توصل مؤسس البعث قبل رحيله وتحديدا عام 1985 "في مشروع العمل القومي المستقبلي" الى قناعة قومية موضوعية وأكيدة، بأن حزبا أو تيارا واحدا من التيارات السياسية ومهما بلغ من القوة والانتشار، لا ولن يستطيع أن يتصدى لتحديات الحاضر العربي، وأنه لابد من حوارات وتفاهمات جديدة توحد الرؤى والقوى النهضوية في الوطن العربي على اختلاف تياراتها، لتوليد البرنامج القومي الجديد القادر على تشخيص اشكاليات الوطن العربي وتحديد الخيارات الممكنة لنهوض قومي، يوقف التراجع، وينهض بالامة فكرا وواقعا.
ولأن التيار القومي قد انحسر في بعض محطاته، وتراجع في بعض مساراته، وسياقاته، وتجاربه لأسباب ذاتية وموضوعية في اكثر من قطر عربي، فان اللحظة الراهنة تقتضي طرح سؤال حول امكانية وقف هذا التراجع واستنهاض حالة جديدة،تؤسس لمرجعيات وتضع تعريفات وأطر وأفكار جديدة، يمكنها أن توحد ماتفرق، وأن تعيد الألق لهذا التيار وفكره الذي أثبتت الوقائع أنه لايزال يمتلك المشروعية الفكرية والسياسية والرؤى الجاذبة والقادرة على الاستقطاب، ولديه تراكمات ايجابية على صعيد الفكر والممارسة يمكن الانطلاق منها لاعادة بناء اطروحاته وبرامجه وطرق تجسيد هذه الاطروحات في الواقع العربي.
وتبدو الحاجة ملحة في المرحلة الراهنة الى مراجعة مسارات، ومسلمات، ويقينات هذا الفكر ونقدها، وفحص تصوراته وممارساته السابقة، واختبار مدى قدرته على التعبير عن حاضر عربي بمعطياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية، ومدى القدرة على اعادة بناء الأطروحات التي اصبحت لاتلبي الاحتياجات المعرفية والسياسية في وطن عربي تغيرت فيه الكثير من القيم والافكار والمعطيات، وتأثر بالكثير من التحولات والتغيرات الهائلة.
وعندما نقول أن المراجعة والنقد ضروريان في المرحلة الراهنة لاعادة بناء الفكر القومي، فاننا لانلغي التاريخ النضالي الهائل والممارسة والتراكمات السابقة المتحققة لهذا الفكر، وانما نريد عن طريق هذه المراجعة أن نستولد اطروحات تجديدية ومعادلات جاذبة ومعاصرة، تجعل هذا الفكر يصبح مطابقا للواقع العربي الراهن، وملبيا لاحتياجات معرفية- سياسية قومية، ومعبرا عن حيوية فكرية انبعاثية احيائية، وقدرة على التجدد والانتهاض.
وعلينا أن نؤكد أن الفكر والتيار القومي على امتداد الساحة العربية كان منتجا لأفكار ووقائع هامه على الصعيد القومي وأنشأ حقلا هاما من الافكار والعقائد والوقائع، لكن الفراغات التي نشأت بداخله لاحقا وهو يسعى للتعبير والتفكير بالواقع العربي المتغير، أنشأت احتياجا الى تقديم اسهامات ومدخلات متجددة تسعى في مآلاتها النهائية الى الارتقاء بهذا الفكر وتغيير الواقع العربي نحو الأفضل.
لقد كانت هناك في العقود الاربعة الأخيرة حوارات ومناظرات قومية – اسلامية، وكانت هناك مؤتمرات وملتقيات قومية، وكانت هناك انجازات فكرية كبيرة استطاعت اخيرا أن تتفق على مشروع نهضوي بعناصره الرئيسة المتمثلة : بالوحدة، والديموقراطية، والاستقلال، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والتجدد الحضاري"، يمكن أن تصبح برنامجا تتلاقى علية معظم التيارات النهضوية في الوطن العربي، وتخلق قواسم مشتركة بين هذه التيارات توحد جهودها، وترتقي بوسائل عملها نحو الافضل ولغاية احياء القيم النهضوية الكبرى التي انطوى عليها الفكر القومي وتياراته المختلفة.
ان الفضاء مفتوح ومباح امام الفكر والتيار القومي، لكي يقدم نفسه واطروحاته التجديدية بديلا عما هو سائد من فوضى، وعماءات فكرية، وافكار تفتيتية انقسامية، لكي يعبر باطروحات جديدة عن التحديات والخيارات الماثلة امام الامة في المرحلة الراهنة، ولكي يوحد كل القوى الساعية الى الحرية والوحدة والنهضة في الوطن العربي مع تكريس شرعية الاختلاف والحق في الاختلاف، والتفاعل مع كل الأصوات الطالعة في الوطن العربي والداعية الى افتتاح مرحلة جديدة في العمل والتفكير والاستنهاض.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق