|
الصوره من المرابط العراقي |
في خضم اليأس من حالة العراق الجديد في كل النواحي، لازال البعض يخترع الحلول ويُلقيها على عواهنها هكذا. ليستقل الكرد عن العراق ويكونوا دولتهم كي نتخلص من هذه المشكلة. ليذهب الشيعة الى أيران أن كانوا يشعرون أن ذلك سيحقق لهم ذاتهم. ليُقيم السُنة أقليماً خاصاً بهم أو أن يستقلوا أو يلتحقوا بأية دولة عربية من نفس مذهبهم. هذه هي الحلول اليائسة التي نسمعها من بُسطاء القوم ومن بعض المثقفين والسياسيين الذين أدعوا أحتكار التمثيل الطائفي أوالقومي لهذه الجهة أو تلك.
وقد تواترت الانباء مؤخراً عن لقاءاتٍ بين شخصياتٍ عراقية تمثل أحزاب الاسلام السياسي السُني في أسطنبول لتدارس تشكيل مايسمى مرجعية سنية، التي يبدو أنهم يريدونها مركز إفتاء ديني تبيح لهم شرعنة قيام مايسمى (أقليم السُنة)، وأضفاء صفة الضرورة الدينية عليه، ثم مباركة كل الخطوات اللاحقة لذلك. ويبدو أن النائب السابق في برلمان الاحتلال عدنان الدليمي بات يقرع طبول هذا المشروع، كي يجمع الخائفين والطامحين والفاقدين مناصبهم من ساسة الأمس الذين أكلتهم العملية السياسية، فيتوحدوا ويظهروا علينا مرة أخرى طائفيين حتى النخاع بدون تلك الاقنعة الوطنية التي كانوا يرتدونها، والشعارات البراقة التي كانت تلوكها السنتهم عن الوطن الواحد، عندما كانوا نواب ووزراء ومسؤولين كبار في حكومات الاحتلال بعد العام 2003.
ولعل الاكثر غرابة في هذا المنهج هو التحاق بعض المُعممين من رجال الدين به، والذين مافتئوا يوجهون سهام النقد اللاذع الى الطائفيين من الفريق المقابل عبر مقالاتهم ولقاءاتهم التلفازية، وسبق لهم أن أقاموا الدنيا ولم يقعدوها عندما طالب أولئك بقيام أقليم الجنوب سابقا. وأذا كان هبوب رياح ديمقراطية الغزو قد أصاب البعض بأعراض الخرف وسرطان الطائفية المقيته، وباتوا يهذون بأسم الاقاليم كلما تقاطعت مصالحهم الشخصية مع مصالح الشركاء الآخرين، فإن الحقائق التي يجب أن يعرفها هؤلاء هو أن شعب العراق ليس وليد اللحظة قد تم جمعه على عجل من أصقاع شتى فظهرت المشاكل بينهم. ثم من قال بأن الحل الامثل هو توزيع الخارطة الجغرافية للوطن على دول الجوار أو الهروب بهذا الجزء أو ذاك كي يأُكل بعيدا عن الآخرين؟ يقينا أن هؤلاء يعانون من أمية الوعي السياسي لذلك لن يدركوا جيدا بأن التقسيم ليس هو الحل، بل هو حالة جديدة مختلفة في جميع السياقات عن حالة الوحدة المجتمعية، وهو مصدر أضطراب دائم لانتاج مشاكل جديدة أكبر وأخطر مما كان. نعم انه شفاء لغليل البعض لكن من قال بأن الاوطان تبنى بالعواطف وأشباع الاحقاد، وأن السلم الاهلي ياتي بالتشظي الى كيانات أصغر؟
لقد أنقسمت السودان الى شطرين كي يشفي هذا الطرف غليله من الطرف الاخر، فأنفجرت مشاكل أنابيب النفط الماره عبر أراضي الدولتين، وبات عُمال الجنوب الذين كانوا يعملون في الشمال أجانب يتطلب منهم الرحيل عن الدولة الجديدة. كما أستمرت المعارك المسلحة على الاراضي المتنازع عليها. كذلك هو الحال في دول أوروبا الشرقية التي تفتّت الى كيانات مستقلة، حيث لازالت المشاكل السياسية والاقتصادية والادارية بين دول يوغسلافيا السابقة حتى اليوم بعد مرور أكثر من عشرين عام. كذلك بين أرمينيا والاذربيجان في أسيا الوسطى. بل أن بعض دول أوروبا الشرقية التي أنقسمت عادت الى الدخول في وحدة أقتصادية ضمن نطاق الاتحاد الاوروبي، كي تستطيع التغلب على المشاكل التي واجهتها نتيجة التفتيت. فهل سيكون (أقليم السُنة) بمنأى عن كل ذلك؟ أم أنهُ محطة اخرى من محطات النفاق السياسي، الذي دأب أصحاب هذا المشروع على أختراعها لنا كما سبق على شاكلة جبهة التوافق (السنية)، التي شرعنت الدستور والاتفاقية الامنية مع المحتل وطعنت المقاومة في الظهر، ثم لم يكسب منها مايسمى (المكون السُني) غير الوعود الجوفاء التي ذهبت أدراج الرياح، ثم عادت لتغير جلدها الى ماسُمي (القائمة العراقية) التي هي الاخرى لم تسمن وعودها من جوع، ولم تؤمن أحد من خوف.
أن اللهاث خلف مشروع المرجعية الدينية السُنية هو أنسياق تام خلف ملامح المشروع الذي طرحه الحاكم الامريكي (بريمر) بتمويه شديد، عندما قال بأن تعامله مع أحزاب الاسلام السياسي الشيعي كان أسهل بكثير من أحزاب الاسلام السياسي السني، كون الطرف الاول له عنوان معروف يمكن اخذ القرار السياسي منه، ويقصد منه المرجعية الدينية التي يفتقر اليها الطرف الثاني.
لكن الذين أتبعوا نصيحة بريمر من أصحاب مشروع المرجعية السُنية، لم يقرأوا جيدا ماخلف سطور ذلك التصريح. أنه دعوة واضحة الى زيادة التشطير والتشظي داخل البلد الواحد كي يصبح المجتمع مرهوناً بقرارات دينية سياسية وسياسية دينية، من مراكز قرار متعددة ومختلفة حتى يبات الجميع بحاجة ماسة الى الضامن الدولي لموازنة المعادلات الداخلية في المجتمع، ولتنفيس الاحتقانات التي ستتبع ذلك. وفي هذا السلوك سيبقى المحتل يقدّم خدمات مابعد الغزو والاحتلال الى ما لانهاية وهو الهدف الرئيس من مشروع الاحتلال. كما أن شبح الفوضى سيبقى ماثلا في المجتمع عندما يسود أعتقاد لدى الاطراف كافة، بأنها كي تحافظ على وجودها لابد من أن تقيم منظومات أجتماعية ودينية على غرار ما لدى الاخر، مما يُدخل المجتمع في حالة سباق تسلح في المنظومات، يوصله الى نتيجة واحدة هي رفض العيش في النموذج السلمي القديم الذي عاش في ظله طوال الاف السنين.
أن أخطر ما في الحالة العراقية الراهنة أنها تقوم على أسس الطموح التكتيكي للاحزاب والحركات السياسية الموجودة في المشهد السياسي، وليس على المنطق العام لتطور العملية التاريخية التي تقود الى بناء دولة حقيقية كما هو متعارف عليه في التراث الفكري السياسي. أي أن جميع القوى ترى أن التكيف يجب أن يطرأ على هوية الدولة ومستقبلها لصالح الاحزاب حتى وأن كان يهدد السلم الاهلي في الوطن وليس العكس. لذلك سنبقى نرى ولادة مشاريع سياسية ودينية وطائفية مشبوهه تعلوا من شان القوى السياسية وتحط من قدر الوطن والمواطنة.
القدس العربي
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق