبي عريض وقوي من اجل اسقاط النظام. ولذلك فانها تملك القدرة على الامساك بحركة الانتفاضة وتطوراتها ومنع السطو عليها من قبل اخرين غير مؤهلين او انهم لا ينتمون للانتفاضة الوطنية.

2 – مبدأ التعاقب : لدى هذه التنظيمات خطط ستراتيجية واضحة تقوم على تخطيط العمل الثوري ومرحلّته ووجود بدائل، بتعبير اخر انها قوى تعرف طبيعة وواجبات وتحديات المراحل المختلفة لما بعد اسقاط النظام وكيفية العمل ضمن بيئتها، بعكس حالة العفوية والمبادرة السريعة غير المدروسة التي طغت على انتفاضة تونس ومصر والتي كانت احادية الهدف وهو اسقاط النظام فقط اما النظام البديل وكيفية اقامته وحمايته وتطويره..الخ فلم يكن لدى من فجروا الانتفاضة تصور واضح مشترك عنه ولا عن كيفية اقامته، بالاضافة لجهل مستقبل التطور الثوري والعجز عن توقع مفاجأته الكثيرة. ان القوى السودانية التي فجرت الانتفاضة تعرف ما تريد وخططت للبديل الوطني المدني، في اطار اهم بديهيات العمل الستراتيجي الثوري وهي بديهية مبدأ التعاقب في العملية الثورية، فالثورة ليست مجرد اسقاط نظام فتلك مجرد خطوة اولى على طريق التغيير ولابد ان تعقبها خطوات اساسية اخرى تكمل خطوة الانتفاضة وتجعلها مؤهلة للتحول الى ثورة، ومنها خطوات تحديد البديل وامتلاك القدرة على فرضه وبناءه وحمايته وتحديد من هم الاصدقاء ومن هم الاعداء تبعا لكل مرحلة...الخ. بدون مبدأ التعاقب في العمل الثوري ووعيه واستيعاب متطلباته لا تكون هناك ثورة وانما نية ثورة ومشروع ثورة مصيرها الاحباط والسطو عليها كما نرى بأم اعيننا الان في مصر وتونس بشكل خاص.

3- مبدأ الربط بين التحرر الوطني والقومي والديمقراطية : في عصر الامبريالية المنفلتة من عقال المنطق والعقلانية والمندفعة للسيطرة الكاملة على العالم منذ نهاية الثمانينيات، من المستحيل بروز امكانية اقامة نظام ديمقراطي حقيقي من دون ربط ذلك الهدف بهدف اخر جوهري وهو التحرر الوطني، اي النضال الحازم ضد الامبريالية والصهيونية، فالخطط الامبريالية الامريكية لا تسمح ببناء ديمقراطية تفضي للتحرر الوطني، المجسد عمليا في اهم الاهداف الوطنية والقومية وهي تحرير الثروات الوطنية والارض الوطنية والارادة الوطنية او حماية الوحدة الوطنية والدفاع عن الهوية القومية..الخ، لذلك فان الديمقراطية وفقا للفهم الامريكي يجب ان تفصل بسياج فولاذي عن التحرر الوطني وتجعل عملية التحرر الوطني ان فرضت نفسها تابعة لمتطلبات الديمقراطية، وهذا يعني تحديدا بروز امكانية (العمل المشترك) مع امريكا ضد النظام، وبذلك تتحول الانتفاضة من انتفاضة شعبية وطنية وديمقراطية حقيقية الى جزء من ترتيبات الامبريالية.
ان الفصل بين الديمقراطية وبين التحرر الوطني، وهو الضمانة الاساسية لبناء ديمقراطية حقيقية، يفضي عمليا وبغض النظر عن النوايا الى انتصار الثورة المضادة او الردة بتعبير ادق. ان قوة وتأثير الاعلام الامبريالي وتفوقه الساحق وامتلاك امكانيات ضخمة تكنولوجية ومخابراتية وعسكرية ومادية وعلمية وطبية...الخ، يوفر امكانية اغتيال اي تجربة ديمقراطية ويحولها الى مشروع شرذمة وتقسيم للقطر او البلد تحت غطاء لبررة – من الليبرالية - النظام السياسي، كما شاهدنا ذلك في العراق المحتل، وكما نشاهد ذلك الان في ليبيا واليمن وسوريا ومصر وتونس والبحرين وغيرها، وكما يراد ان يحدث في السودان طبعا.
من الضروري، ولتجنب الوقوع في فخاخ امريكا وغيرها، تذكر ان مشاكلنا مع النظم الفاسدة والديكتاتورية هي في المقام الاول مشكلة تبعية هذه النظم للنظام الرأسمالي العالمي بهذه الطريقة او تلك، ولذلك فانه مسؤول عن جرائمها وانحرافاتها وفسادها، بدليل ان تجارب العقود الخمسة الماضية في الوطن العربي تثبت ان امريكا كانت الداعم الرئيس لاشد النظم رجعية وفسادا وديكتاتورية وعداء للجماهير، فكيف يمكن قبول فكرة ان امريكا تريد التغيير الديمقراطي الان وبروز اتجاهات لدى البعض تدعو للعمل معها من اجل ذلك، او ان هذا البعض يسكت عن الدور الامريكي الخطير في التغيير ولاتعده مؤشرا اساسيا وحاسما لا يخطأ لطبيعة ما يحدث؟ ان الديمقراطية وحقوق الانسان مطلبان اساسيان في برامج القوى الوطنية التقدمية منذ عقود لذلك فان ضمانة تحقيقهما مرهونة بوجود وعي تحرري وطني تجاه الامبريالية الامريكية، وغيرها من الامبرياليات الاقليمية كالايرانية والتركية والصهيونية، يوفرلنا الحصانة القوية ضد مؤثراتها وافكارها.
من هنا فان الخطيئة الاكبر تكمن في تجاهل السؤال التالي وعدم الرد عليه : ما هي الاهداف المخفية لوقوف امريكا ضد نظم صنعتها وحمتها وادمتها هي؟
ومما يجب عدم اهماله، في هذا الاطار، هو ان احد اهم اسباب النجاح في السطو على انتفاضة تونس ومصر هو انعدام الافق التحرري للنخب التي فجرتها واقتصار وعيها على الهدف الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، فلم تربط بين النظام ودعم امريكا له ولم تربط بين موقف امريكا المعادي للديمقراطية وحقوق الانسان في العراق وفلسطين وبين دعوتها للديمقر اطية في اقطار اخرى...الخ ولذلك لم تكتشف النخب بصورة عميقة وكاملة ان شعار الديمقراطية وحقوق الانسان ليس سوى وسيلة احتواء وحرق للقوى الوطنية وزجها في معركة تمسك بمقودها فعليا امريكا ورجالها، فسمح ذلك بتداخل الخنادق بين الامبريالية الامريكية وعناصر ونخب وطنية حقيقية لكنها فقيرة في وعيها الستراتيجي فقبلت رغما عنها بلعبة عزل الديمقراطية عن هدف التحرر الوطني، وكان ذلك هو مقتل الانتفاضة في تونس ومصر وغيرهما وممهد احتواءها وتحويلها الى اياد اخرى لم تكن مساهمة في تفجيرها.
اما في السودان فالقوى الرئيسة التي تقود الانتفاضة تربط جدليا بين الديمقراطية وبيئة التحرر الوطني وتؤمن بان لا ديمقراطية حقيقية الا في مناخ وطني واضح يقوم على حصانة سياسية ضد اساليب الامبريالية وهذه الحقيقة لا تسمح بتعويم الانتفاضة السودانية وتحويلها الى مجرد فوضى هلاكة تحرق الاخضر واليابس كما تريد امريكا.

4 – شرط الوعي الستراتيجي : ان وجود تنظيمات جماهيرية واعية ستراتيجيا احد اهم شروط ابقاء المشروع الثوري بيد المنتفضين. ثمة مقولة معروفة تنص على ما يلي : معرفة العدو كسب نصف المعركة، فكيف يمكن خوض معركة الانتفاضة دون معرفة من هو الصديق الحقيقي ومن هو العدو الحقيقي وتحديد الهدف الرئيس والاهداف الثانوية في مرحلة محددة، والاهم ان نعرف درجات العداء والصداقة ونرتبها بصورة واضحة. كل ذلك يوفر لنا امكانية معرفة العدو وتوقع خطواته قبل البدء بها. اما العفوية الثورية فانها، وكما رأيناها في تونس ومصر واليمن وغيرها، لا تشترط وجود وعي ستراتيجي وانما هي تقوم على الهبات العابرة وما تفترضه من خطوات انية ,لذلك فانها هبات مصيرها الاحباط او الخفوت بعد مرور وقت قصير، مما يجعل المنتفضين حيرى لا يعلمون ما يجب عليهم فعله فتتقدم قوى الردة لاستلام زمام المبادرة وسرقة الانتفاضة ومنع تحولها الى ثورة. واذا نظرنا الى السودان نجد ان القوى الاساسية تتمتع بوعي ستراتيجي راسخ وقوي واصيل يجعلها قادرة على تحديد المسارات الصحيحة للانتفاضة ومنع اختراق قوى الردة لها.

5 – شرط الخبرة الميدانية او الثورية : التجربة من اهم متطلبات نجاح العمل الثوري وانعدامها لدى المنتفضين والثوار او ضعفها لا يساعد على النجاح في تطبيق الاهداف حتى لو كانت واضحة في اطار ستراتيجية متبناة، لان المطلوب هو التنفيذ الميداني، ومن لا يملك خبرة يتعرض للتخبط وارتكاب اخطاء قد تكون قاتلة في زمن لا يسمح بوقوع اخطاء كبيرة لوجود مخابرات تترصد وتتابع ما يجري وتتدخل فور حصول اخطاء لاستثمارها لصالحها، لذلك ليس ثمة شك في ان القوى المجربة تاريخيا هي الاصلح لتجنب ارتكاب اخطاء قاتلة او مؤذية لانها الاقدر على رؤية نوايا العدو وخططه وتجنبها او احباطها بعمل استباقي مرسوم. والقوى السودانية التي فجرت الانتفاضة قوى لديها خبرات عتيقة وممتازة تحصنها ضد ارتكاب اخطاء الهواة وابطال الهبات العفوية.

6 – التربية العقائدية لشباب التنظيم : اذ لابد من توفر شباب وهو اداة الانتفاضة العملي مؤهل عقائديا للعمل الثوري، والعقائدية هنا هي وجود منظومة فكرية تربى عليها الشباب وغيرهم وتشكل بوصلة العمل الستراتيجي والتكتيكي، فبوجود البوصلة يعرف المناضل خصوصا الشاب طريقه ومن هم اعداءه ومن هم اصدقاءه وما هي اهدافه في مسلسل تعاقبها...الخ. ولذلك فانعدام الرؤية العقائدية للشباب المنتفض وقيادتهم يفضي حتما الى الانحراف والتشويه، واخطر اشكال ذلك تداخل الخنادق واختلاط الشعارات مع خنادق وشعارات قوى معادية للشعب.

7 – امكانية الحسم الثوري : والانتفاضة بما انها خطوة اولى على طريق التغيير الشامل والجذري تفترض وجود اداة الحسم وهو التنظيم الشعبي بشكل عام، والجناح العسكري منه بشكل خاص، ففي لحظات الحسم لابد من وجود من ينفذ اوامر القيادة بحسم الامور بالقوة وعدم الاكتفاء بالعمل السلمي، خصوصا اذا لجأ النظام للعنف المتطرف. وهذا الشرط يمنع التدمير المنظم للدولة ومؤسساتها التقليدية كالجيش والشرطة وقوى الامن والاستخبارات، حتى لو كانت من اداوت النظام الفاسد، لانها ادوات ضبط حركة الدولة والمجتمع اثناء التغيير وهي تستطيع منع التشرذم والانقسامات، كما انها قابلة للتطهير الشامل بدون الحاجة لحلها وتسريحها. ان تجربة العراق المحتل تؤكد ان القوات المسلحة واجهزة الامن ومهما كانت طبيعتها يجب ان تغير تدريجيا لضمان استخدامها في المرحلة الاولى لضبط الامن ومنع الانفلات وحلول الفوضى الهلاكة.

8 – مبدأ الشراكة الوطنية : من بين اهم شروط انتصار الانتفاضة وعبورها خندق اسقاط النظام والوصول الى تنصيب البديل المطلوب توفر الشراكة الوطنية في جبهة عريضة موحدة تضم كل القوى الوطنية العاملة من اجل التغيير، فوجود تحالف عريض وضع برنامجا لمرحلة تاريخية كاملة تتعاقب فيه خطوات التغيير احد اهم سمات الثورة والتغيير الثوري الحقيقي. في قطر تتعدد فيه القوى السياسية وتختلف منابعها الايديولوجية والسياسية ويوجد ارث انتقامي بينها لابد من تبني مبدا الشراكة الوطنية وجعله الشرط المسبق المقرر لخطوات الانتفاضة المتعاقبة. لقد اثبتت تجارب العرب الحديثة ان عدم وجود تحالف شراكة وطنية ينبثق عن ثقافة التعددية السياسية وتبادل السلطة بصورة ديمقراطية وسلمية كان احد اخطر اسباب كوارث الامة العربية. وفي السودان نجد الان الشراكة الوطنية واضحة في التنظيمات التي تقود الانتفاضة.
اذن نحن بمواجهة انتفاضة نمطية في ربط مطلبها الديمقراطي بالخط الوطني التحرري، وفي وجود قيادات مجربة وواعية مؤتلفة وموحدة تستند على قوة جماهير واسعة وتناضل طبقا لستراتيجية وطنية عامة مدروسة، ولذلك فالانتفاضة السودانية تتناقض جذريا مع انتفاضة غير نمطية عفوية تفتقر للوعي الستراتيجي والخبرات والقواعد الجماهيرية وتتعدد فيها خطوط العمل السياسي وتتناقض، فتسمح بتشرذم قادة الانتفاضة وتمهد للسطو عليها من قبل شباب او شيوخ امريكا وتبعد الثوار الفعليين عن قيادتها، وبذلك تصبح جاهزة للتحول الى اداة ردة لاحقا كما حصل في اكثر من قطر عربي.
حقيقة ان الانتفاضة السودانية منظمة من قبل قوى وطنية مجربة ومعروفة الهوية والخبرات والاقتدار هي التي دفعت الاعلام الامريكي والصهيوني للوقوف ضدها والعمل على تقزيمها من خلال التعتيم عليه وان غطيت اعلاميا فان التغطية تكون ناقصة وجزئية كي تقدم فكرة انها عمل محدود وصغير وليس انتفاضة شعبية كبيرة. وهنا لابد من ملاحظة ما يلي :
1 – رغم ان الانتفاضة السودانية بدأت بتظاهرات اكبر وانشط واكثر تنظيما مما بدأت به الاحداث في سوريا واليمن وغيرهما فان الاعلام الفضائي تجنب القيام بتغطية كاملة لها وقام باعطاء انطباع واضح بانها اعمال متفرقة وفئوية ومحدودة رغم الحقائق الميدانية التي تؤكد بان نظام البشير لا يقل قساوة عن بقية الانظمة التي سلطت الاضواء على عنفها. بل ان تلك الاجهزة الاعلامية تعمدت التزوير والتلفيق في بداية الاحداث في غير السودان لاجل اعطاء انطباع بان ما يجري عبارة عن ثورة شاملة وعامة مع انها كانت احداث محدودة وبسيطة. بملاحظة تعمد تزييف الاحداث وتلفيق الاخبار وتضخيم ما يحدث في اقطار معينة كانت امريكا تريد قيام فوضى هلاكة فيها كسوريا واليمن وليبيا والعراق والبحرين ومصر وتونس وغيرها، وربط تلك الملاحظة بملاحظة اخرى وهي التقزيم المنظم للانتفاضة السودانية وتقليل اهميتها عبر الاعلام الموجه بدقة نرى ان الانتفاضة السودانية لم تكن مدعومة من قبل امريكا واتباعها بل انها وقفت ضدها وعملت على قمعها عبر عزلها والتعتيم على نشاطاتها الثورية، لان من خطط لها وفجرها هي طلائع الشعب السوداني الوطنية المنظمة والواعية والمجربة، وهؤلاء لا تستطيع السيطرة عليهم بعكس الشباب العفوي وغير المجرب حتى لو كان وطنيا فانه يكون فريسة للاحتواء المباشر او غير المباشر.

2 – الانتفاضة السودانية لم تخترق من قبل شباب اعدوا في دورات خاصة من قبل المعاهد الامريكية او التابعة لامريكا، كما حصل في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين والعراق وغيره، فهي انتفاضة بدأها الشباب الوطني بقيادة الاحزاب الوطنية العريقة، لذلك لم تجد امريكا حتى الان موطأ قدم في الانتفاضة السودانية.

3 – ربطت المعارضة السودانية التي فجرت الانتفاضة بين استبداد البشير وفساد نظامه وبين مصلحة امريكا في بقاءه في الحكم، وخدمته لمخططاتها ابتداء من تسليم الاسلامويين من ضيوف السودان لها وتقديم معلومات تفصيلية عن جهات عديدة الى المخابرات الامريكية وانتهاء بنجاح البشير في فصل الجنوب وهو اهم اهداف امريكا والصهيونية في السودان. ودور البشير هذا في تقسيم السودان وتفتيته يجعل النضال لاسقاطه ضرورة وطنية وقومية في ان واحد. وهذا الربط الصحيح بين البشير وصلته بامريكا اسقط احد اهم اركان الثورة المضادة وهو ركن عزل الديمقراطية عن التحرر الوطني والتماهي في الموقف مع امريكا، كما يحصل في اقطار اخرى. كيف تدعم امريكا انتفاضة يقودها شباب وطني ملتزم وتحت امرة احزاب وطنية عريقة وتلك شروط تحرير السودان من التبعية والفساد؟ ومن وجهة نظر امريكية بما ان البشير حتى الان يقوم بنشر الفتن الطائفية والعرقية والفساد فانه يجب ان يبقى في السلطة، وهذا هو التفسير الرئيس للتعتيم على احداث الانتفاضة السودانية.

4 – ان التغطية الاعلامية للجزيرة والعربية وغيرهما تتسم بمحاولة تقزيم انتفاضة السودان ومؤخرا لم تعد هناك اية تغطية لها مقابل استمرار هستيريا المبالغة في تصوير الاحداث في الاقطار الاخرى، وذلك مؤشر لا يخطأ لحقيقة ان امريكا ضد الانتفاضة الشعبية السودانية وانها تريد للبشير ان يبقى حتى يكمل مشوار تقسيم السودان وعند ذاك سوف تسقطه امريكا بهذه الطريقة او تلك.
الدرس الكبير الذي نستخلصه من انتفاضة السودان، ومن انتفاضة الشعب العراقي ضد الاحتلال التي اعقبت احداث تونس ومصر، هو ان الانتفاضة ذات التوجه العقائدي والسياسي الواضحين والممسوكة بقوة من قبل قوى وطنية ذات تجارب وخبر وامكانيات شعبية فعالة غير مسموح بها، لانها تفضي للتحرر من الاوضاع الفاسدة وتقدم البديل الوطني الحقيقي الذي يحقق اماني الشعب واهدافه ويضمن قطع الصلة بالامبريالية، لكن امريكا مع كل انتفاضة عفوية تقودها نخب بلا تجربة وبلا قاعدة شعبية وبلا تنظيم ثوري لانها تفضي الى الردة عبر اشعالها للفوضى الهلاكة التي تجر جرا الى تعزيز الصلات بالامبريالية. هنا يجب التوقف دائما للتمييز بين طريق التحرر الحقيقي وطريق الردة المبرقعة بغطاء اسقاط النظم. هذه حقيقة فرضت نفسها من خلال تجارب العامين ونصف العام الماضي ولا يمكن لاحد انكارها او القفز من فوقها ابدا.
تحية لمناضلي السودان في سجون البشير.
11/7/2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق