ساحة القتال في ليبيا
في الوقت الذي نجحت فيه الولايات المتحدة بالحصول على دعم حلفاء رئيسيين في الشرق الأوسط وأوروبا في حربها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)، وجّهت دولتان عربيتان على الأقل بالإضافة إلى فرنسا إنتباهها نحو بلد آخر، وهو ليبيا. فهذه البلاد تعاني من انقسامات داخلية تضم برلمانَيْن معارضَيْن أحدهما في طرابلس والثاني في المدينة الشرقية طبرق، بينما يدّعي تشكيلان مسلحان على الأقل بأنهما يقومان بدور الجيش الوطني للبلاد. وبشكل عام، تشكّل ليبيا أيضاً أحدث ساحة قتال للسباق الإقليمي المرير الذي يدور بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر من جهة وتركيا وقطر والسودان من جهة أخرى - وكان قد تم اتهام كل من قطر والسودان بإيصال الأسلحة والذخائر لمتمردين إسلاميين في طرابلس. وتدعم السعودية والإمارات ومصر مجلس النواب المنتخب في طبرق واللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي أطلق عملية «الكرامة» التي تهدف إلى "تطهير" ليبيا من الإسلاميين عامة ومن «الإخوان المسلمين» على وجه الخصوص. أما تركيا وقطر والسودان، فلديها علاقات وثيقة تاريخياً بمجموعة من الإسلاميين في أنحاء البلاد وبـ "المؤتمر الوطني العام" السابق في طرابلس.
وفي الواقع إن مطالبة ليبيا بالسيادة هي مطالبة واهية، ولهذا السبب كان ينبغي توقع شن الغارات الجوية الأخيرة من قبل مصر ودولة الإمارات. ومع انزلاق ليبيا بثبات نحو حرب أهلية، من المرجح أن تشهد البلاد عمليات تدخّل أخرى وربما أكثر علنية. وفي الواقع، فتح مجلس النواب - المنحاز إلى اللواء السابق خليفة حفتر - الأبواب أمام مثل هذا الاحتمال في 13 آب/أغطس، عندما دعا المجتمع الدولي إلى التدخل "فوراً لضمان حماية المدنيين". وفي هذا السياق نُقل عن سفير ليبيا لدى مصر محمد جبريل قوله، إن طرابلس قد تؤيد التدخل الأجنبي "لأن ليبيا غير قادرة على حماية مؤسساتها أو مطاراتها أو مواردها الطبيعية، وخاصة حقول النفط فيها". وفي مقابلة مع صحيفة "المصري اليوم" المصرية، دعم اللواء السابق خليفة حفتر بشكل علني احتمال توجيه ضربة جوية مصرية "حتى ولو كانت على الأراضي الليبية".
وخلال الأسابيع التي سبقت الضربات الجوية المصرية - الإماراتية المشتركة في آب/أغسطس، برز حديث ثابت حول الكيفية التي قد تُجبر فيها مصر على التدخل لصالح حفتر، الذي طالما ترددت شائعات حول دعم القاهرة له. وفي الواقع قبل ذلك التاريخ، حتى في نيسان/إبريل - بعد مرور شهر على زيارة السيسي لدولة الإمارات - وردت تقارير مفادها أن ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان، أيد فكرة تدخل القوات الأمريكية والعربية عسكرياً في ليبيا.
من وجهة نظر القاهرة، ولّدت ليبيا تحديات أمنية مختلفة خلال العام الماضي. ففي كانون الثاني/ يناير اختطفت ميليشيا إسلامية خمسة دبلوماسيين مصريين في العاصمة الليبية. وفي الشهر التالي، تم الاشتباه بمتطرفين بقتل سبعة مسيحيين مصريين أقباط على الشاطئ في بنغازي، وهذه ليست سوى واحدة من العديد من الهجمات ضد هذا المجتمع المعرض للخطر في ليبيا في الفترة التي تلت سقوط القذافي. ففي وقت ليس بالبعيد، في شهر آب/أغسطس الماضي، تم إعدام مصري في ملعب لكرة القدم في مدينة درنة الشرقية التي يسيطر عليها المتطرفون، وتُعتبر عملية الإعدام العلني هذه الأولى من نوعها في ليبيا منذ الإطاحة بالنظام الليبي السابق. وقد أمسى وضع العمال المصريين في ليبيا، الذين يرسلون تحويلات مهمة للاقتصاد المصري، غير مستقر لدرجة أن الآلاف منهم فروا من البلاد. وعلى الرغم من أن الرئيس السيسي نفى القيام بأي عمل عسكري في ليبيا، بيد نظراً إلى توجه الثوار الاسلاميين السياسيين والمتشددين نحو العاصمة، توجّب على المصريين اتخاذ خطوات سريعة. وكانت الإمارات العربية المتحدة شريكاً قادراً على اتخاذ مثل هذه الخطوات وموثوقاً به لدى مصر.
وفي هذا الإطار كانت دولة الإمارات تحاول تعزيز قدراتها العسكرية الشاملة؛ وعلى مدى السنوات الثلاث المقبلة، من المتوقع أن تنفق ما يصل إلى 12.9 مليار دولار سنوياً على المجال الدفاعي. وفي عام 2013 وحده، وقعّت البلاد عقوداً دفاعية بقيمة 1.4 مليار دولار. كما لديها إحدى القوات الجوية الأكثر تقدماً في العالم العربي، وفي 2011، ساهمت هذه القوات بالعتاد الجوي المحدود بل الرمزي في الحملة الجوية التي شنها "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو") في ليبيا. وهي الدولة الوحيدة التي تملك الطائرة المقاتلة المتطورة من طراز "الأف-16إس بلوك 60" التي يساوي قطرها القتالي تقريباً المسافة ما بين القاهرة وطرابلس.
وفي الأشهر الأخيرة، توطدت العلاقات العسكرية الثنائية بين المصريين والإماراتيين كجزء من استراتيجية جديدة تتبعها مصر لدعم تحالفاتها العسكرية العربية. ففي آذار/ مارس، قام الجيشان بمناورة "زايد 1" في الإمارات، وهو التدريب المشترك الأكبر من نوعه بين البلدين، وفي حزيران/ يونيو شاركا الجيشان في مناورة "خليفة 1" قبالة السواحل المصرية. وقد أفادت التقارير أن الجيشان قاما بعمليات جوية مشتركة، ربما لتمهيد الطريق أمام شن ضربات جوية في طرابلس.
ومن السهل تصوّر النتائج التي قد تترتب على تدخل مصري أكثر وضوحاً في ليبيا. ففي 27 آب/ أغسطس، أي بعد أيام من إنكاره لعب دور في الغارات الجوية الليبية، أجرى الجيش المصري مناورة عسكرية ضخمة في الجانب الغربي من ليبيا، الذي تعتبره القاهرة على أنه أحدث جبهاتها العسكرية. وقد شمل ذلك الاستعراض للقوة، والذي يطلق عليه إسم "جالوت 7" عناصر من المشاة الآلية والوحدات المدرعة والمدفعية والقوات الجوية والدفاع الجوي، وعناصر التدخل السريع. وفي حين أن توقيت وحجم مناورة "جالوت 7" ملفتان للإنتباه، ربما تكون مشاركة عناصر قوات التدخل السريع هي العامل الأكثر أهمية. فقد أسس الرئيس السيسي هذه القوات كإحدى خطواته الأخيرة كوزير للدفاع. وألمح عدّة مسؤولين مصريين، من بينهم السيسي نفسه، أن مصر تتمتع بالحق في تأمين حدودها مع ليبيا والحد من تدفق الإرهاب عبر الحدود من خلال اللجوء إلى الوسائل العسكرية. وبالتالي فإن قوات التدخل السريع مناسبة تماماً لقيادة جهد عسكري أكثر تنسيقاً في ليبيا المجاورة، إذا ما توجب على مصر تكثيف مشاركتها.
إن الجزائر، التي كان يُعتقد في البداية أنها نفذت الضربات الجوية في آب/ أغسطس، عززت أيضاً وبثبات من وضعها العسكري وميزانيتها الخاصة بالدفاع في ظل تنامي الفوضى في ليبيا. وفي إطار الخوف من تكرار الهجوم المرتبط بـ تنظيم «القاعدة» الذي شُن على منشأة للغاز في منطقة عين أميناس عام 2013، والتي يُزعم أن مرتكبيها قدموا من ليبيا، قامت حكومة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بإغلاق الحدود مع ليبيا التي تمتد على مسافة 600 ميل. كما وأعلنت عن حوالي عشرين منطقة عسكرية مغلقة على طول الحدود، وكثفت من الدوريات، وزادت من المراقبة الجوية ونشرت أنظمة صواريخ أرض جو من طراز " S-125" رداً على تقارير غير مؤكدة تشير إلى أن إحدى عشرة طائرة مدنية في عداد المفقودات من مطار طرابلس الدولي. كما لدى الجزائر مصلحة في الاستقرار في تونس، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاحداث في ليبيا، وقد زادت الدولتين مؤخراً من جهودهما الأمنية المشتركة.
إن الجزائر، مثلها مثل مصر، عارضت صراحة أي تدخل في ليبيا. ولكن في ضوء حقيقة أن السيسي وبوتفليقة ناقشا مؤخراً تعزيز التعاون العسكري - حيث أفادت التقارير أن البلدين قاما بإنشاء خط اتصال مباشر خاص بليبيا - فضلاً عن دور مصر المزعوم في الغارات الجوية على طرابلس، يخشى بعض الليبيين أن يتم تقسيم بلادهم إلى ميادين لعمليات الدول المجاورة وتأثيرها. وفي الواقع، منذ شهر آب/ أغسطس اتّهم المتمردون المتحيزون لعملية "فجر ليبيا"، مصر ودولة الإمارات مراراً بتنفيذ المزيد من الهجمات، كانت آخرها في مدينة غريان.
وفي الوقت نفسه، كان صوت فرنسا هو الأعلى من بين الدول الغربية، في ما يخص الوضع المتردي في ليبيا. إذ أصرّ وزير الدفاع الفرنسي، جان إيف لو دريان، في مناسبات عديدة على الحاجة إلى اتخاذ إجراءات لمواجهة "التهديد الإرهابي" في ليبيا. وخلال الأسبوع الثاني من أيلول/سبتمبر، زار لو دريان ورئيس هيئة الأركان الفرنسية القاهرة والجزائر (وكذلك أبو ظبي) لمناقشة آخر التطورات. يُذكر أن فرنسا قد تدخلت مرة واحدة من قبل رداً على المرحلة المأساوية التي أعقبت سقوط القذافي، حيث قمعت تمرد الطوارق المتحالفين مع تنظيم «القاعدة» في شمال مالي عام 2012. أما الآن فهي تدعو مصر والجزائر لأن تلعبا دوراً بارزاً في أي جهد جديد يُبذل في شمال أفريقيا.
وعلى الرغم من أن كلاً من مصر والجزائر تدّعيان معارضتهما للتدخلات الخارجية، إلا أنهما أثبتتا استعدادهما للتحرك إن لزم الأمر. فبعد محاولة اختطاف سفير الجزائر في طرابلس في أيار/ مايو الماضي، أفادت التقارير أن الجزائر أوفدت عناصر من نخبة العسكريين إلى ليبيا لإجلاء السفير وموظفي السفارة وعائلاتهم من تلك البلاد. وبالتالي، مع استمرار التردي الحاد للوضع في ليبيا، ستزداد الضغوط على مصر والجزائر للتدخل في صياغة الأحداث في الدولة المجاورة، على الرغم من الميول العامة بعدم التدخل والتفضيل الظاهري للحوار. ومع نمو العوامل التي تدفع إلى هذا التدخل، فقد تضطر الدولتان إلى تخطي فكرة التهديد بالحرب واتخاذ إجراءات أكثر استدامة.
جلعاد وانيج هو باحث مشارك في معهد واشنطن ومدير تحرير منتدى فكرة. أندرو اينجل، هو محلل لشؤون أفريقيا، وكان قد عمل سابقا مساعد أبحاث في المعهد وسافر عبر أنحاء ليبيا بعد تحريرها الرسمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق