عالم جديد شجاع
خالد الجفري
الصوره من هنا |
اسم رواية للقاص (الدوس هكسلى) نشرت عام 1932م بعد أن اهتزت ثقة
العالم بالأسس الرأس ماليه والبرجوازية والليبرالية بعد أن تعرضت أوروبا للحرب
العالمية الاولى والكساد العالمي العظيم الذي قاد أوروبا إلى ارتفاع معدلات البطالة وانهيار البنوك والشركات، وتدهور
أوضاع الفقراء. بدا جليًا حينذاك أن العالم يسير بأقصى سرعة نحو الهاوية.
حاول الكاتب في روايته التي تعتبر من أفضل 100 رواية مكتوبة بالإنجليزيةليقدم من خلالها رؤية تنبؤية لما يمكن أن تقود إليه توجهات
العالم آنذاك، فصوّر عالمًا محكم التنظيم تُحركه التقنية وفق إيقاع رتيب ودقيق
يضاد تمامًا سنوات الفوضى التي عاصرها الكاتب، لكنه في الآن ذاته رسم تصور متخيل
لما يمكن أن يصير إليه العالم إن امتدت خيوط واقعه نحو المستقبل.
صوّر هكسلى بروايته، التيتندرج تحت فئة الخيال العلمي الديستوبى، عالمًا مستقبليًا ظاهره اليوتوبيا حيث
ينعم الجميع بسعادة لا يكدر من صفوها شيء، ولكن حقيقته، التي يبلورها الخطاب الروائي،
تكشف عن ديستوبيا حقيقية يفقد فيها الإنسان حريته ويصير رهنًا للمتع الآنية، ولعبة
في يد المتحكمين بالتقنية. يصير أقرب إلى آلة تحقق تمامًا ما بُرمجت عليه ولا يكون
بمقدورها أن تتوقف يومًا لتعترض أو تغير مسارها. ومن هنا يقدم هكسلى تحذيرًا مما
قد تؤول إليه التطورات التقنية في مجال البيولوجيا تحديدًا من تنميط للبشر يجعل
التلاعب بهم وتوجيههم من قبل سادة التكنولوجيا أمرًا يسير المنال.
تبدأ الرواية في عام ٦٣٢ بعد فورد، حيث استبدل
بالتقويم الميلادي تقويم فورد الجديد بعد أن تلاشت تمامًا كل صلة بالأديان، فصار
«فورد»، الذى يشير إلى هنري فورد مؤسس شركة فورد للسيارات والذى كان له تأثير كبير
على الإنتاج الصناعي وأحد القادة في تطوير التكنولوجيا، هو إله هذا العالم الجديد
الذى ينشد الجميع مبادئه ويتخذون من T رمزًا له في إشارة إلى الاستعاضة عن رمز الصليب المسيحي بموديل
لسيارة هنري فورد، واستبدال التكنولوجيا والصناعة بالقيم الدينية، ومن ثم التحول
من الخلق الإلهي إلى الخلق التكنولوجي.
إن كان الجانب الأكبر
من شقاء الإنسان ينبع من تطلعاته غير الملباة ورفضه وضعه القائم واشتهائه لما يعجز
عن تحقيقه، فإن هذه المعضلة لا مكان لها بالعالم الجديد الشجاع الذى يتخيله هكسلى،
فالأفراد في مرحلة التبويض الصناعي يُجرى تكييفهم وهندستهم وراثيًا بما سيلائم
حياتهم المختارة من الجهات المهيمنة، فكل فرد يُعد جينيًا بما سيوافق الطبقة التي
سينتمى إليها والوظيفة التي سيعمل بها، ويُلقّن عبر منهجية صارمة بالقواعد التي
سيتبعها في حياته بما في ذلك مساحات المتعة والترفيه.
في العالم الجديد
الشجاع لا مجال لحيرة الاختيار أو لاضطرابات الإرادة البشرية، إذ لا إرادة ولا
تفكير ولا تطلع إلى ما يغاير النظام المعد سلفًا، ومن ثم لا مكان لشقاء الرغبات
والتطلعات في هذا العالم المُهندَس بدقة. في «مركز لندن للتفريخ والتكييف» يتم
تصنيع البشر وفق خمس طبقات هي ( ألفا وبيتا وجاما ودلتا وإبسيلون)، وجميع الأفراد
داخل الطبقة الواحدة متساوون ومن ثم لا مجال لتنافس أو صراع، كما أنه لا مجال
لتنافس بين الطبقات لأن لكل طبقة خصائصها الجينية التي تضعها في مكانها المحدد
بصرامة، علاوة على البرمجة النفسية التي يتعرض لها الجميع بسنوات العمر الأولى والتي
تجعلهم سعداء وقانعين تمامًا بوضعهم.
تُصنّع الطبقات الأدنى
مثل (الجاما والدلتا والإبسيلون) وفق عملية يطلق عليها «عملية بوكانوفسكى»، وفيها
تُقسّم البويضة البشرية إلى ستة وتسعين جنينًا متطابقًا، أي نسخ النسخة الأصلية
إلى عشرات النسخ، ومن ثم يمكن لهم العمل تمامًا مثل الآلة كما يتم تكييفهم لتحمل
ظروف العمل المنوط بهم القيام بها، وتتركز معارفهم حول العالم على ما يراد لهم
معرفته فقط كي يؤدوا وظائفهم على أكمل وجه. أما الطبقات الأعلى مثل ألفا وبيتا
فتتفوق على الطبقات الأخرى في التكوين الجسديوالعقلي وتؤهل لتقلُّد مناصب
مرموقة.
يُصاغ كل جانب من
الحياة في العالم الجديد الشجاع بدقة بالغة، فليست الوظائف فقط هي ما تُحدد سلفًا
وإنما تُبرمج الرغبات الجنسية في إطار ينأى تمامًا عن الزواج، ويرنو للمتع الآنية
واللحظية، ففي هذا العالم من الممنوع إقامة علاقة طويلة الأمد مع شخص واحد، ويتعين
أن يكون «الجميع من أجل الجميع» فتُشجع العلاقات الجنسية العابرة ولا يعد الجنس
شيئًا يجب إخفاؤه، فالتدريب على ممارسة الجنس يبدأ منذ ألعاب الطفولة الجنسية ولا
يعتمد على المشاعر، إذ إن العواطف وهوايتها من الماضي القديم جدًا، ولم يعد ثمة
وجود لها في هذا العالم السعيد.
ليس لدى سكان العالم
الجديد ما يدعوهم للسخط، فالحياة مستقرة تمامًا وليس هناك ما يستدعى القلق بشأن
شئون المعيشة اليومية، كما أن العلاقات الجنسية المفتوحة تضمن إشباعًا فوريًا بدون
حسابات مسبقة، ولم يعد الناس يشيخون أو يمرضون فقد جرى تعزيزهم بما يخلصهم من
عيوبهم الجسدية القديمة، وفوق كل ذلك، هناك عقار «السوما»، وهو مخدر مهمته الحفاظ
على أعلى مستوى من السعادة وتناسى أى شائبة قد تسبب القلق. ولكن في قلب هذا العالم
المهندس بدقة ورفاهية تكمن الأزمة التي تكشف عنها الرواية.
مظاهر الديستوبيا في
العالم الجديدإن كان سُكان العالم الجديد لا يشعرون بأي غصة من كونهم مجرد أدوات
يتلاعب بها قادة التكنولوجيا لأنهم لا يعرفون سوى ذلك المصير، فقد مُحى الماضي
والتاريخ القديم تمامًا بأساطيره وأديانه ومعتقداته وتقاليده وبات استرجاعه
مشروطًا بتذكر كونه محض هراء قديم جدًا نجح العالم الجديد في الخلاص منه، وإن كانت
ثمة مجتمعات بدائية لا تعرف «الحضارة» لا تزال مؤمنة به. رغم ذلك، يعزز هكسلى عبر
سرده الروائي من مظاهر الديستوبيا المغطاة تحت قناع العالم الجديد الشجاع.
تتمثل أبرز مظاهر
الديستوبيا في ذلك العالم المتخيل بالفقدان التام لحرية الإنسان؛ إذ لا ينعم
الإنسان المُصمم ليصير إلى الآلة أقرب بأي فكر عن الحرية، فكل فرد يخضع لمكانة
حتمية بالعمل والطبقة الاجتماعية وأسلوب الحياة، ويُبرمج بما يحقق الانضباط في
المجتمع سواء بالنمط التعليمي المتبع منذ الطفولة أو بتعزيز فكرة «الجميع من أجل
الجميع» والتي تتحقق باحتفالات جماعية منوعة مثل «يوم فورد»، و«يوم التضامن الاجتماعي»،
وتضم أغنيات جماعية تعمل على تحقيق اندماج الفرد مع أهداف السلطة وتوجهات الجماعة،
كما يتضمن النظام الصارم قواعد تقتضى الإلقاء بالمعارضين، إن وجدوا، فى
المنفى.
جانب آخر من مظاهر
الديستوبيا في هذا المجتمع المتخيل يتمثل في تلاشى المشاعر الإنسانية، فالأطفال
تبرمج على كراهية الكتب والأزهار منذ طفولتهم، من خلال الربط الشرطي بين الاقتراب
منهما والتعرض لصدمة كهربائية صاعقة، ويدربون على رؤية الذين يتعرضون للموت كي
يصير الموت بالنسبة إليهم مألوفًا وغير مزعج، كما يلقنون فنون الجنس باعتبارها من
ألعاب التسلية غير ذات الصلة بأي مشاعر إنسانية، ويحرمون من كل علاقة حميمية قائمة
على المشاعر إذ لا أمومة ولا أبوة ولا زواج ولا حب.
يؤسس هكسلى للتصارع بين
عالمين ونمطين مختلفين من الفكر بزرع بذور الصراع والرفض عبر شخصيتي «هلموتز
واتسون» و«برنارد ماركس»، والشخصيتان من فصيلة ألفا، فالأول يشعر بأن ثمة حاجة
روحية لديه غير متحققة يريد أن يعبر عنها عبر الكتابة، أما الثاني، الذى يُروَّج
لحدوث خطأ في هندسته حينما كان جنينًا في الزجاجة أدت إلى اختلاف سماته الفيزيائية
والنفسية، فيرفض الحياة الآلية التي يحيا في ظلها سكان العالم الجديد الشجاع ولا
يؤمن بالمبدأ السائد «الجميع من أجل الجميع».
يصطدم ماركس، الذى هو
بمثابة شخصية ضدية يُعبِّر حتى اسمها الذى يستدعى كارل ماركس عن توجه مضاد للتوحش الرأسماليالاستهلاكي،
بالأنماط المحددة ليكشف من خلال ذلك الاصطدام عن مثالب النظام المصمم بدقة وبراعة.
يريد كل من ماركس وواتسون ألا يصيرا مجرد أكواد في نظام الجماعة العام وأن يحيا
وفقًا لما تمليه عليهما فرديتهما.
يعزز هكسلى عبر منظور
«جون البدائي» حقيقة اللاإنسانية التي يحيا في كنفها العالم الجديد، فجون الذى
يترنم بعبارات حفظها من أعمال شكسبير على مدار حياته، تفجعه حقيقة برود العالم
الجديد الذى يعتبر الأدب من مخلفات العالم القديم ولا داعي لاستدعائها، والذي يؤمن
بأن الكتب قد تجعل الناس يتساءلون عن العالم من حولهم وهو ما يخالف الواجبات التي
يتعين عليهم القيام بها.
هنا يحضر الأدب والفن
المفعمان بالمشاعر الفياضة مقابل التقنية المحكومة بالقواعد الآلية الصارمة، وتبدو
حرارة الحب وحميميتهفي مواجهة العلاقات الجنسية العابرة واللذات الآنية سريعة
الانطفاء، كما تأتى الأمومة التي باتت من ألفاظ العالم القديم المشينة في مواجهة
العلاقات النفعية والاستهلاكية. يصير ما أطلق عليه «بدائية» في مواجهة ما يسمى
«الحضارة»، ويُقيّض للقارئ أن يفكر في المغالطات والتحيزات التي تحملها تلك
الثنائية الزائفة.
لا يزال عمل هكسلى الكلاسيكي
صالحًا حتى اليوم لدفع القراء نحو رؤية التهديدات التي يحملها لنا التقدم التقني
المتعاظم، فمع شمس كل يوم جديد يجد العالم أمامه مفاجأة جديدة من المفاجآت
التقنية، وفى خضم النقاشات المتواترة بشأن التطورات الأخيرة بالذكاء الاصطناعي , والهندسةالبيولوجيةوالسيطرة
على حركة سكان العالم وجمع بياناتهم, وصناعة القتل والإبادةالجماعية بالحروب
والتجويع و الإفقار للشعوب ونشر الأوبئة والتغيرات المناخية وغيرها التي تهدف إلى
تقليل سكان العالم ليسهل التحكم بالبشر والموارد.
لتحميل رواية (عالم جديد شجاع ) من (هنا) او (هنا)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق