بين التساؤل المفقود و حائط المبكى انعزال المثقف الصومالي نتيجة لتجاهل الإعلام العربي
محمود محمد حسن عبدي
جدلية عدم الوثوق بردة الفعل، أم عدم الوثوق بوجود ردة فعل ـ بالأساس ـ، هو سر الغياب الصومالي عن ساحة الثقافة العربية، تلك هي التساؤلات الممضة، التي يحملها الكتاب الصوماليون في جلهم، مع كل حرف يكتبونه بلسان الضاد، محاولين استعارة سمع إخوتهم في الدين والثقافة.
قد يكون هذا التساؤل ذاته نابعًا من تفاؤلٍ أقرب للطوباوية، في ظل توقعٍ من المفترض أن يكون محققًا، بأن ما ينتجه الصومالي ما عدى الفحم واللحم، قابل للاستهلاك في المحيط العربي القريب، نيلًا كان أو شبه جزيرة، وسر اعتبار ذاك التوقع ـ المفترض ـ تفاؤلًا هو بكل بساطة، أن نكون موقنين بأن وسائل الإعلام الصومالية ـ المقروءة خصوصًا ـ قد بلغت من النضج والاحترافية، ما يجعل الإقبال عليها أمرًا مفروغًا، وذلك غير متحقق إلى هذه اللحظة على أرض الواقع.
المدهش المجهول هو أن التجربة الصومالية، في مفاجأة القوى التي يجب الانصياع لها بليونة أو مرونة ـ فنحن لا نريد أن يغضب منا أحد ـ، أظهرت منذ البداية، وجهة نظر مختلفة ومميزة عن الأنماط السائدة عربيًا، حول الأوضاع التي تدور في العالم كله، عززها المروث الشعبي الشفهي الرائع، لذلك الشعب البدوي في الصومال، جعل السؤال عن الحال بصيغة " ماذا قلتَ ؟ "، فأصبحت عادة الاستخبار تتجاوز الحي أو البلدة أو المدينة، بل تتجاوزها لتبلغ تفاصيل حادث قطار في أمريكا الجنوبية، أو انقلاب أبيض للسكان الأصليين، على الوافدين الهنود في جزر فيجي.
ولأن حس الحرية العالي لذلك الشعب، عانا لفترة فاصلة في تاريخه من الاختيار بين حريتين ـ كلاهما من حقه ـ، إذ فرض النظام الدكتاتوري على الشعب، إما ممارسة حريته فيما كان الجزء الحر من بلده، أو اختصار تلك الحرية وخزنها ـ عنوة ـ ، لتنفجر في وجه النظام الإثيوبي وريث الاحتلال الأوروبي، فقد حدث الانفجار كما كان متوقعًا إنما في وجهي المحتل والمستبد على التوالي.
لكن و يا للأسف فقد كانت الدكتاتورية قد أتمت إنجازها الوحيد الفذ بأن لوثت قطاعات عريضة من الشعب في البلاد، و انكشف الجرح الذي على وجه الصومال، لأن البعض اعتقد أن رجال الأعمال الفاسدين قد يحملون علاجًا ناعمًا للمأزق، في حين أن آخرين آمنوا بأن العسكر المهووسين بالسلطة قد يضبطون الوضع حتى إشعار آخر، ولم يصح الحالمون سوى على عدوى الفساد والقسوة، تسري في البلاد من أقصاها لأقصاها، كما تسري القشعريرة في الجسد المنكوب بالملاريا.
لكن الصدمة التي لم تحتملها المعي ـ حتى أمعائي الصغيرة حينها ـ فقد كانت تأرجح الأحذية العسكرية من المروحيات، التي أخذت مكانها بين الشعب المنتفض المنفوض، والسماء التي وهبت لونها لعلمه، فأصبحت القوة الدولية القادمة لإعادة أمل، خسره الصوماليون من هزيمة ثمانية وسبعين، مجرد وجودٍ عارضٍ بين البصلة وقشرتها، لتجد تلك القوات نفسها تشعر بخيانة سندان ارتكزت عليه لبرهة، ومطرقة لم تعر ذلك الوجود العابر أي اهتمام، بل أصبح الوجود الأجنبي مجرد زيت تشحيم، لتروس صراع دارت كالإعصار، يقضي على قادته ذاتهم وينهك الشعب ويدمر البلد، دون أن ينسى تقديم وجبة دسمة من الصفعات لكرامة الأجنبي المفتول العضلات.
ولأننا من أمة مريضة أحيانًا، ومتمارضة دائمًا، فقد أصبح الأنين ـ ببساطة ـ نغمة حق يراد بها باطل، ولست أنسى اقتراح أخ شاعر من بلد عربي ـ أكنه له كل المودة والاحترام ـ، حين استشرته في أمر أمسية، أردت ان تكون باكورة نشاط ثقافي، نصل فيه لتنظيم عدد من الفعاليات، لجمع التبرعات لنجدة أهلنا المنكوبين بالجفاف، وما أفرزته من ازمة غذائية صادمة ومروعة، حين قال لي بأن الناس قد ملوا الحزن، والأفضل أن يكون أساس العمل ترفيهيًا، فولكلوريًا ومبهجًا، وأنا أزعم أنه كان صادقًا وناصحًا أمينًا، لكن التساؤل كان هل يمكن لنا نحن الصوماليين أن نخرج من دوامة أحد نمطين في مخيلة كألف ليلة وليلة عربية، والتي تفترض أننا حينًا مردة يليق بنا الصمت المهيب، وحينًا فقراء جائعون ليس متوقعًا منا سوى التسول ـ وأستثني هنا الحكومات الصومالية ـ .
إن وجهة النظر التي يحملها الكثير من مثقفي الصومال، الساعين لطرح رؤاهم حول القضايا التي تهم أمتهم، أصبحت تميل صراحة لموقف شهير لرجل كـ(معمر القذافي) حين يسأل : (من أنتم ؟!)، على حساب موقف أقل شهرة لمفكر عربي كبير كـ(عزمي بشارة)، وهو يتهم إحدى الفضائيات العربية، بأنها (أصبحت حائط مبكى!) حين نادى (أخوكم)، بمساندة أهلنا المنكوبين في الصومال.
إن المطلوب اليوم حقًا ليس دعمًا موسميًا، أو تبرعًا بما كان من المفترض أن تجود به بلادنا بسواعد أبنائها، إنما المطلوب أن يفتح الإخوة العرب عقولهم وقلوبهم، ويسألونا بصدق وحسن نية، من أنتم؟ ماذا حدث ويحدث في بلادكم؟ ويسألوا دولهم ماذا قد فعلتم لتحييد التدخل الأجنبي؟، وحين يدركون أنه قد أحطات الذئاب ببلاد الصومال القاصية، أنه قد آن أوان أن يعلو صوتهم ويولحوا بالقضبان في أيديهم، ليدرك العدو المتربص بنا، أن لنا أهلًا يسألون عنا قبل أن نضيع ويضيع كل شيء.
وإدراكًا مني لما يعتمل من تغيرات في الساحة العربية، نحو فضاءات الحرية والعدالة والغد المشرق فإنني لست فقط أجد من حقي، بل أراني ملزمًا بأن أطالب بـ (كوتا) للشأن والإبداع الصوماليين على صفحات كافة النشرات العربية، وستكتشفون حقًا دنيا أخرى بأكملها، تقع ليس ببعيدٍ على ضفة خليج عدن، فدمتم بخير وبقيتم ذخرًا، ونسأل العلي القدير أن يريكم منا كل ما يسركم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق