الأيام تتساوى مع بعضها البعض في دورة الزمن، لكنها ليست كذلك إذا ما تحولت إلى حاضنات لأحداث كبرى وتحولات اجتماعية عظيمة. هذه الأيام تبطل أن تكون كغيرها، لأنها تصبح محطات تاريخية في المسيرة الإنسانية، ومعها يصبح الاحتساب الزمني قياساً إلى ما قبلها وما بعدها.
إن المحطات التاريخية أكثر من أن تحصى، بعضها أرخ، وبعض لم يؤرخ له، وأحداث كبرى حصلت في التاريخ البشري، بعضها استقر في الذاكرة الجماعية للشعوب وتناقلته الأجيال، وبعضها لم يًلحظ له حضور وتواصل، أما لأنه حصل قبل بداية التدوين، وأما لأن التدوين لم يكن موضوعياً، بحيث غاب بعض ما يجب أن يكون موجوداً، وحضرت من لا تتوفر فيه مواصفات الحدث التاريخي، الذي يرسم لتحولات تاريخية. وهذه سمة عامة تكاد تشترك فيها كل الأمم التي تشكلت عبر مسار التطور التاريخي للإنسانية، والأمة العربية لا تشد عن هذه القاعدة، إطلاقاً. لا بل ان هذه الأمة، تمتاز عن غيرها، بغنى الأيام المفصلية في تاريخها، سواء تلك المتعلقة بالبعد الديني أو بالبعد السياسي الاجتماعي، ومرد ذلك، ان المنطقة التي تحتض الأمة العربية كمكون إنساني، اجتماعي، انطلقت منها دعوات التوحيد الديني برسالتها الثلاث، وفيها نشأت حضارات إنسانية ما تزال شخوصها ماثلة حتى الآن.
وبما أن الأمة العربية على تعاقب مراحل تشكلها القومي، تميزت بغنى قيمي، فإن موروثها الإنساني – الحضاري كان غنياً بالقياس إلى موروثات الأمم الأخرى.
إن أمة تستبطن هذا المخزون الحضاري والقيمي، هي أمة تختلج أحشائها بجينات حية، تتجدد دائماً، لتعود بين الفنية والأخرى مفصحة عن ذاتها بحلة حاضرها، المتواصل مع ماضيها والمشرئب إلى مستقبل سيصبح يوماً ما، حاضراً، في شخوصاته الاجتماعية والإنسانية، كنتاج لسياق تطور اجتماعي وسياسي، حددت اتجاهاته العامة، رؤى فكرية، رسمت معالم المستقبل، انطلاقاً من إدراك حاميلها واستيعابهم لقوانين الصراع التي تحكم مسار التطور الاجتماعي.
وإذ كانت كتب التاريخ والمدونات تحفظ بين طياتها، الأيام التي شكلت محطات لتحولات إنسانية وتاريخية كبرى، وإليها يعود الإنسان ليقف على معالم ومعطى ماضٍ سحيق أو قريب، إلا أنه غير معاش في لحظاته، فإن أياماً كثيرة ما تزال معاشة بدلالاتها ومعانيها في حاضر الزمن، وهي أن تحولت إلى ماضٍ مستقبلاً، إلا أنها تبقى حاضرة في ذاكرة الأمة، لأنها كانت حاضنة لأحداث كبرى.
وإذا كانت أيام الحاضر العربي ذات الدلالات والتي يعيشها جيل الأمة الحالي، كثيرة، وهي باتت محطات، لا يمكن تجاوزها، سواء كانت حاضنة لأحداث بدلالات إيجابية أو سلبية، إلا أن يوماً واحداً يعتمد أساساً لتأريخ زمني في حساب دورة الزمن، احتضن ثلاثة أحداث، باتت تشكل عناوين في مسار تطور إنساني وتاريخي لهذه الأمة، ولا يمكن لأحد أن يعبرها دون أن يتوقف عند ما تنطوي عليه من دلالات وأبعاد.
أول هذه الأحداث، يطوي عامة الأول، والثاني يطوي عامة السادس، والثالث يطوي عامة السابع والثلاثين.وان ميزة هذه العناوين انها ارتبطت في ما بينها برابط، هو أشبه بحبل الصرة، الذي عبره يتغذى الجنين في رحم أمه.
الحدث الأقرب زماناً، هو يوم الإعلان الرسمي للاندحار الأميركي عن أرض العراق، والتي تقدمه بعض أجهزة الإعلام تلطيفاً عبر يافطة الانسحاب.
الحدث الاوسط زماناً، هو يوم استشهاد قائد العراق شهيد الأمة العربية، الرئيس صدام حسين، والذي باتت رمزية شهادته، تشكل إضافة نوعية على مسيرة نضالية كانت حافلة بإنجازاتها.
والحدث الأبعد، هو يوم انطلقت ثورة فلسطين، لتعيد تصويب الأمور وتضعها في نصابها الصحيح، وكسبيل وحيد لاستعادة الحق التاريخي المغتصب.
هذه العناوين المعبرة عن أحداث، والتي احتشدت في يوم واحد بتفاوت فواصل الزمن، جاءت في سياق واحد، أنه سياق استنهاض هذه الأمة لذاتها، وللدفاع عن حقها في العيش الحر الكريم، عبر وضع حدٍ لاستلابها القومي والاجتماعي، وتأكيد حضورها كأمة جديرة بالحياة، وقادرة على تجديد حياتها عبر انبعاث متجدد لا يستطيع تحقيقه إلا مشروع نهضوي بإبعاد قومية ومضامين اجتماعية تحررية.
وإذا كنا نتوقف دائماً عند هذه المناسبات الثلاثة، فلدلالاتها التي ترمز إليها، والتي تتمحور حول قضية واحدة، أنها قضية الأمة في توقها نحو التحرر والتقدم والوحدة.
إن تحرير العراق بفعل الدور الذي اضطلعت به المقاومة الوطنية العراقية، التي ضمت طيفاً سياسياً عريضاً، وقاده حزب البعث العربي الاشتراكي، لم يكن انتصاراً للعراق وحسب، بل كان انتصاراً للأمة العربية وفي الطليعة منها قضيتها المركزية قضية فلسطين. فالعراق لم يتعرض للعدوان المتكرر والاحتلال، الا لانه شكل في ظل نظامه الوطني، قاعدة ارتكازية للنضال العربي، ورافعة سياسية ونضالية لمشروع المواجهة القومية ضد أعداء الأمة العربية المتعددي المشارب والمواقع وفي الطليعة منهم العدو الصهيوني وكل من يتقاطع معه لضرب مواقع القوة في الأمة وللحؤول دون استنهاضها.
إن تحرير العراق من الاحتلال الأميركي، شكل إنجازاً قومياً، وهو نصر مؤزر لأن المشروع المقاوم ببعديه القومي الوطني والقومي، استطاع أن يسقط واحدة من حلقات مشروع التحالف الصهيو-أميركي المتقاطع مع المشروع الإيراني. ويحق للعراقيين أولاً، وسائر العرب ثانياً، وكل القوى المتضررة من مشروع النهج الاستعماري الأميركي ثالثاً، ان يفرحوا ويعتزوا بهذا النصر. وأنه مهما حاول المعادون للأمة أن يبخثوا حق العراق وشعبه ومقاومته بهذا الإنجاز، فإنهم لخائبون، لأن الحقائق الموضوعية أقوى من التخرصات السياسية، كونها هي التي تفرض نفسها في النهاية وها هي قد فرضت نفسها.
أما الحدث الثاني، فهو استشهاد قائد العراق، ومهندس مقاومته. وإذا كان يتم التوقف عند هذه المناسبة، فلأنها جاءت في سياق مشروع المواجهة الشامل. فالاستشهاد في مشهديته التي حصل فيها، والدلالات التي انطوى عليها، ليست منعزلة عن العملية الصراعية، التي انخرط بها العراق وهو يحمل لواء مشروع النهوض القومي، وتحرير الأراضي العربي المحتلة وفي الطليعة منها فلسطين. وعندما يستحضر قائد العراق، فلسطين بالتحية قبل النطق بالشهادتين، فهذا يعني، أن فلسطين تشكل اختصاراً لقضية الأمة برمتها، وهي فضلاً عن كونها أولى القبلتين، وحاضنة ثالث الحرمين، فهي ايضاً القبلة السياسة الدائمة للمناضلين العرب وعلى رأسهم شهيد الأضحى القائد صدام حسين وهو الذي كان يقول دائماً أن فلسطين في قلوبنا وفي عيوننا إذا ما استدرنا إلى أي من الجهات الأربع.
من هنا، فعندما تستحضر ذكرى الاستشهاد، فإنما تستحضر من خلالها، فلسطين، وعندما تستحضر ذكرى التحرير الأولى، فإنما تستحضر فلسطين ايضاً، لأنها القضية الدائمة الحضور في كل إنجاز نضالي وفي كل محطة نضالية ذات أبعاد قومية.
وأما الحدث الثالث، والذي يصادف توقيتاً، الذكرى الأولى للتحرير، والذكرى السادسة للاستشهاد، فهو الحدث الفلسطيني شكلاً، والقومي مضموناً وبعداً، لأن فلسطين لم تكن مستهدفة لذاتها، بل الأمة من خلالها. وتحريرها، لا يحررها أرضاً وحسب، بل يحرر الأمة من كل أشكال الاستلاب والاحتواء والتبعية. ولهذا فإن هذه المحطة النضالية التي تعود بالزمن لسبع وأربعين سنة، هي دائمة الحضور في الوجدان الشعبي، كون الثورة التي انطلقت رصاصتها الأولى في الأول من كانون الثاني 1965، تحولت ثورة عارمة، وكانت واحدة من المحفزات النضالية للجماهير العربية. وان هذه الجماهير العربية ستبقى مدفوعة بهذا المحفز النضالي، لأن فلسطين بما هي هوية وقضية، لن تسقطها المساومات السياسية ولا انصاف الحلول ولا ينقذها، الا النضال الذي يسقط كل ركائز المشروع الصهيوني – الاستيطاني، والذي يعيد الحق لأصحابه، ولا طريق لذلك غير الكفاح الشعبي بأشكاله المختلفة.
إن حلول هذه المناسبات في تقاطع زمني واحد، فيه ما يكفي من الدلالات لنقول، ان تقاطع هذه المحطات ليس صدفة تاريخية، بل هو سياق طبيعي. لأن الحزب الذي انطلق في بداية تأسيسه وفلسطين في صلب مشروعه النضالي، وحضن انطلاق ثورتها يوم إطلاق رصاصتها الأولى، وشكل نظامه الوطني حضناً دافئاً لثورتها واتخذت قيادته قرار اقتسام رغيف الخبز وحبة الدواء مع جماهيرها المنتقضة وفي أحرج اللحظات وأصعبها، وبقيت شعاراً حياً في كل تفاصيل حياة مناضليه وفي أحرج اللحظات وأقساها، هي دليل واضح بأن لكل موقف ثمن. ولكل زواج مهر مقدم ومؤخر، وحزب تحرير العراق من الاحتلال الأميركي، وحزب الشهداء وعلى رأسهم أمينه العام، ملتزم نضالياً، تقديم المهر المقدم منه والمؤخر، وهذا ليس التزاماً بموجب شرعي، بل التزام بحق تاريخي، لا يستقيم نصابه إلا بتضحية ترتقي في معانيها إلى مستوى الأهداف السامية. وهذه التضحية عنوانها الشهادة التي يرسم من خلالها المناضلون المشهدية المستقبلية لهذه الأمة التي يستشهد قادتها مع مناضليها انتصاراً للمبادئ والأهداف الكبرى. ولهذا يبقى هؤلاء الشهداء أحياء ليس عند ربهم وحسب، بل في ذاكرة شعوبهم ومنهم تستمد كل معاني البطولة والشجاعة والمرؤة والنخوة. أو ليست هذه مشهدية شعب العراق وهو يقاوم ومشهديه قائده الشهيد وهو يقاوم ومشهدية فلسطين وهي تقاوم.
تحية لهم جميعاً في ذكراهم..
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق