إيمان الذنون
كيف تمكنت وزارة الدفاع الأميركية من نقل قواعد امبراطوريتها إلى ما وراء البحار وابتكار طريقة حرب جديدة وخطيرة؟
يقول كاتب في موقع «توم ديسبتش»: كان أول ما رأيته في الشهر الماضي، عندما كنت أتجول في الجوف المعتم لطائرة الشحن التابعة لسلاح الطيران هو فسحة كبيرة تحتوي على بعض من المفقودات التي تلقى فيها أجزاء من قطع بشرية مقطعة كان منها ذراع يسرى وعلى وجه التحديد والدقة كانت ذراعاً قطعت من عند الكتف، وأجزاء من اللحم الشاحب، وأخرى لا تزال قطرات الدم ظاهرة عند أطرافها: بدا المشهد أشبه بعرض لشرائح من اللحم... على الجانب الآخر هناك وجه لعله ما تبقى من أجزاء الجسم البشري، مغطى بالعلم الأميركي ضمن مجموعة من الخرداوات المرمية في أجزاء متفرقة من المكان، وإلى جانب مجموعة أشرطة وأنابيب وأسلاك وأجهزة طبية، وهناك اثنان آخران من الجنود مصابان بجروح خطيرة، وثمة من فقد ساقه بأكملها، ومنهم من قطعت ساقه من تحت الفخذ، وهناك ذراع لأحد الجنود المصابين نقرأ عليها وشماً يقول «الموت ولا العار» والبعض الآخر كان فاقداً للوعي.
يقول الكاتب: سألت عضواً في فريق القوة الجوية الطبية عن الضحايا، وأسباب ما أوصلهم إلى هذه الحال، فأجاب: إن كثيراً من أفراد طاقم الرحلة قادمون من أفغانستان والعديد منهم من منطقة القرن الإفريقي، وأضاف أحد أفراد طاقم الطائرة: «إنك حقاً لا تستطيع أن تسمع عن ذلك في وسائل الإعلام».
ويسأل الكاتب: من أين في إفريقيا؟ فأجاب إنه لا يعرف بالضبط إلى أي منطقة ينتمي أولئك الأفارقة، لكنهم عموماً من القرن الإفريقي، وعلى الأغلب ما يعاني هؤلاء الأفارقة من إصابات حرجة، الكثير منهم من خارج جيبوتي، وأضاف مشيراً إلى معسكر «ليمونير» lemonier القاعدة العسكرية الأميركية الرئيسة في إفريقيا، ولكن من مكان آخر في المنطقة أيضاً.
منذ عشرين سنة مضت، توفي الكثير من الجنود الموجودين في القاعدة العسكرية في الصومال والمسماة (black hawk down)، وبالكاد نسمع عن الخسائر العسكرية الأميركية في إفريقيا (عدا تقريراً غريباً صدر الأسبوع الماضي عن مقتل ثلاثة من القوات الخاصة الأميركية، مع ثلاث نساء وصفتهن مصادر عسكرية أميركية بأنهن «مومسات مغربيات» في ظروف غامضة بحادث سير في مالي.
إن العدد المتزايد للمرضى الذين يصلون إلى رامشتاين من إفريقيا أسدل الستار على التحول المهم والكبير الذي حدث في القرن الواحد والعشرين في استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية العسكرية، هذه الإصابات من المحتمل أن تكون طليعة أعداد متزايدة من الجنود الجرحى القادمين من مناطق بعيدة من أفغانستان أو العراق، إنها تعكس زيادة استخدام قواعد عسكرية صغيرة نسبياً مثل مخيم «ليمونير» lemonier والتي ينظر إليها المخططون العسكريون على أنها أنموذج لقواعد الولايات المتحدة في المستقبل، تتوضع بشكل مبعثر في أماكن متفرقة عبر المناطق في العالم، عندما لا يتسنى للولايات المتحدة الاحتفاظ بوجودها العسكري وفقاً لما ذكره بعض الأكاديميين المتخصصين بالشؤون العسكرية للولايات المتحدة الأميركية.
وعلى الرغم من عدم ذكر قاعدة رامشتاين الممهورة بختم الولايات المتحدة الأميركية والتي تشبه فيما مضى مدينة أميركية صغيرة، فيها كل ما يحتاجه العشرات أو حتى الآلاف من الجنود الأميركيين من خدمات متنوعة، فإن الكاتب لا يعتقد للحظة بأن وزارة الدفاع الأميركية تنوي تقليص مهمتها العسكرية، والسماح لهؤلاء الجنود الموجودين في القاعدة العسكرية بالعودة إلى بلدانهم.
في الواقع، وبناء على التطورات التي حدثت في السنوات الأخيرة، قد يكون العكس هو الصحيح.
في الوقت الذي تصنف فيه مجموعة القواعد العسكرية الأميركية العملاقة المنتشرة في جميع أنحاء العالم بأنها آخذة في التناقص، تزداد البنية التحتية للقواعد العسكرية الأميركية في العالم اتساعاً من حيث الحجم والنطاق.
الجدير ذكره أنه من غير المعروف لمعظم الأميركيين أن القواعد العسكرية الأميركية آخذة في الازدياد وذلك بفضل جيل جديد من القواعد العسكرية تدعى lily-pads «وسادات الزنبق» والتي تشبه من حيث آلية عملها قفزة الضفدع عبر البركة نحو فريسته».
إنّ هذا الجيل الجديد من القواعد العسكرية الأميركية المعروف «وسادات الزنبق» أصغر بكثير من سابقه من حيث الحجم ويمتلك تقنيات عالية المستوى وأجهزة يتعذر الوصول إليها مع عدد محدود من القوات العسكرية وكل الخدمات الترفيهية اللازمة لهم، كما أنها مزودة مسبقاً بكل الإمدادات والأسلحة المتطورة، والأهم من ذلك أن القواعد العسكرية المعروفة بـ lily-pad محوطة بسرية تامة يصعب اختراقها، وموزعة في جميع أنحاء العالم، من جيبوتي إلى أدغال هندوراس ومن صحارى موريتانيا إلى جزر كوكوس الاسترالية الصغيرة، كما تقوم وزارة الدفاع الأميركية بالمراقبة والمتابعة لقواعدها العسكرية الجديدة المسماة وسادات الزنبق والمنتشرة في بلدان كثيرة، وتسعى إلى القيام بذلك بكل ما تستطيع من قوة وفي أسرع وقت ممكن بالرغم من صعوبة تجميع المعلومات، والإحصاءات المطلوبة من كل قاعدة عسكرية نظراً للطبيعة السرية المحيطة بظروف العمل وبالقواعد العسكرية نفسها، وربما قام البنتاغون ببناء ما يزيد على 50 قاعدة عسكرية من نوع «وسادات الزنبق» وقواعد عسكرية أخرى.
منذ حوالي عام 2000 حين تم استكشاف أكثر من الرقم المذكور بكثير يشرح مارك كيويم مؤلف كتاب: المدينة الأميركية: بناء البؤر الاستيطانية من الإمبراطورية، بأن إلغاء السكان المحليين، والدعاية، والمعارضة المحتملة هو الهدف الجديد للإمبراطورية ومن أجل أن تستعرض أميركا قوتها كما يقول المؤلف، تريد من تلك القواعد العسكرية التي تعد بؤراً استيطانية، أن تكون مواقع استراتيجية عسكرية مهمة، منعزلة ومكتفية ذاتياً، ومنتشرة في جميع أنحاء العالم.
وفقاً للبعض من أهم أنصار الاستراتيجية الأميركية في معهد أميركان انتر برايز، ينبغي أن يكون الهدف الحقيقي للولايات المتحدة الأميركية إنشاء شبكة عالمية من الحصون الحدودية مع الجيش الأميركي، يطلق عليهم اسم «الفرسان العالميين» في القرن الحادي والعشرين.
إن هذه القواعد العسكرية والتي يطلق عليها اسم «وسادات الزنبق» قد أصبحت جزءاً مهماً من استراتيجية واشنطن العسكرية المتطورة والتي تهدف من ورائها إلى الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة العالمية من خلال قيامها بالكثير من المهام العسكرية في ظل فقدان التنافسية التي تكون في عالم متعدد الأقطاب.
لقد حافظت الولايات المتحدة الأميركية على مركزيتها لمدى طويل، وأثبتت أن هذه السياسة الأميركية المتبعة تستند إلى إعادة تشكيل العالم بما يتناسب مع مصالحها وأهدافها، و الولايات المتحدة لم تلق اهتماماً من الرأي العام، والرقابة في الكونغرس لم تكن كبيرة بما يكفي كما أن وصول أولى الضحايا الأميركيين من إفريقيا، والتورط العسكري الأميركي في مناطق جديدة من العالم والصراعات الجديدة من المحتمل أن تكون لها عواقب وخيمة مستقبلاً على أميركا.
ترحيل قواعد الامبراطورية
قد تعتقد بأن أعداد الجيش الأميركي في القواعد العسكرية في طريقها إلى التقلص مع مرور الوقت بدلاً من الازدياد، لكن القواعد العسكرية المنتشرة بشكل كبير في أنحاء العالم تشير إلى خلاف ذلك رغم أن الولايات المتحدة الأميركية اضطرت إلى إغلاق 505 قواعد عسكرية بكامل العدة والعتاد، بدءاً من القواعد الضخمة وانتهاء بأصغر قاعدة كانت قد أقامتها في العراق وحدها، ناهيك بأنها بدأت الآن عملية سحب لقواتها العسكرية الموجودة في أفغانستان.
أما في أوروبا فإن وزارة الدفاع الأميركية تواصل إغلاق قواعدها الضخمة في ألمانيا وقريباً ستتم إزالة اثنتين من الوحدات المقاتلة الموجودة في ذلك البلد، كما يجري تقليص عدد من القوات العسكرية الاميركية لتصل إلى 100,000 جندي لتحل محلها قوات دولية.
ما تجدر الإشارة إليه أن واشنطن لا تزال تحتفظ وبسهولة بأكبر مجموعة من القواعد الأجنبية في تاريخ العالم، أكثر من 1000 قاعدة عسكرية خارج الولايات المتحدة منذ عقود مجهزة بشكل كامل، بدءاً من القواعد العسكرية في ألمانيا واليابان إلى قواعد «الطائرات من دون طيار» والتي هي العلاقة الفارقة الجديدة في إثيوبيا وجزر سيشل في المحيط الهندي، من دون إغفال المنتجعات السياحية في كل من إيطاليا وجنوب كوريا، التي تشكل متنفساً للجيش الأميركي أثناء قضاء إجازاتهم السنوية فتبدو بذلك أشبه بثكنات عسكرية أكثر منها فنادق سياحية.
وفي أفغانستان تقود الولايات المتحدة الأميركية قوة عسكرية دولية لا تزال تسيطر على أكثر من 450 قاعدة.
في المجمل، لدى الجيش الأميركي شكل من أشكال الوجود العسكري في نحو 150 دولة أجنبية، ناهيك بفرق المهمات الطارئة إضافة إلى حاملات الطائرات التي يقدر عددها بـ11 حاملة للطائرات والقواعد العسكرية الضخمة العائمة في الماء والتي يزداد عددها في البحار والمحيطات، ولم يسلم الفضاء أيضاً من غزو القواعد العسكرية الأميركية له.
ما تجدر الإشارة إليه، أن الولايات المتحدة الأميركية تنفق حالياً ما يُقدر بنحو 250 مليار دولار سنوياً للحفاظ على قواعد قواتها العسكرية المنتشرة في الخارج.
بعض القواعد العسكرية الأميركية, مثل القاعدة الموجودة في خليج غوانتانامو وكوبا, تعود في تاريخها إلى أواخر القرن التاسع عشر كما أن معظم القواعد العسكرية قد بنيت أو تم احتلالها أثناء الحرب العالمية الثانية، أو بعدها مباشرة في كل قارة، بما في ذلك القارة القطبية الجنوبية.
وعلى الرغم من أن الجيش الأميركي قام بإخلاء نحو 60% من القواعد الأجنبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فقد ظلت البنية التحتية لقاعدة الحرب الباردة سليمة نسبياً، مع 60,000 جندي أميركي موجودين في ألمانيا وحدها، رغم غياب خصم الدولة العظمى.
ومع ذلك, في الأشهر الأولى من عام 2001 وحتى قبل هجمات الحادي عشر من أيلول أطلقت إدارة بوش خطة تتضمن إعادة ترتيب القوات والقواعد العسكرية المهمة لديها.
إن المنهج الذي رسمه بوش سابقاً يستمر اليوم مع أوباما تحت ما يسمى «محور آسيا».
وكان بوش يسعى من خلال خطته التي رسم أبعادها جيداً إلى تحويل أكثر من ثلث القواعد العسكرية الأميركية الموزعة خارج أميركا بكل ما فيها من عتاد وذخيرة إلى الشرق والجنوب، وتحديداً إلى مناطق الصراع المتوقعة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
ركّزت وزارة الدفاع الأميركية جهودها على خلق منشآت عسكرية في المناطق المذكورة سابقاً، أصغر حجماً من القواعد العسكرية المنتشرة سابقاً، وأكثر مرونة من سابقتها إذ أخذت هذه المنشآت أشكالاً تنوعت بين ما يسمى بـ«قواعد عمليات متقدمة» أو «مواقع الأمن التعاوني» والتي تعد أصغر من قواعد العمليات السابقة، أو حتى في إنشاء جيل جديد من القواعد العسكرية أطلقت عليه اسم «وسادات الزنبق lily-pads».
وفي الوقت ذاته، اقتصرت تجمعات القوات الرئيسة على عدد قليل من قواعد التشغيل الرئيس مثل قاعدة رامشتاين الأميركية في المحيط الهندي، بعد أن كان مخططاً لتلك القواعد العسكرية أن تزداد اتساعاً مع مرور الوقت, لكن يبدو أن الاتساع هذه المرة ذهب في اتجاه آخر إلى حيث الخليج العربي، والعديد من المناطق في آسيا الصغرى تحت ذرائع مختلفة، حيث تتركز العشرات من القواعد العسكرية الأميركية هناك، ولا ندري إذا كان العدد ذاهباً إلى ازدياد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق