بقلم: د. عماد الدين الجبوري المرابط العراقي
مع إندلاع الحراك الشعبي السلمي في أوآخر 2010 وتصاعد شرارتها في عدة بلدان عربية، حيث أسقطت على التوالي أنظمة سياسيةمتجذرة ومستبدة في السلطة: نظام زين العابدين بن علي في تونس (1987-2011)، نظام حسني مبارك في مصر (1981-2011)، نظام معمر القذافي في ليبيا (1969- 2011)، نظام علي عبدالله صالح في اليمن (1978-2012)، وسوريا التي حولها النظام الأسدي (1970-) إلى مواجهة دموية مسلحة مستمرة لغاية يومنا هذا. ولقد أستثمرت الحركات والأحزاب الدينية، وعلى رأسها "حركة الإخوان المسلمين"، هذا الحراك الشعبي المنتفض لتصل من خلاله إلى السلطة.
وبذا فقد بدأت مرحلة الأسلمة السياسية الحاكمة في بعض الدول العربية، وبما أن الإسلام أكبر من أن يُحصر ضمن نطاق حزب أو حركة أو شخص، لذا أخذت تتكشف حقائق التنظير الديني عن التطبيق السياسي، فالغاية من رفع رآية الإسلام لم تكن أكثر من خيمة أستقطاب للأعضاء والمناصرين والمؤيدين لتشكيل كتلة بشرية تقارع الآخرين بوجودها في المعترك السياسي، والإستفادة منها في عملية الإنتخابات لكي تفوز بالرئاسة أولاً، ثم تعمل على ترسيخ أخوانية الدولة ثانياً، ولتصنع أرضية أستمرارية السلطة ثالثاً؛ وهكذا تنفرد هذه الفئة بديمومة الحُكم المتسلط بأسم الإسلام.
خذ ما جرى في مصر، على سبيل المثال، فالكل يعلم أن الشباب المصري أنطلق في إعتصاماته المدنية السلمية في 25-1-2011، وسرعان ما تحول "ميدان التحرير" في القاهرة إلى إنتفاضة شعبية عارمة أنتشرت شرارتها في عموم محافظات مصر ضد النظام الذي واجهها بقمع وحشي غليظ، فإن الإخوان لم يشاركوا فوراً في تلك المواجهات العنيفة التي راح ضحيتها في الأيام الأولى العشرات من الشهداء والمئات من الجرحى إلا بعد مضيء ثلاثة أيام عندما شعرت القيادة الإخوانية بالحرج تجاه الأحداث الصاخبة من جهة، ومن جهة أخرى أدراكها بأن النظام آيل للسقوط وأن الثورة في طريقها لتحقيق النجاح.
أن مستهل الفشل للإخوان بدأ منذ تحريف الحقائق عن واقعها، فالمساعدات الخدمية والغذائية وغيرها مما كان يقدمه الإخوان للمتظاهرين، فإن تقديم هذه المساعدات الإنسانية شيء، وعدم زج عناصرهم في مواجهة رصاص الشرطة وسكاكين البلطجية شيء آخر. وبالتالي فإن إدعاء الإخوان بأن لهم الشأن الأكبر في إنجاح الثورة يُعتبر ليس دقيقاً في صحته وجوهريه، لا من حيث مطلع الوقائع ولا بما جرى بدايةً على أرض الواقع.
ولقد أتضح هذا الفشل الإخواني أكثر بعد الثورة، حيث أعلن الإخوان قبل إنتخابات "مجلس الشعب المصري" و"مجلس الشورى" ما بين (2011-2012) أن ثلث المقاعد تكفيهم، وكان شعارهم المرفوع وقتذاك: "المشاركة لا المغالبة". بيد أنهم زجوا بالعديد من المرشحين على القوائم والمقاعد الفردية، وبواسطة هذا التخطيط الملتوي أستطاعوا الإستحواذ على ثلثي أعضاء المجلسين، إذ من خلال مجلسي الشعب والشورى المنتخبين يتم إختيار 100 عضو لوضع دستور جديد للبلاد؛ وهكذا تمكن الإخوان من تمرير الدستور والتشريعات التي تخدم مصالحهم أكثر من الصالح العام للثورة وللشعب.
وكذلك أعلن الأخوان عدم رغبتهم في خوض الإنتخابات الرئاسية، لكنهم تحركوا في تأسيس "حزب الحرية والعدالة" في 6 حزيران/يونيو 2011، ليكون الجناح السياسي الرسمي لهم. ورغم فوزهم بفارق ضئيل 51.7%. إلا أن الرئاسة تعني تشكيل الحكومة حسب المفهوم الإخواني؛ ومن هنا بدأوا العمل في أخونة مؤسسات الدولة، وبهذا الفعل تجلت الصورة أكثر في فشل الإسلام السياسي الذي يقوده الإخوان في حُكم مصر؛ لأن فجائية فرض التنظير على آلية عملية ذي نمط مغاير لا يمكن تطبيقه دونما تأسيس مسبق له خبراته وممارساته الفعلية، والتاريخ السياسي للإخوان في مصر لم يشهد حُكماً إخوانياً قط، إذ كانوا أما في صفوف المعارضة الداخلية وفق الحدود المرسومة من قِبل السلطة، أو وجودهم في المنفى وما يترتب على ذلك من حياة لا تتصل مباشرة بالدولة وبالشعب. وبما أن معظم سنوات الإخوان كانوا في المعارضة الخارجية، لذا فإن خبرتهم الداخلية لم تحفل بالنجاح بل فشلت، وإزداد هذا الفشل جراء تناقضاتهم المتقلبة بين أقوالهم وأفعالهم والتي أنتهت بعزلهم عن السلطة.
ولقد أستفحل فشل الإخوان بعد عزلهم عن السلطة، فبدلاً من أن تتم المراجعة الواجبة في تصحيح المسار السياسي ومعالجة أسباب الفشل، فإنهم أتجهوا نحو المواجهات المسلحة ضد السلطة، وإرتكاب جرائم إرهابية بقتل المدنيين، وحشد أتباعهم ومناصريهم في مظاهرات تؤدي إلى مصادمات، وإتباع سلوكية شل الجامعات، وخلق الأزمات والتحركات المضادة، وبتفعيل الإخوانية الدولية ضد النظام الحاكم، وعدم أعترافهم بنتائج أنتخابات 3-6-2014، بدعوى أن الشرعية كانت لهم. علِماً أن الشرعية في أية دولة في العالم تمارس النهج الديموقراطي، فإن شرعيتها تقترن بالنتائج الحاصلة واقعياً وليس فقط بالإلتزام النظري في إكمال الفترة الزمنية المحددة لها قانونياً. ثم أن الشعب هو مصدر الشرعية أصلاً، ولقد خرج عموم الشعب في تظاهرات مناوئة لحُكم الأخوان الذين خطفوا الثورة والدولة، وحاولوا تغيير الهوية الوطنية. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، عندما تعهد الرئيس المعزول محمد مرسي أن يحل العديد من المشكلات خلال المئة يوماً الأولى من حُكمه، ومنها المرور والأمن والوقود والنظافة والخبز وغيرها، فإنه لم يفي بوعده تماماً، حيث أنجز القليل وترك الكثير. حيث كان الإهتمام بترسيخ السلطة الإخوانية داخلياً، وتعزيز صلتها في الإخوانية الدولية خارجياً، أكثر من إبداء الأولوية في خدمة الشعب وثورته.
أما الكلام عن فشل الإسلام السياسي الإيراني فإنه يتشعب ويطول وعلى الجانبين الداخلي والخارجي.، فعن الجانب الداخلي قد وصلت إيران إلى تردي سياسي قائم على الأستبداد في إضطهاد بقية المكونات من العرب والأكراد والبلوش وغيرهم من القوميات، وتأخر إقتصادي ناتج عن بناء المفاعلات النووية والتسليح العسكري على حساب مشاريع أخرى، فضلاً عن وجود فساد مالي وإداري؛ وكذلك إنحلال أخلاقي وتقهقر إجتماعي جراء تراكمات أخطاء الطبقة الدينية الحاكمة لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن. حتى أن العاصمة طهران تجد أن شمالها عكس جنوبها، فالأول تحيا فيه طبقة الأثرياء والأغنياء والقصور الزاهية والبنايات الشامخة، والثاني يخص طبقة الفقراء والتعساء وتفشي البطالة والتأخر في كل شيء تقريباً. وإذا كان هذا الوضع يخص العاصمة طهران، فما بالك عن بقية المُدن والمناطق، لا سيما التي تخص الشعوب غير الفارسية.
أما عن الجانب الخارجي فإن النظام الإيراني يمتلك مشروعاً طائفياً وعنصرياً يتمثل في التشيع الصفوي السياسي في المنطقة العربية، حيث يروم الملالي إلى إحياء الإمبراطورية الفارسية المجوسية برداء ديني طائفي، يطلب من العربي الشيعي أن يتجاوز حدود وطنيته وهويته العربية ويتبع إيران كونها الدولة الشيعية الوحيدة في العالمين العربي والإسلامي، وإنها الحامية والمدافعة عن الشيعة في هذا العالم. ومن أجل تحقيق هذا المشروع الطائفي تبذخ إيران الأموال، وتوظف الإعلام وترسل السلاح لكل مَنْ يقترن بهذا المشروع، وهكذا تمكنت من التأثير على القرار السياسي في لبنان عبر "حزب الله" الذي جعلته دولة داخل دولة، وإلى دور الحوثيين المتعاظم في اليمن، وإلى السيطرة على المشهد السياسي والإقتصادي العراقي عبر التوافق مع المحتل الأمريكي.
أن نظام إيران لا يقف عند حدود النهج الطائفي، بل يمتد ليشمل أي حركة أو حزب ديني سّني المذهب، الإخوان المسلمين نموذجاً، حيث يرتبط بعضهما مع البعض من أجل تحقيق غايات وأهداف سياسية تجري بأسم الإسلام. وأن الفشل الحاصل للإسلام السياسي سواء في ردود أفعال الرفض الشعبي في الدول التي أنتفضت ثم وجدت أن الإخوان المسلمين يسرقون ثورتهم ودولتهم، أو في ثورة العشائر العربية في العراق التي حررت نصف مساحة العراق من حكومة الظل الإيرانية في بغداد، فإن نجاح هذه الثورات يأتي إثباتاً إلى فشل مرحلة الأسلمة السياسية التي أرتفعت وتيرتها كثيراً في السنوات الثلاث المنصرمة. فلو كان النظام الإيراني ناجحاً وناجعاً على مدى السنوات الطويلة الماضية لأصبحت إيران أسمى نموذج للإسلام السياسي، ولو كان الإخوان ناجحين في إدارة الدولة لأعطوا مثالاً ساطعاً، ولكن حقائق الواقع تثبت وتؤكد على فشلهم جميعاً، لأن الغاية لم تكن مقترنة بالإسلام كدين وعقيدة لا تفرق ولا تعادي الآخرين، بل كان الهدف هو الوصول إلى السلطة بإستغلال الدين نفسه، وبذا لا بدّ من أن ينتهي هكذا نهج سياسي إلى الفشل الحتمي.
أما الذين يعتبرون أن مرحلة الأسلمة السياسية جاءت نتيجة لفشل المرحلة القومية وما فيها من نظريات سياسية وأشتراكية وإجتماعية، فهذا خلط تعسفي، لأن تطور الأحداث لا تتعلق بسياق تاريخي تأخذ كل مرحلة دورها وفترتها من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المقارنة واسعة بين مرحلة المد القومي والأنظمة السياسية التي شيدت دولاً قوية، مصر في عهد جمال عبد الناصر (1956-1970)، والعراق خلال حُكم حزب البعث العربي الإشتراكي (1968-2003)، وبين وصول أحزاب وحركات الإسلام السياسي للسلطة ولم تعطِ شيئاً لشعوبها، ولم تقدم عملاً تاريخياً يُذكر. ثم أن الأنظمة القومية كانت تواجه أعداءً لا سيما من الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، ناهيك بالإشارة إلى إسرائيل وإيران، فالكل يقف ضد أي دولة عربية تبني نفسها من أجل أمتها. وهكذا تم إخراج مصر ثم العراق من التوازنات الإقليمية في المنطقة، ثم وصلت الأحزاب الدينية للسلطة لتزيد من الطين بلات وليس بلة في التناحر والتصادم الداخلي دون الإلتفات إلى المحيط العربي، وما يتطلب من أمن قومي يرتقي بمستوى الأمة تجاه التحديات المحدقة بها إقليمياً ودولياً.
إلا أن هذا لا يمنع من الإعتراف بالأخطاء التي كانت موجودة في مرحلة الأنظمة القومية، ومنها مثلاً التجافي الشديد بين نظامي سوريا والعراق لمدة تسعة عشر سنة متواصلة، وهما يحملان نفس المبادىء والأفكار القومية! لكننا لا نعتبر ذلك فشلاً، بل خلافاً سياسياً كانت له تأثيراته السلبية على الطرفين بشكل مباشر، وعلى المحيط العربي بشكل غير مباشر.
أن فشل الإسلام السياسي في السلطة لا يحتاج إلى توضيحات وتأكيدات بعد كل هذه الأحداث والوقائع في عدة دول، وخصوصاً عما جرى ويجري في العراق منذ الإحتلال الأمريكي (2003)؛ حيث قدمت الأحزاب والحركات الدينية أسوء وأردأ وأحلك صورة عن الإسلام السياسي على الإطلاق، فهي رضت أن تصل للسلطة عبر الدبابة الأمريكية، ولم تقدم للشعب العراقي أي مشروع وطني، بل عقلية طائفية تحمل الثقافة الثأرية، وأدخلت البلاد في أتون المجازر الدموية الرهيبة التي راح ضحيتها أكثر من مليون مواطن، وشردت ورملت الملايين، وأهدرت المال العام بالفساد والرشاوي، وسرقت قوت الشعب، وأخرت الحياة عن مسار تطورها الطبيعي. وإذا كانت هذه الأحزاب: الدعوة والمجلس الأعلى ومنظمة بدر وغيرها، مرتبطة بالتشيع الصفوي الإيراني، فإن موقف الإخوان المسلمين المتمثلين بالحزب الإسلامي العراقي لا يقل خطورة عنهم، كونهم شاركوا في العملية السياسية وأعطىوا شرعية للمحتل الأمريكي، ثم للسيطرة الصفوية على مقاليد الدول، فأصبحوا شاهد زور همّهم الرئيس مكتسبات السلطة وما فيها من مال وجاه ومناصب. فهل لهذا الإسلام السياسي من مستقبل غير الفشل الحتمي؟
وإذا كان من البديهي أن لا نخلط بين الأحزاب والحركات والتيارات الدينية التي تبغي الوصول إلى السلطة بحجةتطبيقها إلى الشريعة الإسلامية وإلى رفع شأن الإسلام، وبين الجمعيات والدوائر الدينية التي تهدف إلى خدمة المسلمين إينما كانوا دون الخوض في المعترك السياسي، فإن بعضاً من وسائل الإعلام الغربية والمرتبطين بها تحاول أن تخلط الأوراق لتلصق صفة سلبية بالإسلام ذاته. ففي أثناء الإحتلال السوفييتي لأفغانستان خلال العقد الثامن من القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة أحد أهم الداعمين عسكرياً للمجاميع الإسلامية المقاتلة، ومنها "تنظيم القاعدة"، وبعد إنتهاء الحرب إنقلبوا ضد بعضهم الآخر؛ وكذلك بالنسبة إلى تسويق "حزب العدالة والتمنية" في تركيا كونه المثال الصحيح في الحُكم الإسلامي العصري، وبعد عزل الإخوان في مصر، تحركت الإخوانية الدولية من أسطنبول والدوحة في تضاد واضح تجاه العزل، مما أدى إلى إرباك في العلاقات الأمريكية مع قادة "حزب العدالة والتمنية". وبذا فإن الفشل الناتج عن الممارسات العملية لدى المتأسلمين السياسيين تتحمل جزء منه السياسات الخارجية الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية كونها لم تستقرأ المستقبل في فترة دعمها للإخوان والقاعدة وغيرهم.
صفوة القول أن مرحلة الأسلمة السياسية، لا سيما بعد "الربيع العربي" قد أثبتت فشلها، وهذا الفشل ناتج عن زج الإسلام بطريقة تخدم مصالح أولئك الذين يستغلون الدين كجسر يعبرون بواسطته إلى السلطة. وإلا لحدث العكس وتكلمنا عن منجزات نجاحهم بدلاً من حقائق فشلهم.
مركز المزماة للدراسات والبحوث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق