البعث طاقات كامنة وكينونة لا تفنى
الأستاذ الدكتور كاظم عبد ا لحسين عباس
أكاديمي عراقي مقاوم
البعث حركة عقائدية رسالية غير قابلة للفناء، لأنه قدر أمة ومنهج تطلعها للحياة الحرة الكريمة وعنوان من عناوين وجودها. لذا فان وجود البعث مرتبط بوجود الأمة ولن تنتفي مبررات وضرورات وجوده الحياتية ما دام هناك وجود انساني اسمه العروبة. الكينونة العربية تبقى أزليا مرتبطة بحلم الوحدة، والبعث هو الحزب القومي التقدمي الاشتراكي الذي انبثق كحركة رسالية من بين مكونات الحاجة والعمل الفكري والتطبيقي لهذه الوحدة. والبعث حزب يقف على أصالة فكرية ومبدئية وعقائدية متفردة تجعل منه خيارا مفتوحا ليس للتحزب التقليدي المتعارف عليه، بل لانتماء لقضية امة تتعرض لأسوأ عوامل التغييب والاستلاب والاهانة الإنسانية. وأصالة البعث هي إحدى مرتكزات نبوغه وقدراته على التجدد لأنه تمثل عياني حي لرسالة الانبعاث التي حملها القائد الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقوة البعث وطاقاته الكامنة تتأتى من عامل الإيمان الذي يحرك الانتماء للحزب ويحدد جديته ومصداقيته ولا جدل في أن الإيمان هو أعظم طاقة تكمن في الكيانات الحيّة كلها بإرادة الواحد الأحد الذي تلتقي عند ذاته المقدسة كل عوامل ومحددات ومسميات الإيمان.
بات جليا الآن إن الغزو الأمريكي والاحتلال قد حصل بهدف إنهاء وجود حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. وصممت خطة الاجتثاث الفكري والكياني للبعث نظريا وعمليا وتم تشريعها دستوريا وهيئت أدوات التنفيذ من مليشيات وأحزاب دينية سياسية وعرقية شوفينية وعلمانية قاصرة الرؤى عميلة فضلا عن قوات المارينز بحيث يفنى التنظيم فناءا تاما وتتشرذم مكوناته بين مطارد ومعتقل وشهيد في الداخل وبين مهجرين في الشتات لا يجمعهم جامع. غير إن البعث قد خرج من المحنة عملاقا ممتلئا بالعافية ولم يسمح لخطط الذبح بان تنال من رقبته كما خطط بل حولها إلى مثابات انطلاق جديدة تتحدى الفوضى الخلاقة والصدمة والترويع التي عول عليها صقور الصهيونية الأمريكان وعبيدهم لتركيع العراق والعراقيين. إن ثبات البعث وقدرته على التعاطي مع الكارثة ونجاحه في تخطي المرحلة مع جسامة التضحيات، هي احد مؤشرات الطاقة الحيوية التي يرتكز البعث على مصادرها الذاتية والموضوعية بجدارة مذهلة تهيأت من خلال تكاتف عوامل الإيمان الرسالي لرجاله والخبرات الميدانية العظيمة لهم والصلة العميقة بالشعب والتاريخ المشرق من الانجازات التي أنجبها البعث ودولته القومية في العراق تحت ظل ثورته الخالدة في 17-30 تموز 1968.
طاقات البعث الكامنة وقدراته الأسطورية على الانتصار على عوامل الفناء تنبع من الانبثاق الروحي والمادي لرسالته وعقيدته من صميم تطلع الأمة لوحدتها التي هي الضمانة الوحيدة لبقائها ولحماية حقوقها الإنسانية والقانونية في زمن الكتل الحيتانية العملاقة وتكالبها المتوحش لحماية مصالحا السياسية والاقتصادية وإيديولوجياتها الاقتصادية الجشعة، ولم يعد في هذا الزمن قدر ولا قيمة أو مكانة للكيانات المجهرية وليس لها أي مدى فعلي في الأفق العالمي المرسوم والمتشكل موضوعيا على اقتدار الجغرافية وقوة الإنتاج العلمي والتكنولوجي وما يبنى عليه وينتج عنه من قوة عسكرية خارقة.. كما إن لوحدة العرب مضمون انساني يتجسد في حيثيات بناءها والتهيئة لخطوات ومسارات هذا البناء لتكون هي الضامن لحقوق الطيف الإنساني والأعراق التي ينتمي إليها لمن تعايش مع العرب منذ الأزل وتصاهر معهم اجتماعيا وفكريا وثقافيا وحضاريا ودينيا فصار جزءا لا يتجزأ من كيانهم المادي والاعتباري ونسيجهم الفكري والثقافي والحضاري أيضا. إن الوحدة التي ينشدها البعث ويجاهد من اجلها لا يمكن أن تتحقق إلا بتحقق ركنين أساسيين من أركان النظرية الثورية القومية العربية هما الحرية لأرض ولإنسان الأمة على كل خارطة الوطن العربي وما يترتب على هذه الحرية من انطلاق وترسيخ لمعاني الحياة وقيمها الروحية والمادية وازدهار لعوامل الارتقاء بهذه القيم تربويا وعلميا وصحيا وخدميا, والاشتراكية كمكوّن ثالث ينتج اسلوب حياة متطورة تنبع من رحم الواقع العربي ويتماها مع مرتكزات الحياة الأخلاقية الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية كحزمة إنتاج واحدة تقود إلى رفاه مادي وروحي وتبني قواعد التطور والتقدم وتردم الفجوة الحضارية بين العرب والعالم المتقدم.
عندما ينتمي الإنسان إلى حد الانصهار في وجود الأمة حتى يغدو هو الأمة برمتها أو عندما تصير الأمة ممثلة في ذات الفرد تتلبسه فتصير هي الفرد الإنسان الرسالي, عند هذا يكون التفاعل الخلاّق منتجا لإنسان هو كل الأمة موحدة ومحررة ومنطلقة إلى أمام في سعيها الحثيث للتقدم والتطور والنماء في كل الميادين ويكون منتجا لأمة ليست في نطاقات التحقق، بل متحققة فعلا عبر كل نموذج انساني ارتقت إليه ذاته وسمت روحه وانبعثت كل مكونات كينونته الإنسانية فصار هو الأمة تحتضن كل أبناءها في كل أرجاءها الفسيحة وتنتقل بهم من واقع الفقر والجهل والاستلاب وضياع الدور الحضاري إلى حيث نقائض هذا الواقع المرسومة في خط سير الفكر القومي الثوري المعاصر. هذا التوحد الفريد هو أحد أهم الأسباب التي تجعل من فناء البعث امرأ محالا وتجعل من محاولات إفناءه فكرا وكيانا ماديا بشريا هي مثل الموت كحدث يلحق بالولادة غير انه لن يفني الوجود البشري لأن حالة اتزان ربانية تقترن بالكم المتوفى وبالكم القادم للحياة أو بالعكس.
برهن البعث على انه قادر على احتواء كل متناقضات الواقع العربي وصهرها في قالب مدني متحضر. فالبعث فكر مؤمن كما هو حال كل العرب والإيمان معبر عنه بالوحدانية وعدم الشرك بالله سبحانه وتعالى. وللإنسان أن يعبّر عن هذا الإيمان وفق قناعاته وما يراه مناسبا ذلك إن الصلة بين الإنسان وربه طبقا لبديهيات التوحيد محكومة بالصلة المباشرة لوحدها. والبعث ينصهر بالدين انصهارا عضويا وروحيا كمنظومة أخلاقية متكاملة يتفرع عنها سلوك فردي راقي وسلوك جمعي هو حاصل التجميع للسلوك الفردي تماما كما هو حال اللقاء الحياتي بين الفرد وبين الأمة. وعليه فان الدولة التي ينشدها البعث هي دولة مدنية حديثة مؤمنة كمحصلة حاصل لإيمان شعبها وليست دولة تضع الإيمان والدين كوسيلة لصلتها كمؤسسات تشريعية وتنفيذية وخدمية مع الشعب فتجعل من الدين مفتاحا من بين جملة المفاتيح التي تطل بواسطتها على الحياة ومتطلبات الخدمة التي تشكلت الدول الحديثة من اجل تقديمها للإنسان فتسقط الدين في تفاصيل دونية تمس بقدسيته ورقي معانيه وسموها. الدولة عند البعث مؤسسات دستورية وقانونية وخدمية وتنموية وأدوات تصدي بشرية لها رابط التصرف الأساسي فيها هو الإنسان الفرد طبقا لقانون بعثي شمولي ينص على إن الإنسان غاية ووسيلة وهو أعلى القيم الوجودية الكونية بعد الله سبحانه وتعالى. الإيمان وتعبيراته بهذا المعنى موجود وتحكمه صلة الفرد بربه وليس صلة الحزب بالأفراد فالحزب لا يجوز له ولا يحق له أن يكون وصيا على خلق صلة الإنسان بربه لان الدين والاجتهادات الفقهية المختلفة هي من تحكمها وتتواصى بها كما لا يجوز للحزب أن يجبر النظام المدني للدولة على أن يتحول إلى نظام كهنوتي إذ لا يوجد تفويض قط بكهنوتية الدولة، بل يوجد تفويض للفرد الإنسان المؤمن بالتعبير والتحريض والدعوة إلى الإيمان.
وبنفس القدر الذي أحكمت فيه صيغ التصدي لتناقض الدين والدولة في فكر البعث وإيديولوجيته وتحول هذا الإحكام المتقن إلى مصدر قوة هائلة للبعث تمده بعوامل البقاء والنماء الروحي والمادي فقد احكم البعث الصلة والنظرة بين الدين والقومية وألغي أي تعارض وهمي بين العروبة والإسلام خاصة والأديان الربانية الأخرى عموما.
أدركت الإيديولوجية الثورية القومية العربية المعاصرة وطليعتها الجهادية حزب البعث العربي الاشتراكي إن من بين التناقضات التي أراد لها الاستعمار والامبريالية والصهيونية أن تشرذم الأمة العربية إلى كيانين رئيسيين متناحرين والى ثقافتين متقاتلتين والى ارثين متعارضين هما القومية من جهة كهوية انتماء يتمسك بها الإنسان العربي لتعريف أصالة كينونته الإنسانية وأصالة العرب كأمة عريقة والإسلام من جهة ثانية كدين اصطفى الله العرب لحمله ونشره ليس بين العرب فقط بل للإنسانية كلها وأنجزوا المهمة على أكمل وجه لنجد الآن تنظيمات وتشكيلات حزبية وضعية تسمي نفسها أحزابا دينية ولا تجد غذاءا تقتات وتعتاش عليه إلا تكفير وتجريم العروبة والفكر والنهج القومي المعبر عنها بدعوى واهية انه يتعارض مع أممية الإسلام , في حين إن الحقيقة المطلقة هي إن الإسلام قد صار امميا أصلا بعقل وسيف العرب وبدمائهم وصار من البديهي والمنطق أن لا يسحق العرب وقوميتهم وهويتهم القومية بحجة تحقيق الدولة الإسلامية!! وهي حجة وذريعة لنمو وتوسع وانتشار الأحزاب الوضعية التي تجعل من الدين مفتاح إطلالتها على الناس دون أن تمتلك كأحزاب أسسها بشر ولا يعرف احد من أي جاءت هذه الأحزاب بحقوق التفويض بتمثيل الدين ولا بإقامة الصلة وإحكامها بين العبد وربه.
إن أفق الصراع بين الفكر والمنهج القومي الثوري التحرري وبين الكهنوتية ستفضي في نهاية المطاف إلى:
سيادة النهج القومي بعد أن تحجم مقومات ودرجات ومعايير التبني الاوبامي الاستعماري الامبريالي الصهيوني للأحزاب الدينية والطائفية السياسية والتحجيم ليس أمنية مجردة بل هو حتمية تاريخية.
تراجع التيار المسيس للدين بعد أن تنفصم عرى الصلة الوهمية التي خلقها هذا التيار مع الدين الإسلامي الحنيف والادعاء بتمثيل رب العزة لأنه تصرف وفعل يتجاسر على الوحدانية وعلى صلة الفرد بربه وممارسة مشركة بالخالق جل في علاه وبعد أن تنتهي حقبة الزواج المنقطع بين الإسلام السياسي والامبريالية الاوبامية والصهيونية التي هي إحدى منتجات مرحلة القطبية الواحدة.
إن انطلاق نظرية البعث من صميم تناقضات الواقع العربي وتمثلها لحلول واقعية لهذه التناقضات ترتبط جدليا بوجود الأمة المؤمنة تمثل عوامل تعبير عن الطاقة الحيوية غير المتناهية الكامنة في البعث وعن قدراته ألخلاقه في مواجهة عوامل الفناء. واليقين إن الصراع – المخاض الذي تعيشه امتنا الآن سيفضي إلى انتصار النهج القومي التحرري المؤمن رغم إن ما يطفو على السطح الآن هو المد المعادي للقومية ونهجها المؤمن. إن تصعيد وتائر العداء للبعث واستهداف مناضليه هو المؤشر الأهم في اتجاه حركة التاريخ لصالح البعث لأنها تفصح عن عجز أخلاقي وسياسي في إضعافه أو تقويض تنظيماته البطلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق