بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
|
الوحدة في الخطاب القرآني...
|
شبكة البصرة
|
د. ثامر براك الأنصاري
|
بالتتبُّع واستقراء آيات القرآن الكريم التي وردت بشأن الوحدة نجد الإعجاز والرقي والكمال المطلق، فهي تصور الناس كالشخص الواحد، وتجعل النفوس الكثيرة نفسا واحدة، وتطالب المؤمنين بمخاطبة (الآخر) بيا (أنا)، وهذا ما لم يبلغه، أو يقترب منه، ولا يدانيه، ولا يبلغ معشاره خطاب بشري، ونحن إذا تأملنا الخطاب القرآني بشان الوحدة بدقَّة نلمس أنَّه تنوَّعت مجالاته، وهنا نقِف وقفات مع بعض هذه المجالات:
1- في العقيدة: اعتبر القرآن إقامة الْبَرِيء الحد على الْمُجْرِم (المرتد)، وهي القتل قتلا لنفسه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54]، فقد قامت أو همت كل جماعة من الناس (كأن يكونوا بني أب واحد) فيهم مرتد بقتله، وإذ فعل بعضهم ما أمر به موسى –عليه السلام- قُبلت توبتهم وتدراكتهم رحمة الله الواسعة.
2- في العبادات: في صلاته لا يردد المصلي يوميا عبارة: (إياك اعبد وإياك استعين، اهدني) باستعمال ضمير المفرد، وإنما يتلو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا} [الفاتحة: 5، 6]، مستعملا ضمير الجماعة، وإن هذه التلاوة والصلاة تُربِّيه وتعلمه الذوبان كفرد في المجموع.
3- في الجرائم والعقوبات: اعتبر القرآن قتل الإنسان لغيره قتلاً لنفسه، فقال: [وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] [النساء: 29] (1).
4- في الأموال: اعتبر أخذه مال غيره بغير وجه حق اعتداء على مال نفسه فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] (2)، وفي تنبيه الأوصياء إلى أن أموال من في حوزتهم من اليتامى كأنها عين أموالهم، مبالغة في حملهم على وجوب حفظها وصيانتها من أي إتلاف أو إضرار بها، قال الله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5]، فيكون المقصود من الآية الكريمة نهي الأولياء عن إيتاء السفهاء من اليتامى أموالهم التي جعلها الله مناط عيشهم، خشية إساءة التصرف فيها لخفة أحلامهم، وضعف عقولهم.
5- في البغي والعدوان: اعتبر تهجير إنسان غيره تهجيراً لنفسه، فقال: [وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ] [البقرة: 84، 85]، فقوله: (وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) يعني لا يهجر أحدكم الآخر (3).
6- في القضايا الاجتماعية: اعتبر ظن الإنسان السوء بغيره ظناً بنفسه، فقال في قصة الإفك: [لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً] [النور: 12]، والمراد بأنفسهم هنا الرجال والنساء في مجتمعاتهم؛ إذ لا يظن المرء بنفسه السوء.
7- في آداب الحديث: اعتبر القرآن لمز الإنسان غيره لمزاً لنفسه، فقال: [وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ] [الحجرات: 11]، والإنسان لا يلمز نفسه، إنما يلمز غيره. واللمز: العيب والطعن.
8- في آداب التحية: اعتبر القرآن سلام الإنسان على غيره سلاماً على نفسه، فقال: [فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً] [النور: 61]، أي "فليسلم بعضكم على بعض" (4).
فهذا الأسلوب القرآني يقرر معنى وحدة المجتمع، وتحوله إلى جسم واحد، وروح واحدة. وقد بين القرآن أن من قتل اعتباطا فردا من أفراد هذا المجتمع فكأنما قتل المجتمع الإنساني بأسره، ومن مد له يد العون فهو كمن مدها لهذا المجتمع بمجموعه، فقال: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] [المائدة: 32]، وذكر البشر بأصلهم الواحد فقال: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ] [النساء: 1] فهم من أصل واحد، وهو تلك النفس الواحدة، ولا يزالون نفسا واحدة كذلك في الخطاب الرباني.
وهذه الدقائق القرآنية تؤثر في المؤمن بها، وتغرس فيه هذا الإحساس وهذا الشعور، بأن نفس الآخرين نفسه، ودمهم دمه، ومالهم ماله، ومدحهم مدحه، وذمهم ذمه، فلا فرق في المحافظة على النفس والمال والعرض وكل ما هو مادي ومعنوي بينه وبينهم.
هذا قرآننا، فليأتنا بحرف مثله من يحاربه بدعوى محاربة (الإرهاب)!! إنه الكتاب السماوي والأرضي الوحيد الذي ترد فيه هذه التعاليم والتوجيهات والإرشادات والمعاني السامية، فهو منبع الإنسانية والرحمة والسماحة والعدل والمحبة والخير والسلام، وكل قيمة عليا.
ـــــــــــ
(1) قال القرطبي في تفسيره (3/136) : "أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه"، وعلق على ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/524) فقال: "وهو الأشبه بالصواب".
(2) قال المرحوم الشيخ محمد سيد طنطاوي في تفسيره، التفسير الوسيط (1/401) : "وفي قوله- تعالى-: أَمْوالَكُمْ- مع أن أكل المال يتناول مال الإنسان ومال غيره- في هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لما لك أنت... فما أحكم هذا التعبير، وما أجمل هذا التصوير!! ".
(3) وقوله (لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ)، مع قوله: (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) يرجع إلى المعنى السابق، وهو أن سفك الإنسان دم غيره سفك لدمه، وقتله قتل للنفس. قال الشيخ ابن عاشور في تفسيره، التحرير والتنوير (1/585) : "وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه، أو يخرج نفسه من داره؛ لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبعي.. وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره".
(4) قاله سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري، وغيرهم. ينظر: تفسير ابن كثير، 3/336.
|
شبكة البصرة
|
الاحد 12 ذو الحجة 1433 / 28 تشرين الاول 2012
|
قال سبحانه وتعالى
قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم
الاثنين، 29 أكتوبر 2012
د. ثامر براك الأنصاري : الوحدة في الخطاب القرآني...
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق