|
البوارج الأمريكية أثناء دخولها الخليج ويكيبيديا |
في الأزمنة الغابرة، عاش العربي في الخيام الممتدة على أطراف الصحراء، وفي بيوت الشعر، يتعايش مع متغيرات الطبيعة، ويعاني من قسوتها صيفا وشتاء. ومرت أزمنة الحضارة، وانتقل إلى البيوت ذات الجدران العالية في البداية، ثم تلتها جدران ذات سقوف واطئة تمشت مع متغيرات العصر الذي تطور فيه العمران والحضارة. زمن طويل مرّ.. ليجيء الاستعمار بحروبه الطاحنة وتآمره المستمر على الأمة ليعيدها إلى عصور ما قبل الحضارة.. في محاولاته الحثيثة للقضاء على الذاكرة الحضارية للأمة، تلك الذاكرة التي تراكمت عبر السنين منذ عصور ما قبل التاريخ ومرورا بعصر الكتابة حتى زماننا البشع هذا، وذلك من خلال تدمير بنيان حضارتنا وتراثها وآثارها وكتبها وفنونها وعلومها... وهذا ما شهدناه عند اقتحام الغزاة للمدن العراقية في عدوانه الغاشم على العراق 2003. ومن يزور المتاحف في العالم الغربي(المتحضر)، فإنه يشاهد كنوز الحضارات القديمة التي سرقت بعد تدمير البلاد والعباد.
واليوم، يسعى هذا الغرب (المتمدن) إلى إعادة الإنسان العربي إلى خيمته الأولى من خلال شن الحروب وتشريد الناس في العراء، ليلمهم بعدها في كانتونات طائفية تمهيدا لإعادة بناء شرق أوسط جديد كما يحلو له أن يسميه. ويمد يده بين الفينة والأخرى إلى جيبه ليرمي حفنة من دولاراته ليبني خيما لهؤلاء المشردين، وهو يتلمظ فرحا، فخطته قد نجحت بعد أن اشترى بنقوده كثيرا من الرؤوس الكبيرة في عالمنا العربي.. مما سهّل له إرسال قواته في أي وقت يشاء لحماية هؤلاء المشردين!!!
تعود بي الذاكرة إلى التسعينيات من القرن الماضي، حين نشرت قصة بعنوان"خيام" استعرت في بدايتها مقولة لماركيز في روايته" الجنرال في متاهته" إذ يقول: يا ربّ الفقراء، جميعنا منفيون هنا.. أقتطف بعضا مما جاء في القصة: الخيمة الثانية: كانوا يركضون. قالت حليمة نعم يا ولدي كانوا يركضون. صمتت ثم أوقدت النار والليل ممتد إلى آخر الصحراء، وابن عربي يخفت خلف الضباب. ضغطت بشدة على صدرها وقد بدأ الألم يطفح. قالت سأروي لك حكاية: كأن المدينة يا ولدي- والعياذ بالله – قد أصابها مسّ من الجنون. ابتسمت بحزن. كأنه الجنون الأول. موجات وهبّات تتراكض في الشوارع. لم يبق أحد إلا وأخذ يسابق الريح. والعيون شاخصة في هلع تحاول أن تطال الرؤوس لتحدق في الشيء البعيد. والشيء البعيد يركض. أطفال يمتطون رقاب أمهاتهم، والرجال يلهثون والزبد يتطاير من أفواههم فيختلط مع العرق المتصبب من الجباه.. في الخيمة السادسة تقول حليمة: أتدري يا ولدي ماذا كانوا يطاردون؟ لاح الرعب في صوتها. أضافت: جاؤوني بك إلى هنا لتبعد عن زيف المدينة ونفاقها بعد أن مات أبواك.... لكن السياسة-قالت حليمة-جرّتك، فاحترقت بنارها وبزيف المدن وسقوطها. وارتددت في النهاية تحادث نفسك وتترنح بين مواكب تتراءى لك تبين أحيانا وأحيانا لا تبين. نعم يا حليمة، يا أمي، حين العتم يتوغل ألجأ لابن عربي بعد أن كسرتني الاعتقالات والسجون والبحث الدائب عن الحرية. يا حليمة، إنهم وحوش، لصوص.. وفي الخيمة السابعة تقول حليمة: أين وصلنا في الحكاية؟ كانوا يركضون. يركضون. يركضون. ويا لهول ما وجدوا في نهاية المطاف. يا للفجيعة يا ولدي. كان الشيء الذي يطاردونه هو رغيف خبز كبير يدور بسرعة البرق حول مدينتنا. ضحكت حليمة بمرارة.. وقالوا يا ولدي بأن يدا أجنبية تحرّكه.. وفي الخيمة الثامنة.. تقول حليمة: يا ولدي.. هذا الزمان ليس مثل كل الأزمنة. يتلوه قريبا زمان تقشعرّ له الأبدان، ويرتجف الناس هلعا وتصطك أسنانهم رعبا...أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، زمان تعود فيه الشياطين بلباس الإنس. يعيثون فسادا في الأرض.. قل لهم يا ولدي هذا الزمان مقشعر، تنتهك فيه كل المبادئ وأنتم تحدقون لا حول لكم ولا قوة، يغزوكم العدو في عقر داركم ويتربع في أحضانكم. يا ويلكم حين تجوع أرضكم ويحتبس ماؤكم وتستباح نساؤكم، والأرض التي ما استطعتم أن تحموها زمن الحرب لن تفلحوا في استعادتها زمن الردة.. نعم ستزرقّ شفاهكم من الرعب وتحمرّ عيونكم من هول ما ترون. سيكون طوفانكم من دمكم بعد أن سلمتم رقابكم لعدو الله. تعلم يا ولدي، قالت وهي ترحل داخل الليل، بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.
نعم، لقد استعنا بالأجنبي، فجاء إلى هنا، وأرسل عملاءه إلى هناك، وفاضت دماء الشهداء لتخط سطورا ملتهبة عن زمن ماتت فيه القيم والأخلاق والمبادئ.
"يا ربّ الفقراء، جميعنا منفيون هنا".
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق