حسن خليل غريب كاتب وباحث عروبي ( لبنان) |
سؤال طالما تردَّد في هذه المرحلة، وازدادت وتيرة هذا الترديد. وهنا نتساءل، بدورنا:ما هي أسباب طرح مثل هذا السؤال في الوقت الذي تزداد فيه الهجمة على الأمة العربية؟
كما تزداد فيه المشاريع التي يريد أصحابها قطعة من الأمة من شرقها وذاك يريد قطعة من غربها. هذا يريد قطعة من جنوبها يواجهه آخر بالعمل من أجل اقتطاع حصة له في شمالها. إن طرح إشكالية، في وقت ما، لا بدَّ من أن تخفي وراءها أغراضاً وأهدافاً ترتبط بطبيعة المرحلة. وترتبط، أيضاً، بأهداف من يعملون على تعميقها. قل لي من هم الذين يطرحون هذه الإشكالية، وهذا السؤال، أقل لك ما هو الغرض من ورائه. لكن هذا لا يعني –على الإطلاق- أننا نريد أن نشكك بنوايا الصادقين، الذين يريدون جواباً لتطمئن قلوبهم، وليواجهوا به أصحاب الأغراض والأوطار البعيدة عن مصلحة الأمة.
كما تزداد فيه المشاريع التي يريد أصحابها قطعة من الأمة من شرقها وذاك يريد قطعة من غربها. هذا يريد قطعة من جنوبها يواجهه آخر بالعمل من أجل اقتطاع حصة له في شمالها. إن طرح إشكالية، في وقت ما، لا بدَّ من أن تخفي وراءها أغراضاً وأهدافاً ترتبط بطبيعة المرحلة. وترتبط، أيضاً، بأهداف من يعملون على تعميقها. قل لي من هم الذين يطرحون هذه الإشكالية، وهذا السؤال، أقل لك ما هو الغرض من ورائه. لكن هذا لا يعني –على الإطلاق- أننا نريد أن نشكك بنوايا الصادقين، الذين يريدون جواباً لتطمئن قلوبهم، وليواجهوا به أصحاب الأغراض والأوطار البعيدة عن مصلحة الأمة.
من خلال متابعتنا لموضوع المسألة القومية، سواء على صعيد الفكر أو صعيد السياسة، نرى أن الذين يطرحون هذا السؤال –من موقع التشكيك بجدوى الوحدة العربية- يستندونإلى أسس فكرية وسياسية وإيديولوجية قطرية أو ذات ارتباط مع مشاريع العولمة.
إن الاتجاه القطري ذو ارتباط مع المفهوم الاستعماري القديم –المستند إلى تقسيمات اتفاقية سايكس – بيكو- وهو تيار أصبح معروفاً بأغراضه وأهدافه لأنه مرتبط مع خرائط التقسيمات الجغرافية المرسومة الآن، والتي يحاول الاستعمار المعاصر أن يمنع تغييرها. أما عن العولمة فهي وجه متطور ومتقدم للاستعمار. فكيف ننظر إلى العولمة وكيف نفهمها، ومن هم أولئك الذين يطرحون العولمة كبديل للقوميات؟
هناك تياران يناديان بالعولمة، وعلينا التمييز بين أهدافهما وأغراضهما: الأول يستند إلى رؤى وأهداف رأسمالية، لها علاقة بتوسيع الأسواق أمام إنتاج الدول الرأسمالية، ولا يمكن توسيع تلك الأسواق إلاَّ من خلال سيطرة تامة على إرادة الشعوب وقرارها السياسي، أي بإلغاء كل ما له علاقة بقيم السيادة الوطنية والقرار الوطني المستقل وحماية الثروة والأسواق الوطنية وتنظيمها. أما التيار الآخر، فهو تيار العولمة على مقاييس رؤى فكرية: تستند الأولى إلى رؤية سياسية دينية لها أهدافها وأغراضها الدينية القائمة على بناء دولة دينية تحكم باسم الشرائع السماوية. أما الأخرى فتستند إلى رؤية فلسفية مادية، وتعبِّر عنها الفلسفة المادية الماركسية التي تعمل من أجل توحيد العالم تحت سيطرة القوى العمالية العالمية، أي تحت قيادة طبقة البروليتاريا. وطالما أن العولمة بالقياس الديني تقوم على إلغاء الحواجز والحدود، بما يسمح للقوى السياسية الدينية ببناء أنموذج سياسي ديني في مكان ما من العالم، ويعمل على توسيع حدوده بشتى الوسائل المنصوص عليها في كتبهم. ويعتقد أصحاب مشاريع العولمة الدينية أن حدود الدول القومية الحديثة تشكل عائقاً جدياً أمام مشاريعها. مع وجوب التمييز بين أهداف التيارين –العولمة الاستعمارية والعولمة الدينية والماركسية- وأغراضهما نرى أن اتجاهات العولمة مسؤولة عن التشكيك بجدوى الاستمرار في الدعوة إلى الوحدة العربية. ولعلَّ الإخفاقات التي أُصيبت بها التيارات القومية، منذ أوائل الستينيات من القرن العشرين، تكون قد أسهمت في تعزيز مواقف القطريين والعولميين للتشكيك بجدوى الوحدة العربية. لكن تلك الإخفاقات كانت ذات أسباب موضوعية وذاتية، ونرى نحن بدلاً من إلغاء وإسقاط المشاريع القومية الوحدوية السياسية والفكرية أن نقوم بدراستها دراسة نقدية موضوعية، لنستخلص منها الدروس والعبر بما يسهم في تصويب مساراتها، ووضعها على المسار الصحيح. ولهذا مجال آخر وبحث آخر. متجاوزين أغراض التشكيك الذي مارسته تيارات العولمة، خاصة تلك المرتبطة بدوائر الفكر والسياسة الاستعمارية بفائدة الوحدة العربية، لنطرح السؤال من موقع الصادق في أغراضه وأهدافه من إيجابيات الوحدة العربية. هنا نرى، من المنطلق الفكري، أن الجامع القومي لمجتمعات مفتتة –كمثل واقع أقطار الأمة العربية في وضعها الراهن- هو، بالدرجة الأولى، شعور إنساني سليم. وسلامة هذا الشعور يستند إلى رؤية إنسانية عملية في انتماء الفرد إلى مجتمع ما. وبمجرد أن ينتفي وجود هذا الشعور تنتفي معه حاجة الفرد إلى الشعور بانتمائه إلى أسرة. لكن على قاعدة الضرورة في تثبيت انتماء الفرد إلى أسرة تستند الحاجة في انتماء الفرد والأسرة إلى مجتمع، وتستند حاجة انتماء المجتمع إلى جامع قومي بخصوصيات قومية. ومن مجرد الشعور بالانتماء إلى قومية نرى ضرورة تعريف القومية بوضوح. وهذا يطرح الحاجة إلى تعريف لقوميتنا العربية، وتحديد تعريف لبنائها السياسي. فإذا سلَّمنا بوجود قومية عربية، ولهذا مجال آخر وبحث آخر، واستجابة لحاجة السؤال موضوعالمحاضرة نحصر معالجتنا في موضوع التساؤل حول ما إذا ما زالت الوحدة العربية تشكل حاجة قومية عربية. كبداية للجواب على التساؤل، نرى، أنه إذا كان واقع العالم البشري موزَّع بين القوميات، وإذا كان لكل قومية مميزاتها وخصوصياتها، فالقومية العربية هي التي تفصح عن مميزات العرب وخصوصياتهم. وتأتي الوحدة العربية لتشكل المظهر السياسي للنظرية القومية العربية. فإذا كانت القومية العربية تعبِّر عن شخصية العرب وخصوصياتهم الثقافية، فإن الوحدة العربية هي الترجمة الواقعية والعملية لمضمون النظام السياسي الذي يوحِّد بين أبناء المجتمع العربي، ويعمل من أجل مصلحة شتى التنوعاتالقطرية فيه. فما هي المكاسب التي يحصل عليها العرب من خلال وحدتهم السياسية؟ إذا كان كل جيل عربي يتناقل الثقافة العربية عن الجيل الذي سبقه، وإذا كانت الثقافة العربية هو ذلك التراكم الحضاري الذي أسهمت في صناعته شتى الشعوب التي عاشت في المنطقة الممتدة بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي، وإذا كانت منطقة ما بين النهرين –أكثر المناطق عمقاً ثقافياً وحضارياً في المنطقة العربية، وفي العالم أيضاً- قد انصهرت معالثقافات والحضارات اللاحقة–مروراً بآخر تجربة حضارية وثقافية ثبتتها الثورة الإسلامية- وشكَّلت بناء ثقافياً وحضارياً عربياً. لكل تلك الأسباب يشكل النتاج الثقافي والحضاري العربي عصارة انصهار تجارب شعوب عديدة كانت تعيش في المنطقة الجغرافية المعروفة اليوم بالمنطقة العربية. فإذا كانت مرحلة تاريخية ما، أو إيديولوجية ما، قد أسهمت أكثر من الأخرى في هذا البنيان الثقافي والحضاري، فلن يكون مميزاً إلاَّ بالدرجة لأن كل الإيديولوجيات قد وحَّدت كل تلك التجارب في ثقافة عربية واحدة أفادت الثقافة والحضارة الإنسانية جمعاء كما استفادت –بدورها- من تلك الثقافات والحضارات. فإذا كان شعب ما يفاخر ويعتز بحضارته وثقافته، ويعمل من أجل أن يستمر دوره الثقافي والحضاري، فإن العرب هم من الشعوب الذي يفاخرون بمثل هذا الدور ويعملون على أن يبقى مستمراً، وهنا تأتي أهمية أن يكون للعرب مظهر سياسي يستطيع أن يحافظ على التُراث الثقافي والحضاري للأمة العربية، ومن هنا تأتي حاجة العرب لبنيان سياسي وحدوي يحافظ على دور العرب في الإسهام بإغناء الحضارة الإنسانية. فالوحدة العربية، هي أولاً وقبل أي شيء آخر، حاجة ضرورية للمحافظة على وحدة الثقافة العربية وحمايتها من الشطب والإلغاء. لكن ليست الحاجة للوحدة مقتصرةً على هذا الجانب، على الرغم منأهميته في الدفاع عن حق للعرب في أنهم أسهموا إسهاماً جدياً في صناعة تاريخ العالم الحضاري، فإنه يحفِّز العرب لكي يلعبوا دوراً في مستقبله أيضاً. فإذا ما ناموا على حرير الدور التاريخي، من دون أن يتمموه، فإنهم سينامون على أشواك الحاضر والمستقبل. تأتي الوحدة العربية حاجة ضرورية للمحافظة على تُراث العرب الثقافي والحضاري، ولإعدادهم في الحاضر في سبيل بناء مشروع نهضوي عربي ينقذهم من مظاهر التخلف ووقائعه، من أجل أن يستـأنفوا دورهم التاريخي في المستقبل. وهذا الاستئناف لن يكون بمعزل عن توحيد جهودهم على شتى المستويات. ففي عصر العولمة لا مكان للدول الضعيفة والمجتمعات المتخلفة. ولأن للانقاذ من التخلف، والمسير نحو التقدم ، شروطاً يجب أن تتوفر للمجتمعات، فإن توحيد إمكانيات الأمة على شتى الصُعُد تشكل حاجة ضرورية ومهمة وجدية في عصر العولمة الاستعمارية. فما هي المظاهر والمهمات التوحيدية التي تجعل من الوحدة العربية حاجة ضرورية للنضال العربي من أجل أن يعمل على فرض دور للأمة العربية في عالم الأقوياء؟ ولأن الحاجة إلى الوحدة العربية أصبحت واضحة نظرياً، فإن النضال من أجلها وطريقة تحقيقها، والسُبُل المؤدية إليها هي من الإشكاليات التي نحن بحاجة إلى الإسهام في توضيح بعض الوسائل العملية التي تسهم في تحقيقها. وعلى هذاالأساس سوف أسهم في بعض تلك الجوانب:من غير الواقعي أن نحسب بأن الوحدة السياسية تتم دفعة واحدة، بل لا بُدَّ من خطوات تمهيدية تسبقها، وقد تطول مرحلة التمهيد إلى عشرات السنين. يسبق العمل الوحدوي تمهيد فكري وثقافي وتربوي، كأساس ضروري لأي عمل نضالي يضع الوحدة العربية هدفاًأساسياً من أهدافه. والخطوة الضرورية في مثل هذا التمهيد تتأسس على قاعدة أن ينال المشروع الوحدوي السياسي قبولاً لدى أوسع التيارات الفكرية والسياسية على مستوى الأقطار العربية، وهذا يستدعي أن يبذل الوحدويون جهداً حوارياً واسعاً مع كل تلك التيارات. ليس على الوحدويين أن ينتظروا انتهاء الحوارات مع التيارات السياسية والحزبية العربية، لكي يباشروا في تأسيس عمل وحدوي، بل هناك خطوات نضالية متواصلة تطول تفصيلات العمل الوحدوي، مثل مشاريع الاتفاقات الوحدوية التي تصدر عن المؤسسات الرسمية، التي تترجم بشكل أو بآخر الطموحات الوحدوية، تلك الاتفاقات التي تقدِّم أدلة ملموسة، أمام الجماهير في شتى الأقطار العربية، على أهمية الحاجة لبنيان سياسي وحدوي، ومن تلك الخطوات، وليس كلها، يمكن التأكيد على أهمية العوامل الوحدوية في الثقافة والاقتصاد والسياسة والدفاع.
1-حاجات التوحيد السياسي والثقافي والعلمي:
كان من أهم نتائج الدولة العربية الإسلامية في التاريخ،، أنها انبنت على وحدوية ثقافية أدَّت إلى بناء وحدوي سياسي بعد أن كان الواقع الثقافي القبلي، مبنياً على قاعدة الوحدة العشائرية بما فيها من تمزق واقتتال من جهة، وعلى تمزق ثقافي على قاعدة تعددية عبادة الأصنام من جهة أخرى، فأدَّى التوحيد الثقافي الذي قامت به الدعوة الإسلامية إلى تجاوز سلبيات التفتيت السياسي والاجتماعي والاقتصادي وأحلَّ مكانها وحدوية ثقافية وسياسيةواجتماعية، كان من أهم نتائجها الإسهام الكبير في الفتوحات العربية الإسلامية التي أسهمت في تكوين ما نتعارف عليه اليوم بالأمة العربية. ولأن البنيان الحضاري العربي هو نتاج لكل الإيديولوجيات التي سبقت الدعوة الإسلامية أو التي أتت بعدها، ولأن المجتمع القومي –في هذه المرحلة- متعدد الانتماءات الدينية والمذهبية، ولأنه لا يمكن لتلك التعدديات أن تخضعلسلطان إيديولوجيا واحدة لا تنال رضى وقناعة من كل التعدديات الدينية والمذهبية، لكل ذلك نرى أنه لا يمكننا اليوم، أن ندخل إلى بوابة الوحدة السياسية من جديد إلاَّ عبر المرور من بوابة التوحيد الثقافي القومي، وتلك مهمة يقع عبئها على أكتاف الوحدويين العرب.
2-حاجات التوحيد الاقتصادي:
ليست الوحدة السياسية هدفاً بذاتها، بل لها ارتباطات وثيقة بواقع مواجهة الأعباء الاقتصادية التي تطول مصالح الجماهير العربية في كل أقطار الأمة العربية. في البدء نرى أن واقع الاقتصاد المعاصر، القائم على قاعدة الانتاج الصناعي، لا يمكن أن يحقق أغراضه إلاَّ من خلال تضافر جهود أكثر من دولة. بينما نرى أن الواقع القطري العربي الراهن، لن يستطيع دخول عصر الانتاج الصناعي ما لم تتضافر جهود وإمكانيات الأقطار مجتمعة، أو على الأقل أكثرها. والدافع من وراء ذلك هو عوامل التكامل بين ثروات الأقطار الطبيعية والبشرية، وبين مستويات الإنتاج والاستهلاك. أما إذا دخلنا إلى العصر من بوابة العولمة الاقتصادية، التي تقودها اليوم الولايات المتحدة الأميركية، فسوف تزداد حاجة العرب إلى وحدة سياسية تنظِّم واقع الاقتصاد القطري وتقوده نحو واقع اقتصادي جديد يتَّسِم بكتلة اقتصادية عربية تعطيه زخماً وقوة لكي يستطيع مواجهة الغزو الاقتصادي العالمي. فإذا كانت مرحلة العولمة، التي تقودها أميركا، قد أثارت الخوف في نفوس الدول الرأسماليةالكبرى، ودفعتها إلى ابتكار صيغ وحدوية وتأسيسها، كمثل الوحدة الأوروبية، لتستطيع الصمود في وجه الغزو العولمي للاقتصاد الأميركي، فكم تبدو حاجة العرب ماسة إلى بناء مثل تلك الوحدة. والتي ليس من حل آخر غيرها يمكن أن يصمد في وجه الحوت الاقتصادي الأميركي. فمن أهم نتائج ما يقطفه العرب من العمل للبدء في توحيد الجهود الاقتصادية العربية هو توفير النزف المالي الكبير الذي يمارسه الحوت الأميركي على عائدات ثرواتنا الطبيعية واستنزاف عائداتها في سوق الاستهلاك العربي. إن المطلوب –على المستوى القصير الأمد- أن تبدأ الأقطار العربية بتطبيق الاتفاقيات الاقتصادية الموجودة في أدراججامعة الدول العربية، كمثل تأسيس المصانع والشركات برأسمال عربي، وتنفيذ اتفاقيات المناطق التجارية العربية الحرة، و… و..
لن نكون من الواهمين إذا ما امتنعنا عن مناقشة مسألة توحيد القوى العسكرية النظامية العربية، فدون تحقيق هذا الأمل مسافات بعيدة. تلك المسافات مزروعة بألغام التواطؤ العدواني الذي لن يسمح للجيوش العربية بأن تحقق توازناً مع جيوشه وآلته العسكرية. أما اللغم الثاني فله علاقة بتغيير واقع النظام العربي الرسمي، الذي من أهم مساوئه، أنه متواطئ مع قوى العدوان، سواء من خلال المصالح السياسية والاقتصادية للنخب الحاكمة أو الداعمة لها. أما عوامل التغيير في الجوانب الدفاعية–التي نراهن عليها بشكل أساسي- فهي إمكانيات الجماهير وطاقاتها وصدقها وإخلاصها. فعوامل التوحيد العسكري والأمني –هنا- تنحصر في كل ما له علاقة بطاقات الجماهير العريضة، وإمكانيات القوى القومية والحركاتوالأحزاب السياسية، أي مجمل تيارات الحركة العربية الثورية. وإذا قيل لماذا تراهن على تيارات حزبية بدت وكأنها مقصرة، ويحلو للبعض أن يسقطها من حسابات قوى التغيير، ولأن للموضوع مكان آخر وبحث آخر، نجيب باختصار: لا يمكن لأحد أن يحلم بالتغيير من دون حركة حزبية منظَّمَة، لأنها الأسلوب الوحيد الذي يؤسس لمعرفة وثقافة وطنية وقومية من جانب، ويجمع جهود المناضلين ويوجهها ويرعاها بعناية. وإذا كانت الحركة الحزبية العربية قد وقعت بأخطاء، إلاَّ أن هذا السبب لا يبرِّر –على الإطلاق- إسقاطها والامتناع عن الوثوق بأهمية دورها. من واقع الحال، الآن، أن الاستعمار يستفرد بكل قطر عربي –كمثل ما يحصل في فلسطين والعراق- من أجل السيطرة على مقدرات الأمة واستفرادها قطعة قطعة. وتستند القوى المعادية –صهيونية وإنجلو أميركية- إلى ترسانة أسلحتها الهائلة، والأهم من كل ذلك أنها تستند إلى واقع التفتت القومي، بحيث تستخدمه وتستعين بإمكانيات وتآمر أكثر الأنظمة العربية في محاربة الأقطار ذات الاتجاهات الوحدوية، والتنظيماتوالقوى والحركات السياسية العربية التحررية. إذا كان البعض من تلك الأنظمة العربية المتواطئة مع الاستعمار الأميركي الجديد يبرر تصرفه اللا قومي بذرائع غياب القوة العسكرية العربية التي تستطيع الصمود في وجه الترسانات المعادية، فإنما هي ذرائع واهية. والسبب أننا لا نحسب أن موازين القوى العسكرية هي العامل الحاسم في الصراع بين العرب وذلك التحالف، وإنما الإيمان بقوة الحق هو من أهم العوامل التي تسهم في تحديد نتائج الصراع العسكري. إن قوة الإيمان بالحق تخلق حوافز لابتكار عوامل كثيرة تصب فيمصلحة كل الأقطار العربية التي تتعرض لمواجهة مع قوى التحالف العدواني. لأن العرب ليسوا بحاجة إلى ترسانات توازي –بقوتها وقدرتها- قوة الترسانة التي يملكها التحالف الإمبريالي - الصهيوني، وإنما أسلوب المقاومة –بشتى أشكالها وأنواعها ووسائلها- هو العامل الحاسم الذي يحدد نتائج الصراع. ما هي المقاومة الشعبية التي نحسب أنها البديل للقوى النظامية العربية؟ وكيف نستفيد من وسائلها في إدارة الصراع ضد قوى العدوان؟ يستنزف الشبق الاقتصادي الرأسمالي –ويأتي على رأسه الرأسمال الأميركي- ثروات العرب من خلال الترويج لإنتاجه الصناعي وبيعه إلى الشعب العربي، على قاعدة إبقاءأنظمتنا السياسية والاقتصادية تابعة ومستهلكة. ففي مواجهة ذلك الغزو يمكننا أن نستخدم أبسط أنواع المقاومة القائمة على مقاطعة بضائع دول العدوان. أوَ ليس في هذا السلاح قوة وبأساً يهدد فيه قوى الانتاج والتصنيع في تلك الدول؟ ومن هي القوة الرئيسة في إنجاح المقاومة من خلال المقاطعة، أوَ ليست هي القاعدة الشعبية العريضة؟ ومن جانب آخر، يعمل تحالف قوى العدوان على احتلال أرضنا، كما هو حاصل في العراق –الآن- ويعتمد على قوة وغزارة إمكانياته العسكرية النظامية. بينما نحن لا نمتلك إلاَّ القدر القليل من السلاح الذي يعجز عن مواجهة السلاح المعادي في حرب المواقع. أوَ لا يمكننا أن نبتكر من الوسائل التي تبطل قوة السلاح النوعي للعدوانيين؟ فلنترك حرب المواقع، ونلغيها من حساباتنا المرحلية، ولنلجأ إلى أسلوب حرب التحرير الشعبية التي تلغي قوة الطائرة والمدفع وأجهزة الإرسال والتشويش والغطاء الجوي، فالمقاتل على قاعدة أسلوب حرب العصابات ليس بحاجة إلاَّ لأقل الأسلحة تكلفة وعبئاً. وليس غير حرب التحرير الشعبية إلاَّ الصادمالوحيد للجندي والدبابة وكل آليات التكنولوجيا الحديثة. إن هناك الكثير من وسائل المقاومة التي يستطيع الشعب الضعيف بإمكانياته العسكرية التكنولوجية، أن يستخدمها. وإنما ركَّزنا على هذين الجانبين للتوضيح والبرهان وليس للحصر. تصبح وسائل المقاومة أجدى وأنفع وأكثر تأثيراً إذا ما تضافرت الجهود الوطنية على مستوى القطر الواحد، وإذا ما اتَّخذت تلكالأساليب عمقها القومي العربي. ففي مواجهة قوى العدوان يستطيع العمل المقاوم أن يحقق نتائج كبيرة ومهمة في إلحاق الهزيمة بوسائل القوى المعادية وقواتها العسكرية وآلتها التكنولوجية. تلك الوسائل تؤدي إلى مقاومة حقيقية توقع بكل أنواع العدوان الخسائر الفادحة. ففي المقاطعة تقع الخسائر في عائدات الاقتصاد المعادى، وفي المقاومة الشعبية نصطاد أكثر ما يمكن من قواته وعتاده، وفي المقابل لا ندفع إلاَّ القليل من الخسائر المادية والبشرية. وخلاصة القول نرى أن الوحدة العربية –اليوم- لا تزال تشكل حاجة أكثر من أي وقت مضى، لأن معركة المصير العربي تتعرض إلى أشرس الحملات وأكثرها وحشية، التي من أهم مظاهرها ما تقوم به الصهيونية على أرض فلسطين، وما ترتكبه قوات الاحتلال الأميركي والبريطاني من مجازر في العراق. ولأن القضية العربية –برمتها- مستهدفة اليوم، فليس غير العمل العربي الشعبي الوحدوي هو الكفيل بإنجاز مهمات الدفاع عن الأمة العربية، في مصيرها السياسي وثرواتها.
المصدر هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق