حل الدولتين بين الفشل والتفشيل بقلم:أحمد قريع
تاريخ النشر : 2012-03-18
بعد مرور نحو ربع قرن على قرار المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 في الجزائر، بالإعلان عن خيار الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف على خط الرابع من حزيران 1967، وعودة اللاجئين، وبعد واحد وعشرين عاماً على مدريد وتسعة عشر عاماً على أوسلو، وبعد انقضاء عشر سنوات على أول اعتماد دولي لمصطلح دولتين لشعبين، فلقد فقد هذا المشروع الذي لم ير النور بتاتاً قوة اندفاعه الأولى وذوى تدريجياً، بعد أن ظل لفترة طويلة يزرع الأمل بحل عادل وسلام شامل في المنقطة، ويلهم القادة والدبلوماسيين والمفكرين والصحافيين، ويستقطب الاهتمام به كفكرة تستبطن حلاً يمكن إنضاجه بالقليل من الخلاف حول شيطان التفاصيل الصغيرة.
ومنذ ذلك الوقت كان مشروع حل الدولتين المتجاورتين لشعبين في أرض واحدة، بمثابة الأساس لكل جهود السلام المبذولة، إن لم نقل كخيط ناظم لسائر المبادرات والمساعي الدبلوماسية المبذولة على هذا الصعيد، لا سيما من جانب الرباعية الدولية، والولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، حيث كان أول من اشتق هذا المصطلح السياسي وروج له بقوة، الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ووزير خارجيته الجنرال كولن باول ومستشارة الأمن القومي حينئذ كونداليزا رايس، بعد مرور أقل من عام واحد على واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي غيرت وجه العالم كله.
وفيما تم تلقي هذا المشروع من جانب معظم الفلسطينيين والعرب، باعتباره حلاً معقولاً يكتسب قيمته الأساسية من كونه حلاً وسطاً بين المواقف المتصارعة، ومبادرة أميركية خالصة، جرى التنويه بها والثناء عليها من جانب مختلف القوى والعواصم النافذة، بينما كانت إسرائيل في عهد أرئيل شارون الذي كان قد شرع لتوه في حرب عدوانية شرسة ضد الانتفاضة الثانية، وسوّق إعادة احتلال الضفة الغربية كجزء من الحرب الكونية ضد الإرهاب، أخذ يتعامل مع هذه المبادرة الأميركية التي لا يمكن له رفضها، بسلسلة من التحفظات والمراوغات المعهودة، يقبل بها لفظياً ويعمل في الوقت ذاته على وأدها، من خلال الاستمرار في تصعيد عملية خلق الحقائق الاستيطانية التي تتكفل وحدها بإفشال حل الدولتين من أساسه.
ولا يتسع المقام هنا لاستعراض فيض من الممارسات الإسرائيلية التي عملت على نحو منهجي منظم دون نقل مشروع حل الدولتين من الحيز النظري المجرد إلى أرض الواقع العملي، سواء أكان ذلك في عهد شارون، أو في عهد خلفه ايهود أولمرت، أو في أيام بنيامين نتنياهو الذي لم ينطق بحل الدولتين سوى مرة واحدة في خطابه الشهير في جامعة بار إيلان وبشكل مراوغ، وذلك من أجل احتواء ما بدا أنه ضغط أميركي ثقيل الوطأة، لاح في الأفق البعيد من خلال تصريحات الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، الذي كان مفعماً بالأمل والنوايا الحسنة، قبل أن يرده الواقع السياسي الأميركي وضغوطات اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة على عقبيه، مثقلاً بخيبة الأمل والقيود والضغوط الداخلية المضادة.
كان مشروع حل الدولتين هذا موضع البحث الأساسي في مؤتمر أنابوليس الذي التأم في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس جورج بوش الثانية، ومثّل هذا المشروع أيضاً الأرضية السياسية التي انعقد عليها ذلك الاجتماع، بحضور نحو خمسين دولة ومنظمة دولية، وشكل قاعدة التفاهمات العريضة التي جرت في فضائها المفاوضات الثنائية لنحو عام لاحق، دون التوصل إلى نتيجة حاسمة تقربنا خطوة يعتد بها على طريق وضع حل الدولتين موضع التطبيق على الأرض، إن لم نقل عدم التمكن من إغلاق أي من الملفات المطروحة على مائدة التفاوض.
فقد حشدت حكومة أولمرت الذي كان رئيساً لبلدية القدس المحتلة سائر المصاعب والمعيقات أمام كل إمكانية لإنجاح تلك المفاوضات، سواء أكان ذلك عبر موجة عارمة من عمليات استيطان مركزة داخل مدينة القدس وفي محيطها المجاور، أو كان عبر سلسلة من الانتهاكات والمراوغات السياسية المصممة أساساً للتهرب من أداء أي استحقاق من استحقاقات حل النزاع التاريخي على أساس مشروع كان يواجه رفضاً مبطناً من أعلى المرجعيات السياسية والأمنية الإسرائيلية. ولعل إقحام موضوع الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، كان من بين أكثر الشواهد دلالة على وجود نية إسرائيلية مضمرة لاختلاق أي ذريعة ممكنة، من شأنها كبح كل جهد تفاوضي يقود إلى حل النزاع على قاعدة دولتين لشعبين.
على أي حال انتهت عملية أنابوليس التي لم تتمكن من الوصول إلى الحل المنشود رغم بعض التقدم غير المكتمل، وذلك عشية شن إسرائيل عدوانها الوحشي ضد قطاع غزة، وتبدل المسرح السياسي الإسرائيلي تبدلاً كبيراً غداة تلك الحرب التي كانت علامة فارقة في مسار العملية السلمية المتعثرة أصلاً، حيث بدا في إثرها مشروع حل الدولتين يترنح على الطاولة التي ظلت مقاعدها فارغة، فيما بقيت الإدارة الأميركية الجديدة التي تبنت هذه الفكرة مجدداً، تعمل لإعادة تجديد آليات حل الدولتين، وذلك وفق ما بدت عليه المؤشرات الأولية والخطابات المبكرة للرئيس الأميركي الجديد في البيت الأبيض، لا سيما فيما يتعلق بوقف الاستيطان كمقدمة أولية من أجل إعادة بعث العملية السلمية من سباتها.
وكما تشهد الوقائع التي لا تزال حية في الذاكرة، فقد ظل حل الدولتين متداولاً في سوق الكلام الدبلوماسي وقاعات المواقف اللفظية المرسلة على عواهنها، طوال السنة الأولى من زمن حكومة بنيامين نتنياهو، قبل أن تعمل الجرافات الإسرائيلية التي كانت تسابق الوقت لدفن هذا المشروع في تراب مشاريع الاستيطان الهائلة داخل مدينة القدس وفي محيطها الواسع، وتقضي عليه الحفريات المتواصلة تحت أساسات المسجد الأقصى، وفي قلب البلدة القديمة وما تسميه بالحوض المقدس، فضلاً عن عمليات التهويد والأسرلة الجارية على قدم وساق، وغير ذلك من الانتهاكات والمظاهر والشواهد الدالة بصورة لا تخطئها العين على تحلل إسرائيل تماماً من مشروع حل الدولتين، دون أن تعلن ذلك بالفم الملآن.
غير أن المرارة التي أخذت تعقد حلوق الفلسطينيين إثر انكشاف مدى تآكل مشروع حل الدولتين، واتضاح ضآلة الخيارات المتاحة بعد التراجع الأميركي المشين عن الوعود والتعهدات المعلنة، وزيادة الفتور الأوروبي، واشتداد حالة الانشغال العربي عن القضية الفلسطينية، جراء تقدم الاهتمامات الداخلية على غيرها في غمرة الربيع العربي، نقول إزاء ذلك كله بدأت بعض القوى والشخصيات الفلسطينية تتحدث عن هذه الحقيقة المريرة "فشل مشروع حل الدولتين" بصورة أكثر جدية، بين أوساط رأي عام بدا أنه كان أعمق إدراكاً من نخبته السياسية لمآلات كل هذه التحولات الجارية داخل إسرائيل وفي المشهدين: الإقليمي والدولي.
فقد كان الشعب الفلسطيني يرى بأم عينه عمليات تهويد القدس وتغيير معالمها التاريخية والثقافية والدينية، والحفريات التي تجري تحت المدينة المقدسة والمسجد الأقصى المبارك إضافة إلى مشاريع الاستيطان اليهودي الجارية على قدم وساق، جنباً إلى جنب مع خطة إسرائيلية معتمدة منذ أمد طويل لتهميش السلطة الفلسطينية، ومن ثم تقويضها تدريجياً، دون أن يلقى ذلك كله أي ردود أفعال جادة، الأمر الذي أوصل كثير من الأوساط السياسية والثقافية الفلسطينية إلى قناعة مبكرة مفادها أن إسرائيل قد شرعت فعلاً في قتل مشروع حل الدولتين، وأنها قد نفضت يديها المدججتين بالقوة من كل تعهد شكلي سابق، بقبول مثل هذا الحل الذي ظل مجرد حبر على ورق.
وأزعم أنني كنتُ واحداً من بين أوائل الفلسطينيين الذين توصلوا إلى هذه النتيجة التي تبني على الشيء مقتضاه، تنتهي الالتباسات واختلاط عناصر الصورة، وتُرتب علينا جميعاً مسؤوليات جسيمة، في مقدمتها التعاطي مع هذا الاستنتاج بأعلى درجة من درجات المسؤولية الوطنية، بما في ذلك التفكير الجدي في طي صفحة حل الدولتين لفتح صفحة أخرى جديدة. وكان لافتاً بالنسبة لي أن وسائل الإعلام الإسرائيلية دون غيرها، كانت أول من نقل عني تلك التصريحات المقتضبة حول موت حل الدولتين بفعل السياسة الإسرائيلية المنهجية المتبعة منذ أمد بعيد ضد مثل هذا الحل الذي بات بلا مقومات على أرض الواقع.
وبالطبع، لم يرحب الإسرائيليون بمثل هذا الاستنتاج الذي قرأه بعضهم على أنه إنذار ينطوي على تهديد بإعادة طرح حل الدولة الواحدة، إن لم أقل أن بعض الأصوات اليمينية المتطرفة رأت في ذلك ابتزازاً سياسياً مباشراً، يصادق على صحة ما كانت تروج له أوساط إسرائيلية واسعة، ليس فقط بعدم وجود شريك فلسطيني وانعدام الرغبة في صنع السلام لدى الفلسطينيين، وإنما يشير إلى رفض الحل السلمي من أساسه، واستمرار السعي الفلسطيني المبيت إلى تقويض الدولة العبرية من الداخل، وذلك من خلال إعادة طرح خيار الدولة الديمقراطية الواحدة لكل مواطنيها، وهو الخيار الذي كان رائجاً لعدة عقود ماضية قبل أن يجبه حل الدولتين.
وبالعودة إلى الينابيع الأولى لهذه الخلاصة التي أملتها على الأرض سلسلة لا نهاية لها من الحقائق السلبية، والاستعصاءات السياسية، والرهانات الخائبة، والآمال الزائفة، والمخاطر الجادة جداً، وجدت كما الكثيرين منا، أن طريق المفاوضات الطويل قد وصل إلى نهاية الشوط تماماً، وأن عملية السلام التي جرينا طويلاً في متاهاتها قد استنفذت أغراضها وانتهت، ولم يبق منها سوى الاسم فقط، وأن موازين القوى المختلة بصورة فادحة لا تجيز لنا مواصلة التفكير بصورة نمطية إلى ما لا نهاية، وأن المشهد الإقليمي بمتغيراته غير المواتية في المدى المنظور لا يبشر بحدوث تحولات وازنة لصالحنا، الأمر الذي يوجب علينا القيام بإعادة تقويم شاملة، وإجراء المراجعات النقدية المعمقة، بما في ذلك نقد خيار حل الدولتين ذاته.
وبمنأى عن الارتجال والاستعجال في طرح الاستنتاجات المبكرة، وعقد الرهانات المعلقة على أغصان شجرة باسقة، ومع الاعتراف سلفاً بعدد من العوائق الشديدة، والمخاطر الحقيقية التي ينطوي عليها طرح مفهوم الدولة الواحدة، فإنني أعتقد أن مقاربة هذا الطرح على إشكالياته الكثيرة، يقدم لنا رافعة أخلاقية، ومنصة انطلاق كفاحية تمكننا من العمل على إعادة تدوير الزوايا الحادة، وتوسيع هوامش المناورة، ومواصلة الهجوم السياسي الشامل لانتزاع أبسط حقوقنا المصادرة في الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، واسترداد فحوى شعارنا الثوري القديم، أي الدولة الواحدة، التي تقدم في جوهرها الديمقراطي كثيراً من الإجابات الشافية على فيض من الأسئلة الحائرة، بما في ذلك سؤال المصير الفلسطيني وجواب الحل النهائي.
لقد كان حل الدولتين فرصة أخرى بين سلسلة طويلة من الفرص الضائعة في تاريخ الشرق الأوسط، تولت إسرائيل هذه المرة، وبمفردها، تبديد هذه السانحة التي قد لا تتكرر من جديد. بل ويمكن اعتبار هذا الحل الموءود على مرأى من قابلته القانونية، أنه كان مجرد تمرين فكري في رياضة العبث السياسي واللاجدوى، انخرطت فيه قوى وعواصم وأطراف كانت تغلب حسن النية، وتغض البصر عن رؤية الحقائق الموضوعية، وتعوّل على عامل الزمن، وعلى قدرة الضغوط الدبلوماسية وحدها في تحقيق اختراق سياسي طال انتظاره، وتتذرع بأدنى إشارة تنم عن وجود رغبة إسرائيلية ما في الامتثال لقوة المنطق بديلاً عن منطق القوة.
إذ بدل أن نقترب خطوة يعتد بها على طريق حل الدولتين، وجدنا أنفسنا خلال السنوات العشر الماضية ضحية سهلة المنال، ليس لاحتلال غاشم فقط، ولواقع إقليمي لا مبالي، ولوضع دولي منافق، وإنما وجدنا أنفسنا أيضاً أمام نظام فصل عنصري يزداد فظاظة، ينتهك حقوق الإنسان الأساسية، ويخرق مبادئ القانون الدولي، جنباً إلى جنب مع تفاقم مختلف ممارسات القمع والقهر، وصور الاجتياحات والاعتداءات التي لم تنقطع، وجدار فصل عنصري ووقائع استيطان ومصادرات دون قيد، وعملية تهويد واستقواء بلا حدود، الأمر الذي بدّل سائر معطيات البيئة السياسية التي نشأت فيها فكرة حل الدولتين قبل عقد من الزمان.
وزاد من بؤس المشهد القائم بؤساً مضاعفاً، اشتداد مظاهر الانقسام الداخلي العميق في الساحة الفلسطينية، حيث فشلت كل المساعي المبذولة وكل الإعلانات المتلفزة، في تحقيق المصالحة الوطنية، التي تعتبر شرطاً أساسياً من شروط بناء حالة ذاتية متماسكة، ومدخلاً موضوعياً لا غنى عنه لتجديد شرعية سائر المرجعيات القيادية، ولسحب ذريعة طالما تذرعت بها إسرائيل بوجود سلطتين فلسطينيتين متنافستين في الضفة الغربية وقطاع غزة، تحولان دون إضفاء المشروعية اللازمة وتحقيق الأهلية الكاملة، لدى شريك سلام فلسطيني له كامل الصفة التمثيلية غير المنقوصة، ومفاوض يتمتع بالمصداقية غير المطعون فيها.
وهكذا نجد أنفسنا اليوم بعد مرور كل هذا الوقت وقد وقعنا في حبائل سيناريو عقيم، تطرح علينا مطالب تعجيزية، نواجه انسدادات مضاعفة، وتنخفض فيه التوقعات إلى أدنى حدودها الدنيا إزاء إمكانية الحل العادل والشامل، وتتعقد فيه القضايا الجوهرية مثل قضية القدس واللاجئين أكثر مما كانت عليه تعقيداً في بداية المسيرة السلمية الطويلة، وتتحطم فيه كل إمكانيات فعلية لتحقيق مشروع حل الدولتين بعد كل هذه التغيرات غير المواتية في البيئتين الإقليمية والدولية، ويستشري فيه النهم الاستيطاني إلى درجة لم يكن عليها من قبل طوال سنوات الاحتلال المديدة، وذلك كله دون أن تلوح في الأفق أي بادرة محتملة للخروج من هذا الاستعصاء المميت، وكسر هذه الحلقة الجهنمية المفرغة.
إزاء تفاقم المصاعب الحقيقية، وضآلة الخيارات المتاحة، وتغير البيئة السياسية المحيطة، واشتداد المخاطر المحيقة بالمصير الفلسطيني، يبدو أنه لا مفر أمامنا من محاولة الخروج، مرة إثر مرة، من هذا النفق المظلم، والكف عن التعلق بالأوهام الساذجة، والافتراضات العتيقة، والرهانات المعلقة في سماء بعيدة، والمكابرات التي لا طائل من ورائها، ومن ثم الشروع في إجراء حوار داخلي شامل يبدأ على شكل عصف فكري في الدوائر الصغيرة، قبل أن يتم عرضه إلى نقاش وطني أشمل، نتوصل فيه بعد حين قد لا يطول، إلى وجوب إحداث استدارة كاملة عن حل الدولتين بعد أن تعطلت آلياته وفقد مقوماته، والتحول من ثم إلى خيارات بديلة، وأساليب عمل جديدة، وخطط وبرامج كفاحية مختلفة.
وليس لدي شك في أن هذه المقاربة الصريحة لمآل حل الدولتين، تتطلب منا، بدل التطير سلفاً، إعمال الفكر بروية شديدة، وفتح النقاش حولها بمسؤولية كبيرة، وتدعونا بإلحاح شديد إلى إجراء المحاكمات الرصينة، والمراجعات النقدية العميقة، لإنضاج بديل واقعي لخيار يواجه أزمته الجدية، وبالتالي فتح نافذة أخرى تتسلل عبرها أشعة الشمس وخيوط الأمل، وذلك عوضاً عن أن نظل في حالة نتلاوم بعضنا بعضاً، ونتبادل تقاذف كرة المسؤولية، ونلعن الظلام بدل أن نضيء فيه شمعة.
ولعل من نافل القول التذكير بحقيقة أن حل الدولتين لم تقم له طوال الوقت السابق قائمة على الأرض، رغم كل ما تمتع به من سحر على مستوى الطرح السياسي، وما فاض به من إلهام على مستوى التحرك الدبلوماسي، وذلك نظراً لافتقار حل الدولتين هذا إلى قوة دفع ذاتية، لديها ما يكفي من التصميم والمصداقية والمرجعية الموثوقة، ناهيك عن حاجته الموضوعية إلى روافع وآليات عمل وجدول زمني ملزم، فضلاً عن توفير الحوافز والجوائز، ومتطلبات البناء التراكمي المتدرج، ومعايير التحقق بصورة تقبل القياس والتقويم، وفوق ذلك كله وجود النوايا الإيجابية التي لم تتوفر يوماً لدى القوة القائمة بالاحتلال.
بكلام آخر، أصبح حل الدولتين في المحصلة الأخيرة وبعد كل هذه السلسلة الرهيبة من الانتهاكات الإسرائيلية أقرب ما يكون إلى حرث في البحر، إن لم أقل ملهاة سياسية طويلة، أضاعت عشر سنوات حافلات بالمراوغات والتراجعات والاستعصاءات، اُقتطعت من أعمارنا، وهُدرت فيها طاقتنا المحدودة، وحصدنا في خواتيمها خيبة أمل مضنية، ليس أقلها تعثر الحل العادل والمقبول، واستشراء حالة الانقسام التي تبدو وكأنها داء عضال لا شفاء منه، وتفاقم التحديات المحيقة بنا، وانعدام روح المبادرة بعد إستبعاد بعض الخيارات بلا ثمن.
وإذا كان هناك من بقية رجاء بعد في إعادة بعث حل الدولتين، فذلك أمر لا يتوقف على حسن النية فقط، ولا يستعاد بذرف الدموع، ولا يتحقق بتجريب المجرب مرة أخرى، وإنما يكمن في العمل المثابر على إعادة بناء الأرضية الصلبة من جديد، وتصويب الأوضاع الذاتية على كل صعيد، وتعزيز مقومات الصمود والثبات، والحفاظ على الثوابت الوطنية، وإعادة الروح إلى المؤسسات الفلسطينية، ومعاودة الاشتباك مع الاحتلال بنَفَس طويل، واستنهاض الطاقات الكامنة، ورفع سوية الأداء الوطني.
وفي المحصلة التي تتطلب مزيداً من الحوار المنظم، فإن حل الدولتين الذي أرى أنه قد فقد مقومات تحققه على الأرض الجاري نهبها أمام أبصار رعاة هذا الحل، وأنه خسر قوة انطلاقه، ومسوغات التعلق بحباله الواهية، وموجبات التداول به بنمطية فكرية، وهو في واقع الأمر حل أخلى مكانه في مدار لا يقبل الفراغ، ليفتح من تلقاء نفسه باباً لحلول كفاحية إبداعية بديلة أو الاستمرار في عملية التجريب، قد يكون حل الدولة الواحدة، رغم كل ما يستبطنه من مسائل خلافية وإشكاليات لا حصر لها، واحد من الحلول التي يحسن بنا إثراءه في إطار حوار داخلي رصين، وعرضه من ثمة تحت ضوء النهار على رأي عام فلسطيني مترع بالإحباط، قبل وضعه على المائدة كخيار، ورميه على إسرائيل كجمرة من نار، بعد أن أفشلت حل الدولتين عن سابق تعمد وإصرار.
يبقى ضرورة القول، أن ما ينبغي على الطرف الفلسطيني القيام به في هذه الآونة، والشروع به دون تردد إضافي ولا انفعال، هو بيان ما تقوم به إسرائيل من عمل منهجي منظم، لقتل حل الدولتين وتقويض كل مقومات إنشاء دولة فلسطينية، ومن ثم وضع اللجنة الرباعية، والولايات المتحدة بصورة خاصة، على هذه الحقيقة التي باتت ترى رؤية العين المجردة، ونعني بذلك استحالة "حل الدولتين" الذي تمكنت إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال من قطع رأسه في القدس، قبل أن تشرع في تمزيق أوصاله في الضفة الغربية، وفي إبقاء الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
كما ينبغي القول أيضاً بصورة لا لبس فيها، أن مثل هذا الاستخلاص الذي ترسخ في الوعي العام منذ مدة، وبات كحقيقة مرة من حقائق وضع مرير في الأساس، أن علينا كفلسطينيين، ونحن المخاطبون كلياً بهذا المآل المؤلم، أن نأخذ مسؤوليتنا الخاصة بنا على هذا الصعيد، ونعني بذلك السعي بكل جدية إلى تعزيز مقومات الصمود الذاتي في كل المجالات، وأن نولي عناية فائقة بمسألة تثبيت وجود الإنسان الفلسطيني على أرضه بكل الأشكال الممكنة، وفوق ذلك كله أن نجري تقويماً عميقاً وشاملاً لسائر محطات المرحلة الطويلة، بكل ما تحقق فيها من إيجابيات وما اعتورها من سلبيات، ومن ثم اتخاذ القرارات المهمة، على نحو تشاركي، وبصورة مؤسسية، وفي إطار أعلى درجات الحس بالمسؤولية التاريخية
.
ومنذ ذلك الوقت كان مشروع حل الدولتين المتجاورتين لشعبين في أرض واحدة، بمثابة الأساس لكل جهود السلام المبذولة، إن لم نقل كخيط ناظم لسائر المبادرات والمساعي الدبلوماسية المبذولة على هذا الصعيد، لا سيما من جانب الرباعية الدولية، والولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، حيث كان أول من اشتق هذا المصطلح السياسي وروج له بقوة، الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ووزير خارجيته الجنرال كولن باول ومستشارة الأمن القومي حينئذ كونداليزا رايس، بعد مرور أقل من عام واحد على واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي غيرت وجه العالم كله.
وفيما تم تلقي هذا المشروع من جانب معظم الفلسطينيين والعرب، باعتباره حلاً معقولاً يكتسب قيمته الأساسية من كونه حلاً وسطاً بين المواقف المتصارعة، ومبادرة أميركية خالصة، جرى التنويه بها والثناء عليها من جانب مختلف القوى والعواصم النافذة، بينما كانت إسرائيل في عهد أرئيل شارون الذي كان قد شرع لتوه في حرب عدوانية شرسة ضد الانتفاضة الثانية، وسوّق إعادة احتلال الضفة الغربية كجزء من الحرب الكونية ضد الإرهاب، أخذ يتعامل مع هذه المبادرة الأميركية التي لا يمكن له رفضها، بسلسلة من التحفظات والمراوغات المعهودة، يقبل بها لفظياً ويعمل في الوقت ذاته على وأدها، من خلال الاستمرار في تصعيد عملية خلق الحقائق الاستيطانية التي تتكفل وحدها بإفشال حل الدولتين من أساسه.
ولا يتسع المقام هنا لاستعراض فيض من الممارسات الإسرائيلية التي عملت على نحو منهجي منظم دون نقل مشروع حل الدولتين من الحيز النظري المجرد إلى أرض الواقع العملي، سواء أكان ذلك في عهد شارون، أو في عهد خلفه ايهود أولمرت، أو في أيام بنيامين نتنياهو الذي لم ينطق بحل الدولتين سوى مرة واحدة في خطابه الشهير في جامعة بار إيلان وبشكل مراوغ، وذلك من أجل احتواء ما بدا أنه ضغط أميركي ثقيل الوطأة، لاح في الأفق البعيد من خلال تصريحات الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، الذي كان مفعماً بالأمل والنوايا الحسنة، قبل أن يرده الواقع السياسي الأميركي وضغوطات اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة على عقبيه، مثقلاً بخيبة الأمل والقيود والضغوط الداخلية المضادة.
كان مشروع حل الدولتين هذا موضع البحث الأساسي في مؤتمر أنابوليس الذي التأم في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس جورج بوش الثانية، ومثّل هذا المشروع أيضاً الأرضية السياسية التي انعقد عليها ذلك الاجتماع، بحضور نحو خمسين دولة ومنظمة دولية، وشكل قاعدة التفاهمات العريضة التي جرت في فضائها المفاوضات الثنائية لنحو عام لاحق، دون التوصل إلى نتيجة حاسمة تقربنا خطوة يعتد بها على طريق وضع حل الدولتين موضع التطبيق على الأرض، إن لم نقل عدم التمكن من إغلاق أي من الملفات المطروحة على مائدة التفاوض.
فقد حشدت حكومة أولمرت الذي كان رئيساً لبلدية القدس المحتلة سائر المصاعب والمعيقات أمام كل إمكانية لإنجاح تلك المفاوضات، سواء أكان ذلك عبر موجة عارمة من عمليات استيطان مركزة داخل مدينة القدس وفي محيطها المجاور، أو كان عبر سلسلة من الانتهاكات والمراوغات السياسية المصممة أساساً للتهرب من أداء أي استحقاق من استحقاقات حل النزاع التاريخي على أساس مشروع كان يواجه رفضاً مبطناً من أعلى المرجعيات السياسية والأمنية الإسرائيلية. ولعل إقحام موضوع الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، كان من بين أكثر الشواهد دلالة على وجود نية إسرائيلية مضمرة لاختلاق أي ذريعة ممكنة، من شأنها كبح كل جهد تفاوضي يقود إلى حل النزاع على قاعدة دولتين لشعبين.
على أي حال انتهت عملية أنابوليس التي لم تتمكن من الوصول إلى الحل المنشود رغم بعض التقدم غير المكتمل، وذلك عشية شن إسرائيل عدوانها الوحشي ضد قطاع غزة، وتبدل المسرح السياسي الإسرائيلي تبدلاً كبيراً غداة تلك الحرب التي كانت علامة فارقة في مسار العملية السلمية المتعثرة أصلاً، حيث بدا في إثرها مشروع حل الدولتين يترنح على الطاولة التي ظلت مقاعدها فارغة، فيما بقيت الإدارة الأميركية الجديدة التي تبنت هذه الفكرة مجدداً، تعمل لإعادة تجديد آليات حل الدولتين، وذلك وفق ما بدت عليه المؤشرات الأولية والخطابات المبكرة للرئيس الأميركي الجديد في البيت الأبيض، لا سيما فيما يتعلق بوقف الاستيطان كمقدمة أولية من أجل إعادة بعث العملية السلمية من سباتها.
وكما تشهد الوقائع التي لا تزال حية في الذاكرة، فقد ظل حل الدولتين متداولاً في سوق الكلام الدبلوماسي وقاعات المواقف اللفظية المرسلة على عواهنها، طوال السنة الأولى من زمن حكومة بنيامين نتنياهو، قبل أن تعمل الجرافات الإسرائيلية التي كانت تسابق الوقت لدفن هذا المشروع في تراب مشاريع الاستيطان الهائلة داخل مدينة القدس وفي محيطها الواسع، وتقضي عليه الحفريات المتواصلة تحت أساسات المسجد الأقصى، وفي قلب البلدة القديمة وما تسميه بالحوض المقدس، فضلاً عن عمليات التهويد والأسرلة الجارية على قدم وساق، وغير ذلك من الانتهاكات والمظاهر والشواهد الدالة بصورة لا تخطئها العين على تحلل إسرائيل تماماً من مشروع حل الدولتين، دون أن تعلن ذلك بالفم الملآن.
غير أن المرارة التي أخذت تعقد حلوق الفلسطينيين إثر انكشاف مدى تآكل مشروع حل الدولتين، واتضاح ضآلة الخيارات المتاحة بعد التراجع الأميركي المشين عن الوعود والتعهدات المعلنة، وزيادة الفتور الأوروبي، واشتداد حالة الانشغال العربي عن القضية الفلسطينية، جراء تقدم الاهتمامات الداخلية على غيرها في غمرة الربيع العربي، نقول إزاء ذلك كله بدأت بعض القوى والشخصيات الفلسطينية تتحدث عن هذه الحقيقة المريرة "فشل مشروع حل الدولتين" بصورة أكثر جدية، بين أوساط رأي عام بدا أنه كان أعمق إدراكاً من نخبته السياسية لمآلات كل هذه التحولات الجارية داخل إسرائيل وفي المشهدين: الإقليمي والدولي.
فقد كان الشعب الفلسطيني يرى بأم عينه عمليات تهويد القدس وتغيير معالمها التاريخية والثقافية والدينية، والحفريات التي تجري تحت المدينة المقدسة والمسجد الأقصى المبارك إضافة إلى مشاريع الاستيطان اليهودي الجارية على قدم وساق، جنباً إلى جنب مع خطة إسرائيلية معتمدة منذ أمد طويل لتهميش السلطة الفلسطينية، ومن ثم تقويضها تدريجياً، دون أن يلقى ذلك كله أي ردود أفعال جادة، الأمر الذي أوصل كثير من الأوساط السياسية والثقافية الفلسطينية إلى قناعة مبكرة مفادها أن إسرائيل قد شرعت فعلاً في قتل مشروع حل الدولتين، وأنها قد نفضت يديها المدججتين بالقوة من كل تعهد شكلي سابق، بقبول مثل هذا الحل الذي ظل مجرد حبر على ورق.
وأزعم أنني كنتُ واحداً من بين أوائل الفلسطينيين الذين توصلوا إلى هذه النتيجة التي تبني على الشيء مقتضاه، تنتهي الالتباسات واختلاط عناصر الصورة، وتُرتب علينا جميعاً مسؤوليات جسيمة، في مقدمتها التعاطي مع هذا الاستنتاج بأعلى درجة من درجات المسؤولية الوطنية، بما في ذلك التفكير الجدي في طي صفحة حل الدولتين لفتح صفحة أخرى جديدة. وكان لافتاً بالنسبة لي أن وسائل الإعلام الإسرائيلية دون غيرها، كانت أول من نقل عني تلك التصريحات المقتضبة حول موت حل الدولتين بفعل السياسة الإسرائيلية المنهجية المتبعة منذ أمد بعيد ضد مثل هذا الحل الذي بات بلا مقومات على أرض الواقع.
وبالطبع، لم يرحب الإسرائيليون بمثل هذا الاستنتاج الذي قرأه بعضهم على أنه إنذار ينطوي على تهديد بإعادة طرح حل الدولة الواحدة، إن لم أقل أن بعض الأصوات اليمينية المتطرفة رأت في ذلك ابتزازاً سياسياً مباشراً، يصادق على صحة ما كانت تروج له أوساط إسرائيلية واسعة، ليس فقط بعدم وجود شريك فلسطيني وانعدام الرغبة في صنع السلام لدى الفلسطينيين، وإنما يشير إلى رفض الحل السلمي من أساسه، واستمرار السعي الفلسطيني المبيت إلى تقويض الدولة العبرية من الداخل، وذلك من خلال إعادة طرح خيار الدولة الديمقراطية الواحدة لكل مواطنيها، وهو الخيار الذي كان رائجاً لعدة عقود ماضية قبل أن يجبه حل الدولتين.
وبالعودة إلى الينابيع الأولى لهذه الخلاصة التي أملتها على الأرض سلسلة لا نهاية لها من الحقائق السلبية، والاستعصاءات السياسية، والرهانات الخائبة، والآمال الزائفة، والمخاطر الجادة جداً، وجدت كما الكثيرين منا، أن طريق المفاوضات الطويل قد وصل إلى نهاية الشوط تماماً، وأن عملية السلام التي جرينا طويلاً في متاهاتها قد استنفذت أغراضها وانتهت، ولم يبق منها سوى الاسم فقط، وأن موازين القوى المختلة بصورة فادحة لا تجيز لنا مواصلة التفكير بصورة نمطية إلى ما لا نهاية، وأن المشهد الإقليمي بمتغيراته غير المواتية في المدى المنظور لا يبشر بحدوث تحولات وازنة لصالحنا، الأمر الذي يوجب علينا القيام بإعادة تقويم شاملة، وإجراء المراجعات النقدية المعمقة، بما في ذلك نقد خيار حل الدولتين ذاته.
وبمنأى عن الارتجال والاستعجال في طرح الاستنتاجات المبكرة، وعقد الرهانات المعلقة على أغصان شجرة باسقة، ومع الاعتراف سلفاً بعدد من العوائق الشديدة، والمخاطر الحقيقية التي ينطوي عليها طرح مفهوم الدولة الواحدة، فإنني أعتقد أن مقاربة هذا الطرح على إشكالياته الكثيرة، يقدم لنا رافعة أخلاقية، ومنصة انطلاق كفاحية تمكننا من العمل على إعادة تدوير الزوايا الحادة، وتوسيع هوامش المناورة، ومواصلة الهجوم السياسي الشامل لانتزاع أبسط حقوقنا المصادرة في الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، واسترداد فحوى شعارنا الثوري القديم، أي الدولة الواحدة، التي تقدم في جوهرها الديمقراطي كثيراً من الإجابات الشافية على فيض من الأسئلة الحائرة، بما في ذلك سؤال المصير الفلسطيني وجواب الحل النهائي.
لقد كان حل الدولتين فرصة أخرى بين سلسلة طويلة من الفرص الضائعة في تاريخ الشرق الأوسط، تولت إسرائيل هذه المرة، وبمفردها، تبديد هذه السانحة التي قد لا تتكرر من جديد. بل ويمكن اعتبار هذا الحل الموءود على مرأى من قابلته القانونية، أنه كان مجرد تمرين فكري في رياضة العبث السياسي واللاجدوى، انخرطت فيه قوى وعواصم وأطراف كانت تغلب حسن النية، وتغض البصر عن رؤية الحقائق الموضوعية، وتعوّل على عامل الزمن، وعلى قدرة الضغوط الدبلوماسية وحدها في تحقيق اختراق سياسي طال انتظاره، وتتذرع بأدنى إشارة تنم عن وجود رغبة إسرائيلية ما في الامتثال لقوة المنطق بديلاً عن منطق القوة.
إذ بدل أن نقترب خطوة يعتد بها على طريق حل الدولتين، وجدنا أنفسنا خلال السنوات العشر الماضية ضحية سهلة المنال، ليس لاحتلال غاشم فقط، ولواقع إقليمي لا مبالي، ولوضع دولي منافق، وإنما وجدنا أنفسنا أيضاً أمام نظام فصل عنصري يزداد فظاظة، ينتهك حقوق الإنسان الأساسية، ويخرق مبادئ القانون الدولي، جنباً إلى جنب مع تفاقم مختلف ممارسات القمع والقهر، وصور الاجتياحات والاعتداءات التي لم تنقطع، وجدار فصل عنصري ووقائع استيطان ومصادرات دون قيد، وعملية تهويد واستقواء بلا حدود، الأمر الذي بدّل سائر معطيات البيئة السياسية التي نشأت فيها فكرة حل الدولتين قبل عقد من الزمان.
وزاد من بؤس المشهد القائم بؤساً مضاعفاً، اشتداد مظاهر الانقسام الداخلي العميق في الساحة الفلسطينية، حيث فشلت كل المساعي المبذولة وكل الإعلانات المتلفزة، في تحقيق المصالحة الوطنية، التي تعتبر شرطاً أساسياً من شروط بناء حالة ذاتية متماسكة، ومدخلاً موضوعياً لا غنى عنه لتجديد شرعية سائر المرجعيات القيادية، ولسحب ذريعة طالما تذرعت بها إسرائيل بوجود سلطتين فلسطينيتين متنافستين في الضفة الغربية وقطاع غزة، تحولان دون إضفاء المشروعية اللازمة وتحقيق الأهلية الكاملة، لدى شريك سلام فلسطيني له كامل الصفة التمثيلية غير المنقوصة، ومفاوض يتمتع بالمصداقية غير المطعون فيها.
وهكذا نجد أنفسنا اليوم بعد مرور كل هذا الوقت وقد وقعنا في حبائل سيناريو عقيم، تطرح علينا مطالب تعجيزية، نواجه انسدادات مضاعفة، وتنخفض فيه التوقعات إلى أدنى حدودها الدنيا إزاء إمكانية الحل العادل والشامل، وتتعقد فيه القضايا الجوهرية مثل قضية القدس واللاجئين أكثر مما كانت عليه تعقيداً في بداية المسيرة السلمية الطويلة، وتتحطم فيه كل إمكانيات فعلية لتحقيق مشروع حل الدولتين بعد كل هذه التغيرات غير المواتية في البيئتين الإقليمية والدولية، ويستشري فيه النهم الاستيطاني إلى درجة لم يكن عليها من قبل طوال سنوات الاحتلال المديدة، وذلك كله دون أن تلوح في الأفق أي بادرة محتملة للخروج من هذا الاستعصاء المميت، وكسر هذه الحلقة الجهنمية المفرغة.
إزاء تفاقم المصاعب الحقيقية، وضآلة الخيارات المتاحة، وتغير البيئة السياسية المحيطة، واشتداد المخاطر المحيقة بالمصير الفلسطيني، يبدو أنه لا مفر أمامنا من محاولة الخروج، مرة إثر مرة، من هذا النفق المظلم، والكف عن التعلق بالأوهام الساذجة، والافتراضات العتيقة، والرهانات المعلقة في سماء بعيدة، والمكابرات التي لا طائل من ورائها، ومن ثم الشروع في إجراء حوار داخلي شامل يبدأ على شكل عصف فكري في الدوائر الصغيرة، قبل أن يتم عرضه إلى نقاش وطني أشمل، نتوصل فيه بعد حين قد لا يطول، إلى وجوب إحداث استدارة كاملة عن حل الدولتين بعد أن تعطلت آلياته وفقد مقوماته، والتحول من ثم إلى خيارات بديلة، وأساليب عمل جديدة، وخطط وبرامج كفاحية مختلفة.
وليس لدي شك في أن هذه المقاربة الصريحة لمآل حل الدولتين، تتطلب منا، بدل التطير سلفاً، إعمال الفكر بروية شديدة، وفتح النقاش حولها بمسؤولية كبيرة، وتدعونا بإلحاح شديد إلى إجراء المحاكمات الرصينة، والمراجعات النقدية العميقة، لإنضاج بديل واقعي لخيار يواجه أزمته الجدية، وبالتالي فتح نافذة أخرى تتسلل عبرها أشعة الشمس وخيوط الأمل، وذلك عوضاً عن أن نظل في حالة نتلاوم بعضنا بعضاً، ونتبادل تقاذف كرة المسؤولية، ونلعن الظلام بدل أن نضيء فيه شمعة.
ولعل من نافل القول التذكير بحقيقة أن حل الدولتين لم تقم له طوال الوقت السابق قائمة على الأرض، رغم كل ما تمتع به من سحر على مستوى الطرح السياسي، وما فاض به من إلهام على مستوى التحرك الدبلوماسي، وذلك نظراً لافتقار حل الدولتين هذا إلى قوة دفع ذاتية، لديها ما يكفي من التصميم والمصداقية والمرجعية الموثوقة، ناهيك عن حاجته الموضوعية إلى روافع وآليات عمل وجدول زمني ملزم، فضلاً عن توفير الحوافز والجوائز، ومتطلبات البناء التراكمي المتدرج، ومعايير التحقق بصورة تقبل القياس والتقويم، وفوق ذلك كله وجود النوايا الإيجابية التي لم تتوفر يوماً لدى القوة القائمة بالاحتلال.
بكلام آخر، أصبح حل الدولتين في المحصلة الأخيرة وبعد كل هذه السلسلة الرهيبة من الانتهاكات الإسرائيلية أقرب ما يكون إلى حرث في البحر، إن لم أقل ملهاة سياسية طويلة، أضاعت عشر سنوات حافلات بالمراوغات والتراجعات والاستعصاءات، اُقتطعت من أعمارنا، وهُدرت فيها طاقتنا المحدودة، وحصدنا في خواتيمها خيبة أمل مضنية، ليس أقلها تعثر الحل العادل والمقبول، واستشراء حالة الانقسام التي تبدو وكأنها داء عضال لا شفاء منه، وتفاقم التحديات المحيقة بنا، وانعدام روح المبادرة بعد إستبعاد بعض الخيارات بلا ثمن.
وإذا كان هناك من بقية رجاء بعد في إعادة بعث حل الدولتين، فذلك أمر لا يتوقف على حسن النية فقط، ولا يستعاد بذرف الدموع، ولا يتحقق بتجريب المجرب مرة أخرى، وإنما يكمن في العمل المثابر على إعادة بناء الأرضية الصلبة من جديد، وتصويب الأوضاع الذاتية على كل صعيد، وتعزيز مقومات الصمود والثبات، والحفاظ على الثوابت الوطنية، وإعادة الروح إلى المؤسسات الفلسطينية، ومعاودة الاشتباك مع الاحتلال بنَفَس طويل، واستنهاض الطاقات الكامنة، ورفع سوية الأداء الوطني.
وفي المحصلة التي تتطلب مزيداً من الحوار المنظم، فإن حل الدولتين الذي أرى أنه قد فقد مقومات تحققه على الأرض الجاري نهبها أمام أبصار رعاة هذا الحل، وأنه خسر قوة انطلاقه، ومسوغات التعلق بحباله الواهية، وموجبات التداول به بنمطية فكرية، وهو في واقع الأمر حل أخلى مكانه في مدار لا يقبل الفراغ، ليفتح من تلقاء نفسه باباً لحلول كفاحية إبداعية بديلة أو الاستمرار في عملية التجريب، قد يكون حل الدولة الواحدة، رغم كل ما يستبطنه من مسائل خلافية وإشكاليات لا حصر لها، واحد من الحلول التي يحسن بنا إثراءه في إطار حوار داخلي رصين، وعرضه من ثمة تحت ضوء النهار على رأي عام فلسطيني مترع بالإحباط، قبل وضعه على المائدة كخيار، ورميه على إسرائيل كجمرة من نار، بعد أن أفشلت حل الدولتين عن سابق تعمد وإصرار.
يبقى ضرورة القول، أن ما ينبغي على الطرف الفلسطيني القيام به في هذه الآونة، والشروع به دون تردد إضافي ولا انفعال، هو بيان ما تقوم به إسرائيل من عمل منهجي منظم، لقتل حل الدولتين وتقويض كل مقومات إنشاء دولة فلسطينية، ومن ثم وضع اللجنة الرباعية، والولايات المتحدة بصورة خاصة، على هذه الحقيقة التي باتت ترى رؤية العين المجردة، ونعني بذلك استحالة "حل الدولتين" الذي تمكنت إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال من قطع رأسه في القدس، قبل أن تشرع في تمزيق أوصاله في الضفة الغربية، وفي إبقاء الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
كما ينبغي القول أيضاً بصورة لا لبس فيها، أن مثل هذا الاستخلاص الذي ترسخ في الوعي العام منذ مدة، وبات كحقيقة مرة من حقائق وضع مرير في الأساس، أن علينا كفلسطينيين، ونحن المخاطبون كلياً بهذا المآل المؤلم، أن نأخذ مسؤوليتنا الخاصة بنا على هذا الصعيد، ونعني بذلك السعي بكل جدية إلى تعزيز مقومات الصمود الذاتي في كل المجالات، وأن نولي عناية فائقة بمسألة تثبيت وجود الإنسان الفلسطيني على أرضه بكل الأشكال الممكنة، وفوق ذلك كله أن نجري تقويماً عميقاً وشاملاً لسائر محطات المرحلة الطويلة، بكل ما تحقق فيها من إيجابيات وما اعتورها من سلبيات، ومن ثم اتخاذ القرارات المهمة، على نحو تشاركي، وبصورة مؤسسية، وفي إطار أعلى درجات الحس بالمسؤولية التاريخية
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق