جهاد الترك
وكالة انباء الرابطه
لم تبرأ الولايات المتحدة بعد من تداعيات مشروع الدولة الأمنية التي سعى الرئيس السابق، جورج بوش الابن، الى إرسائها في بنية الامبراطورية الأميركية. ولعل هذا التصور الذي وضعه بوش على رأس قائمة أولوياته بدءاً من السنة الثانية من ولايتيه جاء ذريعة واهية، على الأرجح، مردّها الى خوفه المزعوم على الأمن القومي من تحول الارهاب ظاهرة كونية يصعب السيطرة عليها. بقي الارهاب، ولّى الرئيس بوش الأدبار مخلّفاً وراءه وحشاً أمنياً يتوسع في كل الاتجاهات للهيمنة على مفاصل السلطة السياسية والعسكرية. ينبري الكاتبان المرموقان دانييل كلايدمن وجاك غولد سميث في إصدارين جديدين لهما الى محاولة قراءة شخصية الرئيس باراك أوباما في ضوء إقدامه الملحوظ على التخلّص التدريجي من الآثار المروّعة للدولة الأمنية التي جعلها بوش رقماً صعباً في إدارة الامبراطورية من الداخل والخارج. الكتابان هما: "أقتل أو اعتقل: الحرب على الارهاب وروح رئاسة أوباما"، دار "هوفتن هاركورت"، 2012. والثاني: "القوة والاكراه: مسؤولية الرئاسة بعد الحادي عشر من سبتمبر" عن دار "نورتن أند كومباني"، 2012.
يرى المؤلفان في دراستيهما الموثّقتين جيداً أنه لا يمكن الوقوع على خيار من اثنين: إما مقاتلة الارهاب وإما إشاعة الفوضى داخل الولايات المتحدة. يريان، بدلاً من ذلك، أنه بمقدور الرئيس أوباما الفوز بالمعادلة كاملة. وإلا فإن الولايات المتحدة ستغدو مشرعة على سلسلة من المآزق السياسية والاجتماعية والثقافية. بدأ أوباما، وفقاً للكاتبين، تنفيذ مشروعه المضاد منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض. بدا محاصراً مختنقاً بأصوات نافذة راحت، منذ ولايتي بوش، تستأنس السلطة الأمنية المنفلتة من قبضة القانون. ومع ذلك، بدا، في الوقت عينه، مصراً على إعادة الأمور الى نصابها السابق: لا للدولة الأمنية، نعم لإعادة الاعتبار الى الدستور. نعم لإعادة إطلاق الفعل الثقافي المغيّب. نعم لإزاحة الكابوس البوليسي عن صدور الأميركيين من كل الفئات والأجناس.
في آذار/مارس من العام 2010، ظهر إعلان في عدد من الصحف الأميركية يصوّر الرئيس باراك أوباما وقد أُعيد تشكيل وجهه ليتماثل مع نظيره السابق جورج بوش الابن. وبعد ذلك بأشهر قليلة، نشرت منظمة واسعة النفوذ في الولايات المتحدة تعرف باسم فريق الحريات المدنية، تقريراً يتناول نشاط أوباما خلال الأشهر الثمانية عشر الاولى من ولايته، تتّهمه فيه بتبني السياسات الأسوأ التي درج بوش على اعتمادها. ووفقاً لكتاب هام بعنوان "اقتل أو اعتقل: الحرب على الارهاب وروح رئاسة أوباما" للمؤلف السياسي دانييل كلايدمن، ويشتمل على عرض موثّق لنضالات الرئيس للحفاظ على استقرار الأمن القومي وحكم القانون، لجأ فيه الكاتب الى التقليل من أهمية شعارات دأب فيها الليبراليون على توجيه أقسى التهم الى أوباما، من بينها: أنه عازم على بيع الحريات المدنية على قارعة الطريق. لم يقتصر الأمر على أصوات صادرة من معسكر الليبراليين فقط، فقد انبرى مفكر آخر محسوب على اليمين المحافظ وأستاذ لامع في جامعة هارفرد للنخبة، الى الدفاع عن أوباما بالقول إنه ماضٍ في استخدام جلّ سياسات بوش في الحرب على الارهاب. كان لهذا الرأي وقع الصاعقة على رؤوس من اليمين واليسار على حدّ سواء، لأن صاحب هذا الاستنتاج وهو جاك غولد سميث ذو نزعة محافظة وكان الأحرى به أن يتناول أوباما بالنقد اللاذع باعتبار أن هذا الأخير يمثل الحزب الديمقراطي في السلطة. جاء ذلك في كتاب هام آخر وضعه غولد سميث بعنوان "القوة والاكراه: مسؤولية الرئاسة بعد 11 سبتمبر". وكانت صحيفة "ذي نيويورك تايمز"، قد أدلت بدلوها في هذا التجاذب الحاد بأن نشرت مقالين في أيار/مايو الماضي لكل من جو بكر وستيفن كولبرت، تزعم فيهما أن لا شيء أربك اليمين واليسار في الولايات المتحدة، مثل الحملة الشرسة على الارهاب التي يديرها أوباما. واعتبرت، في الوقت عينه، أنه لن يكون بمقدور المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة، ميت رومني، أن يتهم أوباما بانتهاج سياسة خانعة في مجال الأمن القومي. دليلها على ذلك أن إدارة أوباما هي التي تمكنت من اصطياد أسامة بن لادن وتصفية اثنين وعشرين من كبار زعماء القاعدة، اضافة الى حزمة من الاجراءات الصارمة التي تسهر على تنفيذها ووضعها موضع الفعل، ليل نهار، من أجل الحدّ من استفحال ظاهرة الارهاب العالمية.
الأمن القومي
كيف ينبغي تقويم الولاية الأولى للرئيس أوباما من زاوية الأمن القومي للولايات المتحدة وحكم القانون؟ يعالج المفكران السياسيان كلايدمن وغولدسميث هذه المسألة، وما يثار حولها من تساؤلات، بإقدامهما على إصدار "إحكام" متباينة لا يجمع بينها توافق على الأرجح. من ناحيته يرى كلايدمن وهو صحافي مبرز في مجلة "نيوزويك" الأميركية، ان أوباما المحاصر بضباب من التردد والإحجام عن القرار، يبدو ممزقاً بين تشبثه بالمثل القانونية العليا، من جهة، وبراغماتيته السياسية من جهة أخرى. في المجال عينه، يعتقد غولدسميث ان أوباما ظلّ وفياً لسياسات نظيره السابق بوش الابن، بشكل أو بآخر. ومع ذلك، يتقاطع الكتابان عند نقطة محددة للغاية هي: ان مؤلفيهما يتوغلان عميقاً في آليات الدولة الأمنية الحديثة، على الرغم من امتناعهما معاً عن إشاعة الطمأنينة الى موقع الرئيس وطريقة عمله. والواقع أن أوباما فكّ ارتباطه عن المقاربات التي كان يركن إليها الرئيس بوش. ففي الوقت الذي مضى فيه الى توظيف تكتيكات تتعلق بالاعتقال وتعقب الارهابيين لقتلهم واخضاع المتهمين للقضاء العسكري، فقد سعى في الوقت نفسه الى مواءمة هذه الاجراءات مع حكم القانون الذي كان يحجم عنه الرئيس بوش. ولعلّ أخطر خطواته لم تكن تُعزى الى قصور في محاربة القاعدة، بل في التصدي لمنتقديه في الداخل، ومحاولات افشاله في التزام الشفافية والمحاسبة بالغتي الأهمية بالنسبة الى الشرعية الديمقراطية.
الأمن والقيم
وفي سياق متصل، كان أوباما أبدى في خطبته الافتتاحية في الكونغرس، ممانعة متشددة أكد فيها أنه لا يجوز الاختيار بين أمن الولايات المتحدة ومثلها العليا. ويشير كلايدمن الى هذه المسألة بالتحديد، من خلال ايراده معلومات وتقارير موثقة عن المعارك الضارية التي تدور رحاها داخل أروقة الادارة، معتبراً، في هذا الاطار، انه كان لا بد من الذهاب الى خيارات حقيقية وقاسية عدة للحفاظ على أمن البلاد في مواجهة منظمات وجمعيات مختلفة تختبئ بين المدنيين وتستهدف أفراداً لا شأن لهم بالقتال، وتضم في صفوفها أنصاراً لا يتورعون عن القيام بعمليات انتحارية لنشر الفوضى والارهاب. في الواقع، يطلّ أوباما على المشهد السياسي بعد توليه السلطة وفي جعبته تصميم على الارتقاء بمبادئ الحرية والديموقراطية وحكم القانون. غير أنه يرغب أيضاً في استخدام كل الأدوات المتاحة له بموجب القانون، العسكرية والجنائية، لتثبيت الأمن في الولايات المتحدة. ومع ذلك ينتقد كلايدمن أوباما لتردّده في اتخاذ القرار، قائلاً: لا يكفي أن يستحوذ المرء على فريق من المتبارين، بل ينبغي له أن يطلق أيديهم ليخوضوا المباراة من دون أن تلقى أمامهم العقبات والعراقيل. وأياً كان الأمر، فإن إصرار أوباما على تسوية المسائل القانونية والأخلاقية المتمثلة في هذه المشكلات دليل على قوته لا ضعفه. والأغلب في هذا الإطار، أن الكثرة الكثيرة من المعضلات التي تحاصر أوباما من كل الجهات، لا تعزى الى الضغوط الناتجة عن مستلزمات الأمن القومي، بقدر ما تنبع من الضباب الكثيف الذي يبثه منتقدوه في الداخل على نحو من الفوضى المتعمدة. على سبيل المثال، وضع أوباما في رأس جدول أعماله بعد دخوله مباشرة الى البيت الأبيض، إقفال سجن غوانتانامو وأطلق وعوداً حاسمة بأن يُصار الى تنفيذ هذا القرار خلال السنة الأولى من ولايته. ومع ذلك، مضت ثلاث سنوات ونصف السنة، ولا يزال هذا المعتقل مشرّعاً على 160 أسيراً تفوح منه رائحة الانتهاكات الأخلاقية والقانونية، وتتذرع به القاعدة في عملية تجنيد عناصر جديدة تستغل حماستهم في زرع الارهاب المنظم والعشوائي. والأمر عينه ينطبق على اندفاع أوباما الى اخضاع المتهمين بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر لمحاكمات سياسية لاعتبارات تتعلق بطبيعة النزاع بين القاعدة والولايات المتحدة وحيثيات الفعل الجرمي الذي أودى بحياة الآلاف في مدينة نيويورك وسواها. لم يلق هذا التوجه ترحيباً من قبل مؤسسات سياسية وقضائية داخل الدولة. إذ عمد مسؤولون كبار من ذوي الحل والربط في هذه المسألة، الى الالتفاف على قرار أوباما، ومن ثم تعطيله من الداخل عبر المطالبة بمحاكمة هؤلاء في إطار قضائي فقط لا يمت بصلة الى الحيثيات السياسية التي يرغب الرئيس في جعلها مقياساً لمقاضاة هؤلاء.
إجراءات
من ناحيته، يرى غولد سميث في كتابه "القوة والاكراه"، ان من غير الانصاف أن تُعزى سياسة أوباما في مكافحة الارهاب الى تعثره في اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب. يميل الى الاعتقاد أن مأزقاً خطيراً كهذا مردّه الى الاجماع الوطني الذي تحظى به سياسة مكافحة الارهاب التي ورثها أوباما عن الرئيس بوش الابن. ومع ذلك، يستطرد قائلاً ان أوباما اجتهد كثيراً في اتخاذ قرارات هامة تسفر، بالتأكيد، عن ملامح من شأنها أن تميّز ادارته عن مثيلتها السابقة. من بينها: إقدامه على الحدّ من سلطة وكالة المخابرات المركزية (سي.آي.إي) في الاستمرار بالإشراف على "برنامج الاستجواب المكثف"، إضافة الى المبادرة الفورية الى إقفال السجون السرية التي تديرها الوكالة، وإدخاله تحسينات تعتمد الشفافية حيال حرية الحصول على المعلومات، وإمكان الاطلاع على التقارير التي يشملها قانون السرية، واللجوء الى استخدام استراتيجية أكثر تحديداً ووضوحاً واقل غموضاً وتخبطاً من تلك التي كان يتبعها سلفه الرئيس بوش.
ويقرّ غولد سميث، بكثير من الصدقية في مقاربة هذه القضية الحساسة، بالشجاعة التي تحلّت بها إدارة أوباما بإعادة الاعتبار الى الاجراءات القانونية التي ينبغي أن توظف من دون تردد للجم البطش الذي تنطوي عليه في العادة ممارسة القوة بأشكالها المتعسفة. لم يكن ذلك متوافراً أثناء ولاية بوش الابن الذي اضطر على مضض الى طلب المشورة والإذن من الكونغرس للحصول على تفويض قانوني لتنفيذ مغامراته العسكرية بعدما أجبرته المحكمة العليا على ذلك. لم يجز أوباما لنفسه أن ينحو هذا المنحى المستغرب، فضّل بدلاً من ذلك أن يلتمس من الكونغرس الموافقة على تشريعات تضفي على المحاكمات طابعاً أكثر شفافية وعدالة. من الأمثلة القاطعة على ذلك، الامتناع عن إجبار المتهمين بإدلاء اعترافاتهم بالقوة والإحجام عن الأخذ بالشائعات وتداعياتها وتأثيراتها السلبية على مجرى التحقيق. وعلى الرغم من الخشية البالغة التي تقلق منظمات متعددة لحقوق الانسان حول استمرار أوباما في فرض الاعتقال العسكري من دون التقيد بأصول المحاكمات العسكرية أو المدنية، أو حتى من دون توجيه التهم المستندة الى أدلة ثابتة لا تقبل الشك، يرى غولد سميث، في هذا السياق، ان اجراءات كهذه ليست مقتبسة من مخلفات الرئيس بوش. انها، على الأرجح، مما تفترضه حالة الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة في أفغانستان. ان النزاع المسلح سريع الوتيرة والقسوة بين الجيش الأميركي وتنظيم القاعدة، قد يلقي بثقله على هذه المسألة بعيداً عن القيم الأخلاقية والقضائية التي يتوجب الالتزام بها في ظروف ضاغطة كهذه.
جيش من المترصدين
يخلص المؤلفان في كتابيهما الى الاستنتاج بأن الرئيس أوباما لا يحاكي بشكل من الأشكال شخصية الرئيس بوش الابن. دليلهما الأقوى على هذا الرأي، أن رغبته الملحّة في أن يحقق فوزاً استثنائياً في حربه على الارهاب لم تحمله على خوض مغامرة السير على حافة الهاوية. لم يكن في ظنه أن يسبق الزمن لتحقيق هذا المأرب قبل أن يسبقه الزمن والانتخابات الرئاسية على قاب قوسين أو أدنى منه. لم يضع في اعتباره إضفاء الشرعية على اسوأ السياسات التي ابتكرها الرئيس بوش حتى ولو بدت أنها فاعلة في خدمة أهدافه والحد من خسائره على كل الصعد. علماً أنه محاط، في كل مؤسسات الدولة، بجيش من المترصدين الذين يتعقبونه في كل خطواته لكي يحولوا دون نجاحه في تنفيذ برنامجه الانتخابي. واذا قارنا بين هذه الفترة ومثيلتها من ولاية بوش الابن، على سبيل المثال، بدا الفضاء السياسي وقتئذ في الولايات المتحدة وخارجها مختنقاً بالتقارير الموثقة التي تشير الى أساليب التعذيب المنظم التي كانت تمارس من وراء ظهر القانون، ضد المتهمين بالإرهاب، اضافة الى المعاملة المتوحشة التي كان يلقاها هؤلاء من دون حسيب ورقيب، وأيضاً التمييز العنصري المجحف الذي كان يتعرض له العرب والمسلمون، بشكل خاص، داخل الولايات المتحدة، خصوصاً أولئك الذين لم تثبت إدانتهم بشيء من هذا القبيل. والأخطر من هذه وتلك، السماح بتشكييل لجان وهيئات عسكرية لا تتورّع عن إصدار أقسى العقوبات وأكثرها همجية على متهمين استناداً الى شائعات كاذبة أو إفادات أدلى بها أصحابها تحت التعذيب. في المقابل، تقلّصت حدة هذه الانتهاكات الى حدودها الدنيا أثناء ولاية الرئيس أوباما. لم يبلّغ إلا عن حوادث قليلة من هذا النوع، بدليل أن أحداً من ذوي المناصب رفيعة المستوى لم تجر إدانته بانتهاكات كهذه ولم تثبت مسؤوليته عن ارتكابه أفعالاً تتضمن هذا الجرم.
من أجل ذلك، يؤكد الكاتبان أن الولايات المتحدة تبدو بحال أفضل كثيراًمما كانت عليه أثناء الادارة السابقة. لم يعد هناك إيغال في تعذيب المتهمين. ولعل هذا التقليد المتوارث عن ادارة الرئيس بوش أصبح تحت المجهر. كما انتهت مفاعيل البؤر السوداء كما يسمونها في الأوساط العسكرية والقضائية، والمقصود بها السجون السرية التي كانت تتناسل كالفطر برعاية مباشرة من وكالة المخابرات المركزية. والأهم ان كل الاجراءات والقوانين والتشريعات التي فرضت على حين غرة أثناء ولاية بوش، أصبحت عرضة للمساءلة من قبل مؤسسات القضاء.
يقتبس كلايدمن من كلام للرئيس أوباما توجه به الى فريق عمله في اجتماع انعقد في البيت الأبيض ما حرفيته: لا شيء يحملني على الفخر بالادارة الحالية أكثر من امتناعها عن التوظيف الغوغائي لهذه المسائل. لم نضرب على وتر الخوف لدى الناس ولم نقحم السياسة في مجال مكافحة الارهاب. كنا نلتزم الحيطة والحذر والرويّة ونحن نتحدث الى الأميركيين عن هذه المخاطر.
ومع ذلك، فهذه نصف الرواية فقط. لن تكتمل هذه الدراما المشوقة في الولايات المتحدة من دون أن يتوحد النصفان. أحدهما وُضع موضع التنفيذ من قبل أوباما الذي تجرأ على إقحام مشروعه المضاد. الثاني ينتظر أن يتمكن أوباما أو رئيس مرتقب آخر من الانقلاب الكامل على السلطة الأمنية. يبدو أن أوباما رجل لكل الفصول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق