الثورات العربية تعرّي نفاق رجال الدين: القرضاوي نموذجاً
تثير تصرفات رجال الدين وتصريحاتهم على خلفية الثورات المندلعة في العالم العربي السخرية المرة؛ إذ في الوقت الذي يقدمون فيه أنفسهم كرجال دين مسؤولين أمام الله، فإنّ أول ما يفعلونه هو تشويه وجه الله، عبر زجه في أتون السياسة التي تجيّر الدين لمصلحة أنظمة مستبدة. وإن كان يبدو مفهوماً أن يتخذ رجل دين موقفاً مع الاستبداد أو ضده، فإنّ ما هو غير مفهوم وهزلي فعلاً، أن يكون موقف رجل الدين ضد الاستبداد ومعه في آن واحد، عبر دعم الاستبداد في مكان والتحريض عليه في مكان آخر، في ازدواج فاضح بين تحليل ثورة و تحريم أخرى، وفق مصالح الحكام الذين يعملون عندهم، وهو ما يوصلنا في المحصلة النهائية إلى رجال دين لا علاقة لهم بالدين من قريب أو بعيد؛ إذ يغدو الدين مجرد ورقة قابلة للتوظيف وفق الحاجة.
ولعل أهم ما فعلته الثورات العربية أنّها عرّت السلطات الدينية، وكشفت وظيفتها السابقة (ولا تزال) في تثبيت أركان الاستبداد، عبر تجيير الدين لخداع المؤمنين البسطاء الذين يمثّل الدين رأسمالهم الرمزي الوحيد لمواجهة الطغاة، فيستغله أولئك لتوجيه حربته إليهم مجدداً؛ إذ بدت المواقف المتذبذبة تبعاً لساحة الصراع، فضائحية وأكبر من أن يتحملها أي دين ينطق هؤلاء باسمه.
لعل المثال الصارخ على هذا النموذج، هو الشيخ القرضاوي الذي أيّد وحرّض وأدى دوراً بارزاً في تجييش المشاعر الدينية ضد أنظمة الاستبداد في كلّ من تونس ومصر وليبيا وسوريا، إلى درجة أنّه أباح قتل الرئيس الليبي معمر القذافي الذي كان يصفه سابقاً بأنّه «سيف الله على الأرض»، وفق قول رئيس هيئة إفتاء أهل السنة والجماعة في العراق الشيخ أحمد الصميدعي.
وإن كان وقوف القرضاوي إلى جانب الثورات ضد الاستبداد، هو فعل حق وواجب، فإنّ هذا الموقف سينقلب بشكل معاكس حين نرى موقفه من ثورة البحرين، لتغدو مجرد «ثورة طائفية». فما كان محللاً في سوريا واليمن وتونس ومصر، أضحى محرماً في البحرين: «ما يحدث في البحرين ثورة طائفية، أما باقي الثورات الأربع فكلّها ثورة شعب ضد حاكمه الظالم».
ولا يكتفي القرضاوي بذلك، بل يصل إلى حد توجيه تهم للمتظاهرين البحرينيين الشرفاء، تشبه تلك التهم التي توجهها السلطات لخصومها في سوريا واليمن ومصر وتونس؛ إذ قال: «لم يكونوا سلميين... بل اعتدوا على كثير من أهل السنّة واستولوا على مساجد ليست لهم، واستعملوا الأسلحة كما يفعل البلطجيون في اليمن وفي مصر وغيرها ضد كثير من المستضعفين من أهل السنّة». هكذا أصبح متظاهرو البحرين مثل بلطجية مصر وشبيحة سوريا! كل ذلك فضلاً عن اللغة الطائفية التي تنضح من كلامه؛ ففي سوريا تتهم الثورة بالطائفية السنيّة، وفي البحرين يتهم القرضاوي الثورة بالطائفية الشيعية، هل من فرق؟
وفي تناقض فاضح لأقوال الشيخ القرضاوي، وانغماسه الهائل في السياسة، نراه يصل إلى حدّ ترويج الحلول؛ ففي البحرين يجب أن يتجه الناس نحو الحوار، داعياً «العقلاء من الشيعة والعقلاء من أهل السنّة» إلى القيام بذلك، ومشيداً بدعوة ولي العهد البحريني، الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، للحوار. أما في سوريا ومصر وتونس فلا بد من إطاحة النظام، مع قتل رأسه في ليبيا! وهو موقف سيعكس رأي كلّ رجال الدين والأحزاب الدينية؛ إذ سنجدها تشجع رحيل الأنظمة المعارضة لها. لكن حين تصل الثورة إلى الأنظمة التي تؤيدها وتدعمها، ستخبئ مراوغتها تحت حجة دعم الإصلاح، واعتبار تلك السلطات جادة في الإصلاح على خلاف تلك؛ إذ تتخذ تلك النظم أو الأحزاب أو الشخصيات الدينية موقفاً مناهضاً من الثورة، كموقف النظام الإيراني المؤيد لثورة مصر وتونس، ولكنّه رافض لثورة سوريا، أو موقفاً وسطياً بأفضل الأحوال، كموقف حزب الله من النظام السوري، وموقف رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر الذي خاطب ثوار سوريا قائلاً: «الثوار في سوريا الحبيبة، كونوا على يقين بأني مؤمن كل الإيمان بقضيتكم»، مؤكداً أنّ ثمة فارقاً بين ما يحدث في سوريا و«الثورات العظيمة في تونس ومصر وليبيا والبحرين
واليمن».
وفي دلالة كبرى، على الاستخدام المزدوج للدين عند القرضاوي، نجده يتعامى عن أكبر استبداد موجود في المنطقة الخليجية وفي السعودية وقطر (حيث يقيم) على وجه التحديد؛ إذ لا يكتفي بالصمت، بل يحرّم التظاهر مندداً برفع الشعارات السياسية في الحج، فيتهم قائلاً إنّ «من يقوم بذلك يحدث فتنة في الحج الإسلامي، وفي المجتمع الإسلامي، ويحدث نوعاً من أنواع الإلحاد في الحرم». لكن بالمقابل، يحيي التظاهرات في اليمن وتونس وسوريا، وإن خرجت من الجوامع، فما هو محرم في السعودية محلل في سوريا ومصر وتونس وليبيا!
وبالروحية نفسها التي تحدث فيها القرضاوي، سيتحدث رجال دين آخرون، ليغدو كل رجل دين يتحدث باسم حاكمه. هكذا سنجد الشيخ البوطي الذي يحيا منذ عقود في حديقة النظام السوري (كما يحيا القرضاوي في حديقة آل ثاني)، يقف ضد ثورة سوريا، متهماً المتظاهرين بأنّ أغلبهم «لا يعرف جبينه السجود أبداً»، وبأنّهم متآمرون. فقد قال: «يوم الجمعة الفائت وقبل أن ننهي الصلاة كان الجو داخل المسجد طبيعيّاً، ولما خرجت من المسجد ولاح أمامي صحن المسجد الخارجي، وإذا بي أمام أناس كانوا موجودين في باحة المسجد لكن لم يصلوا، وكان ينتظرون الساعة التي ينفذون بها الأوامر (؟!)، ليست وجوههم وجوه مصلين، وليست تصرفاتهم تصرفات ناس يتعاملون مع المساجد، هذه ظاهرة رأيتها». هكذا بنظر البوطي أصبح متظاهرو سوريا، ينتظرون الأوامر، وتصرفاتهم ليست تصرفات «أهل مساجد»، في الوقت الذي تصر فيه أبواق السلطة على أنّهم سلفيون وإخوان ويخرجون من الجوامع، ما يعني أنّهم «أصحاب جوامع»!
وهكذا سنجد أيضاً أنّ مفتي الجمهورية السورية، أحمد بدر الدين حسون (الذي كنت شخصياً أعوّل عليه لتمثيل الإسلام الوسطي في سوريا، والذي يرفض استخدام الدين في السياسة، وقال مرة داخل قاعة البرلمان الأوروبي إنّ الإسلام علماني، في ما يمكن اعتباره ثورة من رجل دين مسلم) يهدد فجأة بإرسال انتحاريين واستشهاديين إلى أوروبا؛ إذ قال: «إنّني أقولها لأوروبا والولايات المتحدة: سنعد استشهاديين هم الآن عندكم إن قصفتم سوريا أو قصفتم لبنان»، ليصبح المحرم سابقاً محللاً الآن، ليخلط الدين بالسياسة في أسوأ استخدام يمكن أن يحصل، وليضيّع الرجل كل تراثه الذي بناه والذي كنا نعوّل عليه، لإحداث ثورة داخل الإسلام الكهنوتي، ثورة قد تقود إلى علمنة الإسلام مستقبلاً. وكذلك الأمر في السعودية، حيث يحكم أسوأ استبداد (لترافق الاستبداد السياسي والديني والعائلي والاجتماعي واضطهاد المرأة في خلطة عجيبة من أغرب أنواع الاستبداد وأعقدها)، ستصدر مجموعة من علماء السعودية بياناً يحمل اسم «بيان علماء السعودية بشأن جرائم النظام السوري ضد شعبه»، من دون أن نسمع لهم كلمة واحدة بشأن جرائم نظامهم ضد شعبه، أو جرائم درع الجزيرة في البحرين.
وفي ازدواج فاضح لهؤلاء العلماء سنجد أنّ رئيس هيئة كبار العلماء (أي رئيسهم) عبد العزيز آل الشيخ، يتهم المتظاهرين في القطيف بـ«المفسدين وقتلة الأبرياء»، وقال: «هؤلاء المارقون مثيرو الشغب ليسوا منا، وإنما فئة ضالة تتبع الخارج ويأتمرون بأوامر خارجية، وليس لهم علاقة بوطننا ولا بلادنا»، فضلاً عن اعتباره في خطبة له أنّ «التظاهرات لا هدف لها حقيقياً ولا حقيقة لها، إنما هي أمور جيء بها لضرب الأمة في صميمها».
أقوال رجال الدين السابقة، لا يمكن فهمها وتفسيرها، إلا من بوابة الولاء للحاكم ضد الرعية، لنجد أنفسنا أمام دين في خدمة الاستبداد، ولو كان ظاهرياً ضده. فمن يؤيد الاستبداد في مكان ويرفضه في مكان آخر، هو يخدم الاستبداد أينما كان؛ لأنّ مواقفه ليست نابعة من الدين، بقدر ما تجعل من الدين موظفاً في خدمة السياسة، إلى درجة العمل على زرع الفتنة الطائفية، وإثارتها. ورغم قول كل من هؤلاء الشيوخ ورجال الدين إنّه ضد الطائفية، إلا أنّ الطائفية تشح من تصريحاتهم اليومية. إلا أنّ الحق يقال بأنّ الطائفية ليست بالدرجة الأولى ما يحدد خيارتهم، بل مدى ولائهم للنظم التي ينطقون باسمها. ولأنّ مصلحة النظم فوق كل شيء، فلا مانع من تجييش الحس الطائفي خدمة لتلك النظم، ولو أدى الأمر إلى الوقوف على حافة حروب أهلية. لذا نجد القرضاوي ضد ثورة البحرين والسعودية، ومع ثورات مصر وتونس وليبيا وسوريا، ونجد علماء السعودية ضد ثورة البحرين ومصر، ولكن مع ثورة سوريا، ونجد سلطات الملالي في طهران ضد ثورة سوريا ومع ثورة البحرين ومصر. المواقف تنبع من نوازع طائفية في مكان، وسياسية في مكان آخر، حسب الحاجة. وعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم وقوف نظام الملالي في طهران إلى جانب ثورة البحرين بقوة، إلا من جانب طائفي بالدرجة الأولى وسياسي ثانياً، فيما يحكم موقفه من سوريا جانب سياسي بالدرجة الأولى ثم طائفي ثانياً، أو الاثنين معاً بدرجة واحدة. ويحكم موقفه من ثورات تونس ومصر وليبيا موقف سياسي فقط. وكذلك موقف حزب الله اللبناني وموقف حزب مقتدى الصدر العراقي، فيما يحكم موقف أحزاب الإخوان المسلمين على تعددها في الوطن العربي، الموقف الطائفي بالدرجة الأولى، إذ لا نجد كلمة واحدة لها بحق ثورة البحرين التي تواجه فعلياً نظم مجلس «التهاون» الخليجي مجتمعة.
في المحصلة، نحن أمام دين مغرق في السياسة، يحلل ويحرم وفق ما تأمر الأجندة الطائفية أو قرارات القصر الجمهوري أو الملكي أو
الأميري!
ولعل أهم ما فعلته الثورات العربية أنّها عرّت السلطات الدينية، وكشفت وظيفتها السابقة (ولا تزال) في تثبيت أركان الاستبداد، عبر تجيير الدين لخداع المؤمنين البسطاء الذين يمثّل الدين رأسمالهم الرمزي الوحيد لمواجهة الطغاة، فيستغله أولئك لتوجيه حربته إليهم مجدداً؛ إذ بدت المواقف المتذبذبة تبعاً لساحة الصراع، فضائحية وأكبر من أن يتحملها أي دين ينطق هؤلاء باسمه.
لعل المثال الصارخ على هذا النموذج، هو الشيخ القرضاوي الذي أيّد وحرّض وأدى دوراً بارزاً في تجييش المشاعر الدينية ضد أنظمة الاستبداد في كلّ من تونس ومصر وليبيا وسوريا، إلى درجة أنّه أباح قتل الرئيس الليبي معمر القذافي الذي كان يصفه سابقاً بأنّه «سيف الله على الأرض»، وفق قول رئيس هيئة إفتاء أهل السنة والجماعة في العراق الشيخ أحمد الصميدعي.
وإن كان وقوف القرضاوي إلى جانب الثورات ضد الاستبداد، هو فعل حق وواجب، فإنّ هذا الموقف سينقلب بشكل معاكس حين نرى موقفه من ثورة البحرين، لتغدو مجرد «ثورة طائفية». فما كان محللاً في سوريا واليمن وتونس ومصر، أضحى محرماً في البحرين: «ما يحدث في البحرين ثورة طائفية، أما باقي الثورات الأربع فكلّها ثورة شعب ضد حاكمه الظالم».
ولا يكتفي القرضاوي بذلك، بل يصل إلى حد توجيه تهم للمتظاهرين البحرينيين الشرفاء، تشبه تلك التهم التي توجهها السلطات لخصومها في سوريا واليمن ومصر وتونس؛ إذ قال: «لم يكونوا سلميين... بل اعتدوا على كثير من أهل السنّة واستولوا على مساجد ليست لهم، واستعملوا الأسلحة كما يفعل البلطجيون في اليمن وفي مصر وغيرها ضد كثير من المستضعفين من أهل السنّة». هكذا أصبح متظاهرو البحرين مثل بلطجية مصر وشبيحة سوريا! كل ذلك فضلاً عن اللغة الطائفية التي تنضح من كلامه؛ ففي سوريا تتهم الثورة بالطائفية السنيّة، وفي البحرين يتهم القرضاوي الثورة بالطائفية الشيعية، هل من فرق؟
وفي تناقض فاضح لأقوال الشيخ القرضاوي، وانغماسه الهائل في السياسة، نراه يصل إلى حدّ ترويج الحلول؛ ففي البحرين يجب أن يتجه الناس نحو الحوار، داعياً «العقلاء من الشيعة والعقلاء من أهل السنّة» إلى القيام بذلك، ومشيداً بدعوة ولي العهد البحريني، الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، للحوار. أما في سوريا ومصر وتونس فلا بد من إطاحة النظام، مع قتل رأسه في ليبيا! وهو موقف سيعكس رأي كلّ رجال الدين والأحزاب الدينية؛ إذ سنجدها تشجع رحيل الأنظمة المعارضة لها. لكن حين تصل الثورة إلى الأنظمة التي تؤيدها وتدعمها، ستخبئ مراوغتها تحت حجة دعم الإصلاح، واعتبار تلك السلطات جادة في الإصلاح على خلاف تلك؛ إذ تتخذ تلك النظم أو الأحزاب أو الشخصيات الدينية موقفاً مناهضاً من الثورة، كموقف النظام الإيراني المؤيد لثورة مصر وتونس، ولكنّه رافض لثورة سوريا، أو موقفاً وسطياً بأفضل الأحوال، كموقف حزب الله من النظام السوري، وموقف رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر الذي خاطب ثوار سوريا قائلاً: «الثوار في سوريا الحبيبة، كونوا على يقين بأني مؤمن كل الإيمان بقضيتكم»، مؤكداً أنّ ثمة فارقاً بين ما يحدث في سوريا و«الثورات العظيمة في تونس ومصر وليبيا والبحرين
واليمن».
وفي دلالة كبرى، على الاستخدام المزدوج للدين عند القرضاوي، نجده يتعامى عن أكبر استبداد موجود في المنطقة الخليجية وفي السعودية وقطر (حيث يقيم) على وجه التحديد؛ إذ لا يكتفي بالصمت، بل يحرّم التظاهر مندداً برفع الشعارات السياسية في الحج، فيتهم قائلاً إنّ «من يقوم بذلك يحدث فتنة في الحج الإسلامي، وفي المجتمع الإسلامي، ويحدث نوعاً من أنواع الإلحاد في الحرم». لكن بالمقابل، يحيي التظاهرات في اليمن وتونس وسوريا، وإن خرجت من الجوامع، فما هو محرم في السعودية محلل في سوريا ومصر وتونس وليبيا!
وبالروحية نفسها التي تحدث فيها القرضاوي، سيتحدث رجال دين آخرون، ليغدو كل رجل دين يتحدث باسم حاكمه. هكذا سنجد الشيخ البوطي الذي يحيا منذ عقود في حديقة النظام السوري (كما يحيا القرضاوي في حديقة آل ثاني)، يقف ضد ثورة سوريا، متهماً المتظاهرين بأنّ أغلبهم «لا يعرف جبينه السجود أبداً»، وبأنّهم متآمرون. فقد قال: «يوم الجمعة الفائت وقبل أن ننهي الصلاة كان الجو داخل المسجد طبيعيّاً، ولما خرجت من المسجد ولاح أمامي صحن المسجد الخارجي، وإذا بي أمام أناس كانوا موجودين في باحة المسجد لكن لم يصلوا، وكان ينتظرون الساعة التي ينفذون بها الأوامر (؟!)، ليست وجوههم وجوه مصلين، وليست تصرفاتهم تصرفات ناس يتعاملون مع المساجد، هذه ظاهرة رأيتها». هكذا بنظر البوطي أصبح متظاهرو سوريا، ينتظرون الأوامر، وتصرفاتهم ليست تصرفات «أهل مساجد»، في الوقت الذي تصر فيه أبواق السلطة على أنّهم سلفيون وإخوان ويخرجون من الجوامع، ما يعني أنّهم «أصحاب جوامع»!
وهكذا سنجد أيضاً أنّ مفتي الجمهورية السورية، أحمد بدر الدين حسون (الذي كنت شخصياً أعوّل عليه لتمثيل الإسلام الوسطي في سوريا، والذي يرفض استخدام الدين في السياسة، وقال مرة داخل قاعة البرلمان الأوروبي إنّ الإسلام علماني، في ما يمكن اعتباره ثورة من رجل دين مسلم) يهدد فجأة بإرسال انتحاريين واستشهاديين إلى أوروبا؛ إذ قال: «إنّني أقولها لأوروبا والولايات المتحدة: سنعد استشهاديين هم الآن عندكم إن قصفتم سوريا أو قصفتم لبنان»، ليصبح المحرم سابقاً محللاً الآن، ليخلط الدين بالسياسة في أسوأ استخدام يمكن أن يحصل، وليضيّع الرجل كل تراثه الذي بناه والذي كنا نعوّل عليه، لإحداث ثورة داخل الإسلام الكهنوتي، ثورة قد تقود إلى علمنة الإسلام مستقبلاً. وكذلك الأمر في السعودية، حيث يحكم أسوأ استبداد (لترافق الاستبداد السياسي والديني والعائلي والاجتماعي واضطهاد المرأة في خلطة عجيبة من أغرب أنواع الاستبداد وأعقدها)، ستصدر مجموعة من علماء السعودية بياناً يحمل اسم «بيان علماء السعودية بشأن جرائم النظام السوري ضد شعبه»، من دون أن نسمع لهم كلمة واحدة بشأن جرائم نظامهم ضد شعبه، أو جرائم درع الجزيرة في البحرين.
وفي ازدواج فاضح لهؤلاء العلماء سنجد أنّ رئيس هيئة كبار العلماء (أي رئيسهم) عبد العزيز آل الشيخ، يتهم المتظاهرين في القطيف بـ«المفسدين وقتلة الأبرياء»، وقال: «هؤلاء المارقون مثيرو الشغب ليسوا منا، وإنما فئة ضالة تتبع الخارج ويأتمرون بأوامر خارجية، وليس لهم علاقة بوطننا ولا بلادنا»، فضلاً عن اعتباره في خطبة له أنّ «التظاهرات لا هدف لها حقيقياً ولا حقيقة لها، إنما هي أمور جيء بها لضرب الأمة في صميمها».
أقوال رجال الدين السابقة، لا يمكن فهمها وتفسيرها، إلا من بوابة الولاء للحاكم ضد الرعية، لنجد أنفسنا أمام دين في خدمة الاستبداد، ولو كان ظاهرياً ضده. فمن يؤيد الاستبداد في مكان ويرفضه في مكان آخر، هو يخدم الاستبداد أينما كان؛ لأنّ مواقفه ليست نابعة من الدين، بقدر ما تجعل من الدين موظفاً في خدمة السياسة، إلى درجة العمل على زرع الفتنة الطائفية، وإثارتها. ورغم قول كل من هؤلاء الشيوخ ورجال الدين إنّه ضد الطائفية، إلا أنّ الطائفية تشح من تصريحاتهم اليومية. إلا أنّ الحق يقال بأنّ الطائفية ليست بالدرجة الأولى ما يحدد خيارتهم، بل مدى ولائهم للنظم التي ينطقون باسمها. ولأنّ مصلحة النظم فوق كل شيء، فلا مانع من تجييش الحس الطائفي خدمة لتلك النظم، ولو أدى الأمر إلى الوقوف على حافة حروب أهلية. لذا نجد القرضاوي ضد ثورة البحرين والسعودية، ومع ثورات مصر وتونس وليبيا وسوريا، ونجد علماء السعودية ضد ثورة البحرين ومصر، ولكن مع ثورة سوريا، ونجد سلطات الملالي في طهران ضد ثورة سوريا ومع ثورة البحرين ومصر. المواقف تنبع من نوازع طائفية في مكان، وسياسية في مكان آخر، حسب الحاجة. وعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم وقوف نظام الملالي في طهران إلى جانب ثورة البحرين بقوة، إلا من جانب طائفي بالدرجة الأولى وسياسي ثانياً، فيما يحكم موقفه من سوريا جانب سياسي بالدرجة الأولى ثم طائفي ثانياً، أو الاثنين معاً بدرجة واحدة. ويحكم موقفه من ثورات تونس ومصر وليبيا موقف سياسي فقط. وكذلك موقف حزب الله اللبناني وموقف حزب مقتدى الصدر العراقي، فيما يحكم موقف أحزاب الإخوان المسلمين على تعددها في الوطن العربي، الموقف الطائفي بالدرجة الأولى، إذ لا نجد كلمة واحدة لها بحق ثورة البحرين التي تواجه فعلياً نظم مجلس «التهاون» الخليجي مجتمعة.
في المحصلة، نحن أمام دين مغرق في السياسة، يحلل ويحرم وفق ما تأمر الأجندة الطائفية أو قرارات القصر الجمهوري أو الملكي أو
الأميري!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق