إذا أردت ان تلعب مع الثعالب عليك ان تتعلم مكرها
مثل
وردتني رسالة من صديق يسألني فيها : هل تغير موقفكم من (الربيع العربي) ام لا؟ وهذا السؤال مصدره الثانوي عدم دقة القراءة وجزئيتها لما نكتب ونقول ونعلن، كمناضلين من اجل تحرير العراق، ولكن مصدره الرئيس هو الفرق الجوهري بين من يطبخ الطعام وبين من يأكله، فالذي يأكل لايعرف كم كلف الطبخ ولا ماهي درجة الحرارة المطلوبة ولا كمية الملح المطلوب ولا كيف ومتى نقلب قطعة اللحم في القدر،كي تكون الطبخة لذيذة ومفيدة وليست محض جمع كمي لكل مكونات الاكلة ورميها في القدر وتركها على النار فتخرج عبارة عن كتلة لا طعم فيها ولا رائحة. هذه المقدمة ربما توضح للناس العاديين الفرق في تفكير من يخطط ويعمل في الساحة وبين من يراقب من بعيد دون خوض المعركة الفعلية، لذلك فان الاول يعرف ما يحتاجه لاكمال (طبخة) تحرير العراق، بينما الثاني جائع ومتلهف للحصول على الاكل اللذيذ باسرع وقت ولا يعرف، ولا يهمه ان يعرف، سوى الكليشات التقليدية الجاهزة وهي لاتصلح في فن وعلم الثورات الشعبية.
ان توضيح هذه المسالة ضروري لحرصنا الشديد على ابقاء الجميع عارفين بحقائق الصراع واتجاهاته.
قلنا منذ البداية ان ما سمي زورا ب(الربيع العربي) ليس سوى عملية تنفيس مخطط مخابراتي لضغوطات متراكمة منذ عقود سببها فساد اغلب الانظمة العربية واستبدادها وعمالتها وخدمتها للصهيونية من خلال استغلال مناخ الانتفاضة الذي توفر فعلا بمبادرة من منتفضين، فلقد انتهى العمر الافتراضي لهذه الانظمة وكان يجب ازالتها لانهاء حقبة سوداء من تاريخنا وبدء صفحة جديدة تتخلص فيها امريكا والغرب الاستعماري من عبء تلك الانظمة التي كلفتها كثيرا مثل كره الشعب العربي لها واستعداده للموت من اجل دحرها، واستبدالها ليس بانظمة وطنية وشعبية تستطيع البناء والتقدم وتعويض عذابات الشعب بل لمواصلة نفس النهج التشرذمي والاستغلالي ولكن بوجوه جديدة تحتاج الجماهير لعقود اخرى من العذابات لاكتشاف انها لا تختلف عمن اسقط الا بالاسماء.
ما الذي يتضمنه ذلك الموقف المعلن؟ في هذا الموقف ميزنا ثلاثة حقائق اساسية :
الحقيقة الاولى : اننا ندعم كل انتفاضة شعبية من اجل الديمقراطية والعدالة فنحن منذ بدأنا النضال نقاتل من اجل حكم الشعب وتسخير كل الموارد لاجل تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية والتقدم في كافة المجالات بفضل ثروات الشعب، لذلك فان اي فرصة لاسقاط الانظمة الفاسدة والمستبدة تعد مكسبا وطنيا.
الحقيقة الثانية : لقد اكدنا منذ بدء انتفاضة تونس وبعدها انتفاضة مصر بان اي انتفاضة تفتقر للقيادة الموحدة والتنظيم الجماهيري الواسع والستراتيجية الصحيحة والخبرات النضالية في مقارعة المخابرات المعادية والقدرة على اعادة بناء الدولة والمجتمع بعد الخراب الذي حصل لن تكون ناجحة وسوف تتحول الى واقع مؤلم ينتج الاحباط وتراجع الحماس والتفاؤل.
الحقيقة الثالثة : اكدنا منذ البداية ان الانتفاضة ملغومة بعناصر مشبوهة دربتها المخابرات الامريكية خلال السنوات الماضية على كيفية اسقاط الانظمة بطرق (سلمية)، وهذه حقيقة توجد عشرات الوثائق والاعترافات التي تدعمها، ولذلك حذرنا من خطورة وجود انتفاضة ملغومة خصوصا انتفاضة عفوية لا توجد قوة وطنية منظمة تقودها وتتحكم في مسيرتها واهدافها اللاحقة لهدف اسقاط النظام. وقلنا بالقلم العريض بان امريكا العاهرة في العراق وفي فلسطين لا يمكن ان تكون طاهرة في تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا والبحرين.وما حصل خلال الفترة الماضية اكد صحة تحذيراتنا بدقة وبالتمام والكمال، فهذه العناصر التي دربتها امريكا انسحبت من الواجهة حالما سلم الحكم لاحزاب تقليدية ارادت امريكا لها ان تستلم الحكم.
اذن الثورة ليست نزهة توفرت فرصتها بعد ان اشرقت الشمس عقب فترة غيوم ومطر طالت فنصرخ في ابناءنا : هيا استعجلوا للذهاب في نزهة قبل عودة المطر، فيتراكض الاطفال والام والاب لجمع ما يحتاجونه للقيام بسفرة ناجحة وممتعة وخاطفة، بل هي عملية معقدة جدا وصعبة جدا وخطيرة اكثر، لانها تتعلق بمصالح وخطط كثيرة منها خطط القوى الاستعمارية التي لها مصلحة في رفض اي تغيير يجردها من النهب والسيطرة، ومنها ايضا الانظمة بكافة اجهزتها والتي تقاتل للبقاء، ومنها اخيرا وليس اخرا ان من يريد التغيير لا يملك امكانت ضخمة يستطيع المناورة فيها في ساحة المعركة عند الحسم لاجل الاستيلاء على السلطة وتسخيرها لتحقيق اهداف الشعب بل هو لديه امكانيات محدودة، لذلك فان عليه ان لا يفرط بقدراته المحدود لان تبددها في معركة خاسرة لعدم حساب نتائجها وظروفها بصورة دقيقة وصحيحة سوف يجرده من الامل القريب في اسقاط الانظمة ودحر القوى الاستعمارية.
وبناء عليه فان الانتفاضة كي تنجح وتحول الى ثورة حقيقية يجب ان تملك مقومات النصر الاساسية ان لم يكن كلها، وفي مقدمتها شرط التنظيم الشعبي المجرب والمقتدر بقيادة واحدة او موحدة تتمتع بافق ستراتيجي يشوف المستقبل وتعقيداته ومشاكلة وفرصه، وشرط وعي الدور الفعلي للقوى الاستعمارية وامكانياتها وتكتيكاتها الاستخبارية الذكية وتحالفاتها، ومنها خطة الاصطفاف الامريكي مع مطاليب الشعب ليس لتحقيقها بل لاجهاض الانتفاضة ومنع تحولها الى ثورة. في حالة تحقق هذه الشروط فان الانتفاضة تسير بقوة من فجرها وهي الطليعة الشعبية الواعية والمنظمة ولا تخرج عن مسارها المرسوم عندما يتحكم فيها تيار مشبوه، وتواصل تحقيق الهدف بعد الاخر، في عزم وثبات ورؤية دقيقة للخطوات المتعاقبة والمترابطة.
اذن ما قلناه كان صائبا ليس 90% بل 100% والدليل هو ما وقع فعلا خلال السنة ونصف السنة الماضية، فمشروع الثورات اجهض وحول الى فوضى وحروب اهلية، لان من بدأ به ليس حزبا ولا تنظيما ثوريا جماهيريا بل نخب شبابية بلا خبرات سياسية وبلا وعي ستراتيجي يمكنها من معرفة ما تخطط له القوى الدولية والاقليمية، ولعدم وجود قاسم مشترك بين هذه النخب سوى اسقاط النظام، لذلك وبسبب ما تقدم فانها بعد سقوط النظام فقدت السيطرة على مجرى الاحداث وتولت قوى اخرى تقليدية، بعضها مرتبط بالغرب، السيطرة عليها ووجهتها نحو اهداف اخرى غير اهداف الشباب.
هذا حدث في تونس ومصر وليبيا ويكاد يحدث في اليمن، حيث ان من تسلم الحكم ليس الشباب الذي فجر الانتفاضة بل احزاب او كتل او شخصيات تقليدية لم تكن اصلا لها صلة بالانتفاضة، وهذه الجهات جرت الوضع الى اعادة انتاج الصلة بامريكا والغرب بطرق منقحة لكنها من حيث الجوهر لاتختلف عن صلة النظامين السابقين في تونس ومصر بالغرب والصهيونية، بينما في ليبيا تسلم الحكم من كان في امريكا وتدرب فيها او على يد مخابراتها، وفي اليمن عزل الشباب وحولوا الى اداوت بيد الاحزاب التقليدية التي تريد الان احكام قبضتها. اما في السودان فان الانتفاضة الشعبية، التي حدثت متأخرة عن سابقاتها، قمعت بشدة وسط تجاهل امريكي كامل لها والسبب اصبح واضحا الان فانتفاضة السودان لم تتحكم بها مخابرات امريكا ولم تخطط لها بل خططت لها قوى وطنية منظمة ومجربة ولديها ستراتيجية وطنية لذلك فان انتفاضة السودان كانت مضادة للخط الامريكي العام، خصوصا وان النظام في السودان ينفذ نفس الاهداف التي تريد امريكا ممن ساعدتهم على الوصول للحكم في اقطار اخرى تنفيذها، فلماذا تغير النظام السوداني الان وهو مازال ينفذ ما تريده امريكا بالتمام والكمال ولم يكمل مهمته بعد؟
هل تحققت الثورة؟ الجواب قلناه منذ بداية الاحداث وهو كلا لم تتحقق الثورة وانما حصلت انتفاضة لم ترقى لمستوى الثورة بعد اجهاضها، وهذا ما اشار اليه الرفيق المناضل عزة ابراهيم في مقابلته مع جريدة الاهرام المصرية، وهو قائد ميداني مجاهد يقاتل امريكا وكان الرمز الاكبر والاهم ومازال للمقاومة العراقية التي الحقت الهزيمة بامريكا في العراق، واشارته لها مغزى كبير لانه قائد ميداني ومقاتل ولديه تجارب عمرها اكثر من نصف قرن في الثورة والتحرير وبناء الدولة والمجتمع.
في ضوء ما تقدم فنحن لم نغير راينا لاننا بالاصل مع الانتفاضة وكان اعتراضنا ومازال هو ان الانتفاضة يجب ان تكون محاطة بضمانات عدم السطو عليها وتحويلها الى وسيلة لتجديد شباب الانظمة وتنفيس الغضب الجماهيري وخداع الناس وتبييض وجه امريكا الاسود تحت غطاء انها تدعم الانتفاضة لاجل ان تتقدم وتعيد احتلال الاقطار العربية بطريقة متجددة واسوأ مما مضى. ونحن مازلنا نناضل من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية الشعبية بلا مساومة من جهة ونناضل من اجل تحرير الاراضي العربية المحتلة في كل مكان من جهة ثانية.
ان ما يتحكم بموقفنا من اي حدث هو خصوصية المرحلة التي نخوض فيها النضال ومميزاتها، فلا نفكر بالانتفاضة او الثورة بمعزل عن خصوصية المرحلة، لان الثورة الناجحة في نهاية المطاف هي حصيلة فهم للبيئة ومعرفة للاعداء وتوجهاتهم وامكانياتهم وتكتيكاتهم...الخ، الامر الذي يجعل وضع جدول بالاولويات اهم ما في المشروع الثوري وهذه هي خارطة طريق النصر، لان العدو يتبنى تكتيك خلط المراحل واستبدال مهامها لاجل ارباكنا وتضليلنا فنضيع في زحمة الطريق المملوء بالاهداف الحقيقية والكاذبة او التي تعود لمرحلة نضال اخرى لم تحل بعد، فمثلا في مرحلة النضال من اجل الديمقراطية يمكن جعل اسقاط النظام مطلبا شعبيا اساسيا، فلا ديمقراطية بدون تغيير النظام، اما حينما تكون المعركة معركة وجود وهوية مع قوى استعمارية دولية او اقليمية فان الشعار الرئيس يصبح حماية الهوية القومية من التمزيق والتشرذم وليس اسقاط النظام لانه يصبح في خدمة القوى الخارجية.
ومنذ بدء نضالنا ميزنا بين نوعين من التحدي في الاقطار العربية، فثمة اقطار عربية تواجه مشكلة الفساد والاستبداد والتبعية، لذلك فالمشكلة الرئيسة فيها هي مشكلة عدالة اجتماعية وديمقراطية، وبناء عليه يجب تغييرها بكافة الطرق بما في ذلك الكفاح المسلح. وثمة اقطار عربية تواجه مشكلة مختلفة تماما وهي انها تواجه تهديد الهوية نظرا لوجود خطر خارجي شديد مدعوم بخيول طروادة من الداخل، والهدف الرئيس للعدو الخارجي وخيوله الداخلية هو انهاء عروبة القطر، وهذا الوضع موجود في الخليج العربي منذ السبعينيات من القرن الماضي، ولذلك ميزت الحركة الوطنية العربية بكافة احزابها بين النضال من اجل الديمقراطية والنضال من اجل الهوية وعدت النضال من اجل الهوية اهم ويعلو على النضال من اجل الديمقراطية، فبدون ضمان الهوية لا وجود للديمقراطية، وتلك بديهية منطقية لا سبيل لمناقشتها.
اما موقفنا من النظام السوري فالذي تغير فيه هو التوقيت فنحن منذ البداية مع التغيير وتحقيق وانهاء الوضع الشاذ في سوريا، ولكن كنا في معركة العراق نواجه امريكا مباشرة وكنا نتجنب فتح معارك اخرى تعد جانبية وقتها، اما بعد الانسحاب الامريكي وتسليم العراق رسميا الى ايران فقد حصل تحول خطير في ستراتيجية المواجهة والصراع. فبعد ان كنا نقاتل الاحتلال الامريكي المدعوم من ايران اصبح الاحتلال ايرانيا مدعوما من امريكا، ومن ثم فمن البديهي ان نجعل كل مصادر قوة ايران هدفا لنا، وبما ان ايران تستمد الكثير من قوتها من حلفاءها وعملاءها في الخارج فان تصفية النفوذ الايراني في الوطن العربي عامة خطوة لابد منها لحسم الصراع في العراق، والعكس صحيح، اي ان تحرير العراق سيكون خطوة باتجاه تصفية النفوذ الايراني في كل مكان.
وسوريا تشكل القاعدة الاساسية لايران في الخارج ومنها تستمد اغلب نفوذها وقوتها وامكانياتها في لبنان والبحرين واليمن والعراق وغيرها، لذلك اصبح التغيير في سوريا ليس مطلبا سوريا قطريا فقط بل هو مطلب قومي عربي يتعلق بستراتجية تحرير الامة كلها. من هنا فان من يعتقد بانه سبقنا في دعم التغيير في سوريا واهم ويتخبط لانه يجهل او يتجاهل الفرق بين مثقف يكتب وهو يراقب فيكون سهلا عليه اختيار اي موقف لعدم وجود تبعات او اثار ولجهله بالكثير من محركات الصراع ومقررات اتجاهاته بالاضافة لجهله بموازين القوى السرية المتحكمة بالصراع وهو امر معروف في كل الصراعات، وبين قوة شعبية وعسكرية تقوم بالتغيير وتجاهد بالسلاح وبكافة الوسائل الاخرى من اجل تحقيقه وتضحي بالنفس وغيره للوصول اليه، فهي (طباخ) حلول الازمات والذي يعرف كيف يحلها باقل الخسائر ويعرف متى يشعل النار ومتى يطفأها ومتى يضيف الملح والبهارات، بعكس من يجلس بانتظار الوليمة جاهزة وهو لا يعرف كم دمع الطباخ من رائحة البصل وكم تعب من الوقوف وراء النار الحارة وكم لسعته النار وهو يطبخ.
لقد قلنا بلا مواربة بان القادسية الثالثة ابتدأت مع تسليم العراق من قبل امريكا الى ايران، لذلك فنحن نناضل الان من اجل الحسم، فالمعركة مع ايران دخلت زمن كسر العظم فاما ان نكسر عظم ايران واما ان تكسر عظمنا، وكسر العظم هذا سيقرر مصير المنطقة كلها لعشرات السنين وربما لمئات السنين، الامر الذي يجعلنا واكثر مما مضى مصممين على الحاق الهزيمة الشاملة بايران واستخدام كافة الممكنات المتاحة من اجل تحقيق ذلك الهدف الستراتيجية الكبير. لن نستطيع الحديث عن تحرير فلسطين او الاحواز او منع ضم البحرين الى ايران او منع تقسيم اليمن او تهديد عروبة كل الخليج والجزيرة العربية ومنع اعادة استعمار ليبيا من دون التخلص من التهديد الوجودي الخطير الذي تشكله ايران الان والذي يمنعنا من مواصلة النضال ضد الصهيونية وداعميها كما كان الحال قبل وصول خميني للسلطة.
من هنا فان مفتاح انتصار الامة العربية في كل مكان على خطط التقسيم الطائفي العرقي التي تنفذها امريكا والكيان الصهيوني هو الحاق هزيمة كاملة بأخطر ادواتهما وهي ايران التي نجحت وحدها في نشر الفتن الطائفية المدمرة، وذلك يمكن ان يبدأ في العراق او سوريا. فلنحشد كل الطاقات القتالية النفسية والمادية من اجل القيام بالرد القومي الشامل على الهجوم الايراني العنصري الدموي الذي بدأ في عام 1980 وتسبب في افظع الكوارث لنا خصوصا لان ايران تشاركت ستراتيجيا مع امريكا والصهيونية في العمل علنا على تدمير امتنا العربية، وهو ما وضحه بلا لبس نائب الرئيس الايراني محمد علي ابطحي حينما قال (لولا مساعدة ايران لما تمكنت امريكا من غزو افغانستان والعراق). واذا كانت امريكا وايران قد مارستا مكر الثعالب معنا فقد حان وقت مكرنا.
10/10/2012
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق