التسريبات عن الانقلاب الأميركي في العراق..قنابل دخانية للتضليل - تحليل هام
السياسة الأميركية تستند إلى الخداع المخابراتي:
أطلَّ علينا جورج بوش الإبن، في العام 2003، وأخرج من قبعته السحرية أرنب الديموقراطية، لذا بشَّرنا إعلامه أن العراق سيكون أفضل من دون صدام حسين، ولهذا ابتكر أرنبه شعارات لعلَّ من أهمها: تنظيف العراق من أسلحة الدمار الشامل وإرهاب القاعدة وديكتاتورية صدام حسين. ومن بعد احتلال العراق، اختفى حالماً باقتناص فريسة دسمة مضمَّخة بعطور البترول. فإذا بالفريسة تتحول إلى شوكة في حلقه وحلق احتلاله مضمَّخة بروائح البارود، والدم، والموت، الذي لاحق جنوده وأعادهم إلى أهلهم في توابيت العار.
وترك العراق هارباً بعد أن وكَّل عملية سياسية أضفى عليها الشرعية تحت حماية إيرانية، وبدلاً من وعوده بنشر الديموقراطية، نشر الدمار والخراب والجوع والمرض والفساد والسرقة، وارتكاب أقذع أنواع الجرائم، فاستفاق الشعب العراقي على عراق حزين ومحترق القلب بغياب صدام حسين.
ولما ورث أوباما تركة سلفه، وعد العراقيين بما وعدهم به ذلك السلف، فبدلاً من أن يعيد العراق إلى أهله فقد سلَّمه لإيران لتعيث فيه قتلاً وذبحاً وسرقة وفساداً وجرائم أكبر من أن يتم تعدادها. فسقطت العملية السياسية التي شيَّدها سلفه، وراحت تحتضر تحت وابل من ضربات المقاومة العراقية، وهي قد احتضرت بالفعل، وبدلاً من أن يشيعها أوباما إلى مثواها الأخير، ليعيدها إلى أيد عراقية أمينة على العراق وأهله كما وعد، فقد اختار طريق اللف والدوران لإعادة إحيائها، وهل يستطيع أن يحيي عظاماً وهي رميم؟
لم يكن جورج بوش، ولا أوباما، هو الذي اختار طرق الخداع للتمويه على عميان البصر والبصيرة، بل هذه الطرق تمثل المسار الاستراتيجي الذي أقرته (الحكومة الخفية) التي خططت له، ولمن هو قبله، وستظل تخطط لكل من يأتي بعده. فكان أوباما آخرهم.
يمارس أوباما اليوم فصلاً جديداً من وسائل الخداع، فكان آخرها تلك التسريبات التي تؤكد وكأن أوباما قد صحا ضميره، فحمل السيف ليقوم بتطهير كل رموز الفساد، بدءًا من حل الميليشيات وعلى رأسها الحشد الشعبي الذي أضفى عليه السيستاني صفة (القدسية)، مروراً باستلام بعض الوزارات الفاسدة، وإعلان السفير الأميركي البدء بورشة الإصلاح، وانتهاء بتقليم أظافر إيران بإبعادها عن المشهد... وهكذا يطل علينا أوباما كل يوم، من خلال تلك التسريبات، بوعود جديدة.
فما هي حكاية الانقلاب الأميركي في العراق؟
لقد صحا الكثيرون على انقلاب أميركي مفاجئ ضد رموز العملية السياسية في العراق، ولم يكن خبر الانقلاب مباشراً ومؤكداً، بل جاء بمظهر تسريبات يغلب عليها طابع جس النبض والإيحاء بأن أميركا ستُقلِّم أظافر وأنياب الفاسدين في (العملية السياسية في العراق). وترافقت التسريبات مع إيحاءات بعزل أربعة وزراء في حكومة العبادي، وإحالة نوري المالكي رمز الفساد إلى المحاكم بعد تحميله مسؤولية الفساد. وأردف الذي سرَّب المعلومات قائلاً: إن هناك عملية أميركية جديَّة بإلغاء الحشد الشعبي وإبعاده عن المؤسسة العسكرية. وبين هذه التسريبة وتلك، زُجَّ بخبر دعوة كبار ضباط الجيش العراقي الوطني إلى العراق من أجل تسليمهم قيادة تلك المؤسسات.
بمراجعة عناوين الخبر، الذي لم يُنسب لأحد، نقرأ وجود انقلاب فعلي في أكثر من وجه من وجود العملية السياسية، وإذا قمنا بقراءتها بعقل نقدي، لوجدنا أنها رسالة موجَّهة إلى أكثر من طرف وأكثر من اتجاه. وكما قرأناها، نستنتج أن الرسالة موجَّهة إلى المرجعيات التالية:
- المرجعية الشعبية العراقية: وهي تحمل الكثير من جوانب التطمين للشعب العراقي. وفيها تنصلت أميركا من أي مسؤولية فيما حصل طوال ثلاث عشرة سنة من جهة، وأنها اعتبرت أن الداء ليس في العملية السياسية، بل الداء في من تولى المسؤولية فيها من أفراد ألقت عليهم تبعة الخلل. ولذلك أقالتهم من مناصبهم، وأحالت بعضهم إلى المحاكم. وللتدليل على جدية هذا الانقلاب فقد عمدت فوراً إلى تلزيم خدمات الكهرباء إلى شركات أميركية لتعيد النور إلى بيوت العراقيين بسرعة قياسية.
- المرجعية السياسية السنية: صوَّرت التسريبات أن قادة الحشد الشعبي وقادة الميليشيات تتم ملاحقتهم ومطاردتهم، وأعنت أنهم أصبحوا طريدي العدالة الأميركية. فعلى تلك القيادات أن تنام ملء جفونها لأنه لن يكون للميليشيات والحشد الشعبي مكان في العراق.
- المرجعيات العربية الخائفة من الدور الإيراني: كان الهدف من وراء هذه التسريبات الإيحاء بأن أميركا عادت لاستلام القرار العراقي، ولن يكون لإيران أي دور في المراحل اللاحقة. وكأنها بذلك تزيل مخاوفهم وما عليهم إلاَّ الاطمئنان إلى أمنهم. وعليهم أن ينسخوا من أذهانهم وجود خطر إيراني على أمنهم.
- مرجعية المقاومة الوطنية العراقية: وكان الهدف من تسريب دعوة الضباط الوطنيين إلى تسليمهم المسؤولية جاء وكأنه رسالة موجَّهة إلى المقاومة لتقول بأن دور الوطنيين محفوظ، والمراهنة على إعطائهم دور أصبح أمراً لا مردَّ له.
وما هي ردود الفعل التي رافقتها؟
على صدى موسيقى تلك التسريبات الجميلة، راحت مخابرات أوباما تدغدغ عواطف المتشوقين للخلاص، وكاد البعض يغفو هانئاً على صدى تلك الموسيقى، وعلى المفاجأة الكبرى التي توحي وكأن الولايات المتحدة قد أصيبت بصحوة ضمير.
ليس عند إيديولوجيا الرأسمالية الأميركية ضمير لكي يصحو. وليس عند (الحكومة الصهيونية الخفية) ضمير لكي يصحو. وأما السبب فلأن القوتين قد احتفظتا بضميرهما في جيوبهما، وفي مخططاتهما بالاستيلاء على العالم. ولهذا فإن جورج بوش الجمهوري، وأوباما الديموقراطي، يأكلان من معجن الرأسمالية والصهيونية الإيديولوجي، وينهلان من نبعها. ولذلك، فكل ما يصدر عنهما ليس إلاَّ احتيالاً وخداعاً لتمويه حقيقة أهدافها الإيديولوجية.
ولأن الحقيقة من احتلال العراق كان هدفاً استراتيجياً، فإنه على من يتابع أي أعلان عن أي تغيير يصدر عن الإدارة الأميركية، لا يجوز اعتباره أكثر من مجرد وعود خلَّبية، وسرابية، ودخانية تخفي من ورائها المقاصد الحقيقية للرأسمالية والصهيونية في السيطرة على العالم، والذي بدأ بخطوته الفعلية باحتلال العراق. ولن ينتهي الفصل إلاَّ بالاطمئنان على أن المخطط الاستراتيجي قد رسا على شط الأمان.
وهل من موقف يترتب على تلك التسريبات؟
كانت الأسباب الحقيقية التي تقف من وراء تلك التسريبات مجموعة من المآزق التي وجدت إدارة أوباما نفسها تغرق في دوامتها. ووقفت وراءها مجموعة من الاتهامات ضد تلك الإدارة. تبدأ من داخل العراق، وتمر بدول الخليج العربي، وتنتهي عند حدود خطورة الدور الإيراني في العراق والوطن العربي.
أما مآزق إدارة أوباما في العراق، فحدِّث ولا حرج، تبدأ من حالة الفساد اللامتناهية في شتى الحقول الاجتماعية والاقتصادية، مروراً بحالة الانفلات الأمني اللامتناهي، وصولاً إلى تغيير هوية العراق الوطنية والقومية من خلال إطلاق يد الميليشيات الطائفية التي تقودها إيران. وتأكد الشعب العراقي أن تلك الأخطاء الواسعة لم تعد تترك له أي متنفس من الأمل قبل القضاء عليها. ولأن الحكومات كانت وكيلاً عيَّنتها الإدارة الأميركية، ولن تجد أفضل منها في المحافظة على المصالح الأميركية، أُقفلت أبواب الأمل أمام الشعب العراقي، وأصبح بالقوة لا يُنشد التغيير إلاَّ بإسقاط المنهج، ولن يكتفي بتغيير الأشخاص.
وأما مآزق الإدارة مع دول الخليج العربي، فتعود إلى توكيل إيران بإدارة شؤون العراق. ولأن الإدارة الأميركية هي التي أوكلت شؤون العراق لإيران، لأنها لن تجد طرفاً آخر أكثر حرصاً على مصالح الولايات المتحدة الأميركية فيه. ولأن دول الخليج تجد أن الخطر الأساسي على أمنها يمر من البوابات الإيرانية عبر العراق. وصلت المصالح الأميركية والخليجية حدود التناقض. وتكمن المآزق الأميركية هنا في إمكانية التوفيق بين مصالحها مع إيران، ومصالحها مع دول الخليج. ولأن ردم الهوة مستحيل وقعت إدارة أوباما في مآزق يستحيل حلها من دون التضحية بأحدهما، وفي هذا اختياران أحلاهما مر.
وأما الحل الأفضل للعراقيين وللخليجيين، الذي لن يكون أكثر تأثيراً من الاستفادة من المآزق الأميركية الحالية للمزيد من الضغط عليها من جهة، وفي سلوك التنسيق الاستراتيجي بين دول الخليج العربي وفصائل المقاومة الوطنية العراقية من جهة أخرى.
وليتذكر الجميع أنه ليست الإدارة الأميركية مأزومة لوحدها، وإنما الأزمة ترافق أيضاً كل مشاريع نظام الملالي في طهران. فعلى حالة الحراك العربي الراهن بين مكونات الأنظمة العربية المتضررة من الدور الإيراني، والحالة الشعبية الثورية في العراق، أن تستمر في كيل ضرباتها ضد التحالف الأميركي – الإيراني، لأنه يترنح الآن على الرغم مما يسبغ إعلامهما عليه من أسباب القوة. وأن تتذكر تلك الدول، وكذلك قوى الشعب العراقي وجماهيره، أن سياسة الخداع الأميركي لن تمر أبداً. وأن يتذكر الجميع أن الأمن القومي العربي سيكون الأفضل من دون واشنطن وطهران. وأن الأمن العراقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري سيكون أيضاً أفضل من دونهما.
في 14/2/2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق