الرسائل الخاصة بين عكاشة وعبد الناصر
د. هدى جمال عبد الناصر
يعز علي أن أكتب عنه وهو ليس معنا, فلقد كان من الرجال الذين مهما طال بهم العمر.. فهو قصير وقد كنت دائمة التواصل معه, أستمد من عواطفه النبيلة وخبرته وأسلوبه الراقي في الحياة قوة; فقد كان صديقا مقربا لوالدي .
منذ أن جمعهما تنظيم الضباط الأحرار في أوائل الأربعينيات, ومازلت أتذكر زياراتنا لهم قبل الثورة وبعدها; فتوطدت صلاتنا (أختي مني وأنا) مع محمود ونورا; أولاده الأعزاء.
استمرت هذه الصداقة الحميمة مع جمال عبد الناصر لم يهزها شيء, ولا حتي اشتراكه في حركة سلاح الفرسان في بداية الثورة! تلك الصداقة القائمة علي المحبة والاخلاص, والتي كنت أرقبها بحب واهتمام.
إنني هنا لن أتكلم عن شخصية ثروت عكاشة الآسرة, ولا عن شغفه بالعلم والفن والأدب وهو بخلفية عسكرية, ولا عن اسهاماته وإنجازاته عندما كان في موقع المسئولية كنائب رئيس وزارء ووزير للثقافة, ولا عن التقدير الذي حظي به في مصر والعالم العربي والعالم, ولا عن الجوائز التي منحت له فكان هو الذي يكرم الجائزة لا العكس!
إنني سأتكلم عن جانب واحد.. ثروت عكاشة الإنسان الذي كانت علاقته بجمال عبد الناصر مصدرا للابداع وللانجاز الوطني. وفي هذا المجال أحتفظ بسبعة خطابات منه الي والدي; تكشف الكثير مما لم أكن ذ ولا غيري ذ يعرفه, حتي شقيقه الدكتور أحمد عكاشة.
السعي للمشاركة في حرب فلسطين
سافر جمال عبد الناصر الي فلسطين في 15 مايو 1948, في أول دفعة من الجيش المصري تذهب الي هناك بعد إعلان دخول مصر الحرب ضد اسرائيل.
وفي خطاب من ثروت عكاشة ابرئاسة سلاح الفرسان, بتاريخ 28/5/1948 اعزيزي جمال.. السلام عليكم ورحمة الله.. أرجو أن تكون بخير أنت وعبد الحكيم وزكريا وجميع الاخوان. وأنا أستطلع أخبارك كل يوم وأطمئن عليك... ولا أعرف متي سأسافر, وعسي أن أقابلك في القريب العاجل. أنا في شدة الشوق لمقابلتكم جميعا, وبإذن الله نجتمع في أقرب وقت... المخلص ثروتب.
وفي خطاب ثان بتاريخ 7/6/1948 اأخي وعزيزي جمال... أستطيع الآن أن أجسر فأقول إن مسعاي قد تكلل تقريبا بالنجاح; وسألحق بكم جميعا في ميدان الجهاد. وإن شاء الله أراك في أقرب الأوقات.. أخوك ثروتب.
وفي خطاب من حمدي عاشور, بتاريخ 17/6/1948 اثروت نجح في السفر اليكم فعسي أن قابلتهب. (الوثائق فيwww.Nasser.org)
معني ذلك أن الضابط ثروت عكاشة سعي وعمل المستحيل لينضم الي زملائه, ويشارك في الجهاد المقدس في فلسطين.. وطنية جارفة لازمته حتي الرمق الأخير.
التهنئة بتوقيع اتفاقية الجلاء
وحتي في الفترات التي قضاها في الخارج, ملحقا عسكريا وسفير من 1953 وحتي 1958, فكان قلبه وعقله مع الوطن. ففي خطاب منه الي جمال عبد الناصر من باريس, في 2 أغسطس 1954 كتب.. الرأي العام الأوروبي يبارك خطوة مصر الأخيرة, ولكأن توقيع هذه الاتفاقية هو نداء علي بابا المشهور افتح يا سمسم. فالراجح أن كافة الأبواب الموصدة في كافة الميادين علي وشك أن تتفتح, متطلعة الي مجال راسخ جديد تقذف اليه بنشاطها ورأسمالها وخبرتها. ولا أحسبني مبالغا إذا ما قررت أن مرحلة الاستجداء التي كنا تجتازها قد ولت الي غير رجعة بإذن الله.
وفي 23 يوليو 1957 كتب ثروت عكاشة بعد خطاب جمال عبد الناصر بمناسبة افتتاح أول مجلس أمة بعد الثورة, سيدي وأخي الرئيس.. إن موقفكم الأخير أكبر من التهنئة; فقد تصورت دائما أن كل موقف من مواقفكم هو قمة ما يستطيع أن يحققه حاكم وطني شريف. وإذا أنتم تسبقون بكل موقف حتي آمال الناس فيكم, وإذا موقفكم الأخير شيء أكبر من التهنئة, ولا أملك إزاءه إلا الدعاء لكم بالتوفيق.. والله وحده هو الكفيل بجزائكم عما تعملون.
جهوده لعودة العلاقات مع فرنسا بعد عدوان 1956
ومع تقلده منصب وزير الثقافة, ظلت فرنسا محط اهتمامه السياسي والفني. وبعد عدوان 56 ظلت علاقات مصر الدبلوماسية مع فرنسا مقطوعة لفترة طويلة, وكان لجهود ثروت عكاشة الفضل في عودة العلاقات بين البلدين بالتدريج. وقد بدأت الخطوات الأولي باتفاق مع كوف دي مورفيل (وزير الخارجية) لإنشاء بعثة فرنسية اقتصادية ثقافية, يعقبها إنشاء قنصلية عامة في أوائل 1960
وفي خطاب من ثروت عكاشة الي جمال عبد الناصر في 19/2/1959 كتب عن مقابلة مع مندوب الخارجية الفرنسية.. وقد استهل حديثه بأن السلطات الفرنسية قد تلقت امفاجأة غير سارة, وأصيبت بخيبة أمل عندما علمت بنبأ تبادل التمثيل السياسي مع بريطانيا علي مستوي القائم بالأعمال, ليس هذا فحسب بل لأن وعدا كنا قد قطعناه علي أنفسنا من قبل كي لا نبدأ العلاقات مع بريطانيا قبل فرنسا...
وانتهي مندوب الخارجية في حديثه إلي أن هذه الخطوة من جانب الجمهورية العربية نحو انجلترا قد أضعفت من شأن الفئة التي تنادي بسياسة فرنسية مصادقة للعرب, وأن الجانب الذي يعضد اسرائيل قد قويت شوكته...
وقد ذكرت له... أن ثمة خلافا جوهريا بيننا - نحن وفرنسا - بصدد عون اسرائيل وحرب الجزائر.
وفي مذكرة الي جمال عبد الناصر بتاريخ 3 مارس 1966 - وهو رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي - أبلغ الرئيس ديجول عن طريق لوي جوكس - وزير الدولة الفرنسي - أن حكومة جي موليه في عهد الجمهورية الرابعة تورطت في تقديم كافة أنواع المساعدة العسكرية لاسرائيل, خاصة في الميدان النووي. والشعور السائد لدي العرب عامة ذ ومصر خاصة ذ أن فرنسا مسئولة أمام التاريخ عن دخول الصراع بين العرب واسرائيل هذا السباق الذي لن يقف عند حد.
إن الرئيس جمال عبد الناصر يدرك عدم جدوي هذا السباق, ويؤمن بمبدأ عدم انتشار الأسلحة الذرية, ولكنه غير مستعد لأن يقف مكتوف اليدين أمام الخطر الذي يتهددنا. فبحسب احصائياتكم تسبقنا اسرائيل بخمس سنوات علي الأقل في هذا الميدان الخطير, وهي فترة... ملأي بكل أنواع التهديد والدمار والخطر. والرئيس لا ينوي أن يحول شعبه الي شراذم من اللاجئين, ولكنه يفضل أن ينفق دخله القومي علي حل مشاكل بلاده, والارتفاع بمستوي سكانه; خيرا من التردي في مثل هذا السباق المميت.
وفي هذا الصدد هناك حلان; الأول أن تتدخل فرنسا تدخلا ايجابيا في وقف اسرائيل عن مواصلة انتاج قنبلتها الذرية... أما إذا تعذر هذا, فلا مفر من أن تمنحونا مساعدتكم الفنية السريعة والفعالة للحاق بالمستوي الذي بلغته اسرائيل عن طريقكم; وأصبحت بذلك خطرا يهدد حياة أفراد شعبنا ومنجزاتنا التي حققناها... إن نشاطنا النووي يتجه نحو الأهداف السلمية, وكذلك تدعي اسرائيل, ولكنك تعلم ألا حدود بين الأهداف السلمية والعسكرية.
هكذا.. حتي وهو بعيد عن المسئولية الرسمية, كان لا يدخر جهدا في مباشرة شئون مصر في كافة المجالات. لقد كان بحق وطنيا مخلصا, وحظي بقدر من المحبة والتقدير من الشعب.. لا يضاهي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق