مصر مهددة بالسيناريو السوري
سمير كرم
وكالة انباء الرابطه
هناك قول مأثور ـ أميركي في الغالب ـ يقول: «عندما تنشب الحرب تصبح الحقيقة أول الضحايا».
الآن يبدو أن هذا القول ينطبق على الثورة وليس على الحرب وحدها.
ما يفرض هذا الآن هو الحال الذي آلت اليه الثورة في مصر، فقد دخلت مرحلة تقترب من الحرب، وتبدو وقد ضاعت معها الحقيقة. لهذا تبزغ التساؤلات عما اذا كانت الثورة قد قسمت مصر الى قسمين، والتساؤلات اللاحقة عما اذا كان هذا الانقسام يحتم انتصار أحد القسمين، الشعب المصري في ناحية وتنظيم «الاخوان المسلمين» في الناحية الاخرى. وتمضي التساؤلات فتفرض سؤالا خطيرا آخر عما اذا كان الوضع الانقسامي الراهن هو أكثر الأوضاع ملاءمة للهيمنة الاميركية. أو ينشأ عن هذا سؤال آخر اذا كانت الولايات المتحدة ستبذل أقصى جهدها لكي تبقي الوضع الانقسامي في مصر كما هو، لأن انتصار أحد الطرفين لن يكون ملائما للهيمنة الأميركية. فليس هناك ما يضمن استمرار «الاخوان المسلمين» في تنسيق أوضاعهم وهم في السلطة مع الولايات المتحدة، وليس هناك ايضا ما يمكن أن يغيّر اتجاه الشعب المصري وثورته في اتجاه مخالف لاتجاهه الراهن، اتجاهه ضد الهيمنة الأميركية على حياته.
وليس هناك دليل على أن الوضع الانقسامي هو أكثر الأوضاع ملاءمة للهيمنة الأميركية أقوى من الأحداث الراهنة في سوريا. لقد أثبتت ملابسات هذه الأحداث السورية الدامية أن الانقسام فيها هو الوضع الذي تعمل الولايات المتحدة بكل إمكاناتها على استمراره، فهي لا تتدخل لمصلحة المعارضة السورية المسلحة، وهي لا تضغط من أجل أن تتوحد هذه المعارضة في وجه النظام الحاكم. ان الولايات المتحدة لا تبدو أبدا معنية بإنهاء هذه الازمة في سوريا على أي وجه، وهي تمارس نفوذها على الأطراف اللاعبة من الخارج لكي تمتنع عن التدخل المباشر. ينطبق هذا على السعودية وقطر والامارات، كما ينطبق على بريطانيا وفرنسا وحلف الاطلسي. الحرص الاميركي مستمر على أن تواصل هذه الدول دعمها للمعارضة المسلحة بالأموال والسلاح على أن لا يصل الأمر الى حدود التدخل الخارجي حتى لمصلحة المعارضة.
مفهوم أن الولايات المتحدة تخشى التورط اذا تدخلت في سوريا، والتورط ليس ملائما لظروف الولايات المتحدة الحالية. بل انه ليس ملائما لخطط المخابرات الأميركية المتعلقة بالشرق الاوسط. وهي ـ الولايات المتحدة ـ تعرف جيدا أن كل الاطراف الاخرى لا تملك القدرة على حسم الصراع الدائر في سوريا. الوضع الاكثر ملاءمة لأميركا والاطراف المتعاونة الاخرى في سوريا هو اذاً وضع الانقسام الدامي.
فلماذا نعتقد أن ما ينطبق على الوضع في سوريا ينطبق بالمثل على الوضع في مصر بالنسبة لأهداف الهيمنة الاميركية؟
ان نظرة عامة على الشرق الاوسط ككل في ضوء الاستراتيجية الاميركية الراهنة تفضي الى الاعتقاد الجازم بأن الولايات المتحدة تريد للقوى الفاعلة في هذه المنطقة أن تتحول الى قوى منقسمة على نفسها، فاقدة الاتجاه، مشغولة على الدوام بمشكلاتها الداخلية، خاصة اذا كانت قد وصلت الى خط الصدام المسلح.
وهذا بالتحديد ما تريده الولايات المتحدة أن يحدث في مصر. ولن تتوانى عن العمل العلني والسري من أجل أن تصل بالأحداث في مصر الى هذه النقطة الخطرة. ولا نظن أن ثمة قدرا من الشك، أياً كان قليلا، يمكن أن يطال حقيقة أن الجميع ـ نحن وغيرنا ـ قد فوجئنا بما بين «الإخوان المسلمين» في مصر والولايات المتحدة من توافق وتنسيق، على الأقل منذ أن بدأت تبرز في الأفق لحظة تطلع تنظيم «الإخوان» الى أخذ السلطة في مصر بين يديه. لماذا لا نقول مباشرة إن الولايات المتحدة تؤيد «الإخوان المسلمين» في مصر تأييدا مؤقتا ومشروطا لا يسمح لهذا التنظيم بأن يحكم مصر بتأييد منها؟ ربما يتعين علينا أن نعود الى نقطة البداية وهي القول المأثور بأنه عندما تنشب الحروب ـ وأضفنا هنا الثورات ـ تكون الحقيقة أول الضحايا. والحقيقة بالنسبة لما تنويه الولايات المتحدة بشأن الثورة في مصر هي هنا أول الضحايا. وتقع مسؤولية ذلك على الولايات المتحدة بالدرجة الاولى، كما تقع ايضا على تنظيم «الإخوان المسلمين». أما ثورة الشعب المصري فهي واضحة الاتجاه والأهداف مخلصة في إعلان نياتها.
الأمر الواضح الذي لا يحتمل خلافا هو أن الوضع الراهن في مصر ينذر بخطر جسيم بالتحول الى السيناريو السوري، وهو السيناريو الأكثر ملاءمة لدور أميركا كما تتصوره في خططها الراهنة. وصحيح أن الانقسام الحادث في مصر بين الشعب المصري وتنظيم «الإخوان المسلمين» لم يصل بعد الى خط المواجهة المسلحة، ولكن تمسك كلا الطرفين بمواقفه وأهدافه ينذر بحدوث هذا التحول. وصحيح أن أحد الطرفين في هذه المواجهة ـ وهو تنظيم «الإخوان المسلمين» ـ يملك ميليشيا مسلحة ومدربة على استخدام السلاح، فيما الشعب المصري ليس مسلحا من الأساس، ولم يكن مسلحا في أي وقت، إلا في أوقات المواجهة مع الاحتلال البريطاني وكان تسليحه في أضيق الحدود. لكننا نستطيع ان نجزم بأن هذا العامل لن يحول بين الشعب المصري ومنع سيطرة «الإخوان المسلمين» على البلد بالسلاح. إن جموع الشعب المصري تمثل في حد ذاتها قوة لا يستهان بها وبقدراتها في مواجهة مع أي طرف يريد السيطرة بالسلاح.
ولكن هذا الواقع لا يمنع أبدا من إمكانية التفاقم بسبب التدخل الاميركي لنصرة الجانب الذي تبين أنه ينسق مع الاميركيين منذ بداية الأزمة الراهنة. بل الاحرى ان نقول ان هذا التفاقم ممكن وبالغ الخطورة بسبب انعدام ولاء «الإخوان المسلمين» كتنظيم يقوم على أسس دينية أو- هكذا يفترض ـ للوطن.
ان المواجهة بين جماهير المتظاهرين المصريين وأعضاء تنظيم «الإخوان المسلمين» مرشحة للاستمرار ولاكتساب طابع أشد حدة وربما عنفا. وقد أعلنت القوات المسلحة كما أعلنت وزارة الداخلية المشرفة على قوات الشرطة المصرية انهما تلتزمان الحياد إزاء الجماعات المختلفة التي تحدث المواجهة بينها. ويمكن ان يعد هذا الموقف الذي يعد بعدم التدخل موقفا لمصلحة «الإخوان المسلمين» لأنهم الطرف الذي يملك السلاح ويملك التدريب على استخدامه. ومع ذلك فإن تدخل القوات المسلحة المصرية ليس أمرا مستبعدا كلية على الرغم من هذا التعهد، لان موقفا خطرا كالذي يتمثل في مواجهة تستخدم فيها جماعة «الإخوان» ميليشياتها المسلحة لا يمكن أن تلتزم القوات المسلحة إزاءه موقف الحياد.
وعند هذه النقطة يبرز خطران جسيمان: الأول احتمال الصدام بين القوات المسلحة المصرية وميليشيات التنظيم الإخواني تحت تأثير تاريخ طويل من المواجهة بين هذين الطرفين، الامر الذي يجعل تنظيم الإخوان المسلمين فاقد الثقة بموقف القوات المسلحة منه. أما الخطر الجسيم الثاني فيتمثل في حقيقة وجود قيادات في القوات المسلحة المصرية ذات ولاء لتنظيم «الإخوان». والمعتقد ان الرئيس الإخواني مرسي اختار من بين هؤلاء من عيّنهم في مناصب القيادة العليا للقوات المسلحة عندما قرر إزاحة كل من المشير حسين طنطاوي والفريق عنان من منصبيهما. وكان هذا أول إجراء اتخذه للانفراد بالسلطة. وليس خافيا على أحد الآن ان هذا القرار وما شابهه من الرئيس مرسي كان بإيعاز ـ ربما وصل الى درجة الفرض ـ من القيادات العليا في تنظيم «الإخوان المسلمين» تنفيذا لما انتهت اليه مداولات هذه القيادات بشأن كيفية مواجهة إشكالات السلطة وكيفية الهيمنة عليها. والأمر المؤكد ان وجود قيادات عليا في القوات المسلحة ذات ولاء لتنظيم «الإخوان» السياسي يمكن ان يكون له دور أساسي في تحديد كيفية معالجة القوات المسلحة لمشكلة مواجهة جارية أو محتملة بين تنظيم الإخوان وجماهير الثوار المصريين.
وسط هذا الجو المشحون بأخطر الاحتمالات، فإن أحداث الأيام أو الاسابيع الاخيرة قد أظهرت ـ ضمن ما أظهرت ـ ان الرئيس محمد مرسي رجل ذو طموح قوي وجد نفسه فجأة في منصب رئيس جمهورية مصر. وبصرف النظر عن التفاوت الواضح بين درجة طموحه ومستوى كفاءته الفكرية والسياسية، فإن من المؤكد ان يلعب طموحه دورا على درجة لا يمكن إنكارها من الخطورة في الأحداث الآتية في مصر، وخاصة في احتمالات المواجهة بدرجاتها المتفاوتة بين جماهير الثورة وتنظيم الإخوان المسلمين.
وهنا يظهر بصورة حتمية السؤال عما اذا كان طموح الرئيس مرسي الشخصي يمكن أن يؤدي الى انقسام من نوع آخر بين مكونات التنظيم الإخواني نفسه. والرد على هذا التساؤل يستوجب الرجوع الى حقيقة «حديدية» تنظيم الإخوان المسلمين. وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الانقسام الإخواني يبتّه ما يمكن أن نسميه الشريحة الأعلى من قيادة التنظيم، سواء لمصلحة مرسي أو لمصلحة منافس له في الطموح الى منصب الرئاسة. لكن الامر المؤكد أن مواجهة واسعة النطاق بين الجماهير الثورية المصرية وتنظيم الإخوان المسلمين، أيا كانت درجة تآزر قياداته، ستكون لها آثار كبيرة على تطورات هذه المواجهة، وبالتالي على النتيجة التي يمكن أن تنتهي اليها.
ان فترة تزيد قليلا عن خمسة أشهر لتنظيم «الإخوان المسلمين» في السلطة في مصر قد أسفرت عن تخبط لا يكاد يكون له مثيل في التاريخ المصري الحديث. ووسط هذا التخبط تتوه حقائق كثيرة بعضها أساسي ولا يمكن التوصل بدونه الى استنتاجات محددة. ومن الحقائق القليلة الواضحة في هذا الشأن ان الولايات المتحدة تحاول مساعدة الإخوان المسلمين على ضبط الأمور وضمان السلطة. لكن الى أين يستمر هذا المسار؟ متى تقرر أميركا أن تواصل تجربة سوريا في مصر؟ ومتى تقرر أن مصلحتها تستوجب وقف نزيف الطاقة وربما الدم في هذا الصراع المصري؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق