قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الاثنين، 2 سبتمبر 2024

ما الجديد الذي اكتشفه السفير البريطاني في بغداد؟

 ما الجديد الذي اكتشفه السفير البريطاني في بغداد؟

مثنى عبدالله    وجهات نظلر


استدعت السلطات العراقية الأسبوع الماضي القائمة بأعمال السفارة البريطانية في بغداد وسلمتها مذكرة احتجاج، على خلفية تصريحات للسفير البريطاني ستيفن هيتشن، عدّتها تدخلا في الشأن الداخلي العراقي، وخروجا عن المهام الدبلوماسية المُناطة به، وأنها عكست صورة قاتمة عن العراق، حسب بيان وزارة الخارجية العراقية.

وكان السفير المذكور قد تحدث إلى إحدى الشبكات الإعلامية المحلية، تطرق إلى دور الميليشيات والسلاح المُنفلت، وتأثير كل ذلك على استقرار البلاد، وانعكاسه على صورة العراق في الخارج. فهل كان اكتشاف السفير ستيفن لدور الميلشيات في العراق «براءة اختراع» جديدة تُسجّل باسمه؟
بداية يجد المراقب أن كل تصريحات السفير كانت حول دور الميلشيات في التهديد الخارجي، وليس التهديد الداخلي لحياة ملايين المواطنين العراقيين. يقول السفير (أصبحت الآن الميليشيات خارج نطاق الدولة.. مشكلة دولية قد تورطكم في مشاكل دولية أو حتى في حرب). ويستطرد بأن (هنالك تهديدات على البريطانيين وأنا شخصيا أتعرض لتهديدات إذ إن هنالك ميليشيات لا تحبنا) ثم يقول (إنه من الصعب أن أشجع أقاربي على زيارة العراق في ظل التهديدات والانفلات الأمني وعدم السيطرة على الأسلحة المنفلتة).
كما يتبين هاجسه الكبير في مسألة عدم الحصول على فرص استثمارية للشركات البريطانية، وليس ما يعانيه العراقيون من اضطهاد على يد الميليشيات فيقول (يصعب على الشركات أن تستثمر أموالها في بلد إذا كان هنالك تهديد لموظفيها من قبل الميلشيات).

هنالك ميلشيات تخطف الدولة وتتشكل جميع السلطات منها فتصبح الدولة ملكها. وفي العراق هناك واقع يعرفه الغرب وهو أن الميلشيات هي من تشكل الحكومة

يبدو واضحا أن السفير في كل كلامه هذا إنما يحاول إبعاد حكومة بلاده عن المسؤولية القانونية والسياسية والأخلاقية في هذا الملف. فلقد شاركت بريطانيا الولايات المتحدة في غزو العراق، وكانت الحليف الرئيسي لها، وكلاهما غضا النظر عن تنامي دور الميلشيات، بل في أحيان كثيرة استثمرا في هذا الملف، لأن المطلوب كان إشغال الرأي العام العراقي بالأمن الشخصي لكل فرد كي لا يبرز الاهتمام الوطني بالقضية العراقية. ولأن الميلشيات استهلت وجودها على الساحة العراقية بالقتل الطائفي، فقد وجدت بريطانيا والولايات المتحدة أن ذلك يجري في صالحهما، مما ساهم في تغوّل دورها في الواقع العراقي.
وكما إن التغاضي عن دور الميلشيات آنذاك كان فيه تغليب للأمن القومي البريطاني والأمريكي على الأمن القومي العراقي، نجد في ما يقوله السفير ستيفن اليوم من أن الميلشيات أصبحت الآن مشكلة دولية، إنما فيه أيضا تغليب للمصلحة الخارجية على مصلحة العراق وعلى السلم الأهلي فيه. فهو يعلم جيدا أن هذه الميلشيات التي يتحدث عن خطورة دورها إنما هي اليوم تشكل العصب الرئيسي للسلطات في البلاد بمباركة الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة وبريطانيا.
وعلى الرغم من كل الجرائم التي تمارسها تلك المليشيات بحق العراقيين لا نسمع من سلطات بلاده أي صوت يندد بذلك، لكن صوته يرتفع مُجاهرا بالتحذير من دورها الدولي، بعد أن أصبحت هذه الميلشيات تشكل تهديدا لمصالح بلاده وحلفائها.
لقد شغل السفير البريطاني ستيفن هيتشن منصبه في بغداد في العام 2019. و تعكس خلفيته الأمنية اهتمام دولته بالوضع الأمني في العراق، ومحاولة فهم أدوار القوى الفاعلة في الساحة. وغالبا ما تُرسل الدول الكُبرى ممثليها الدبلوماسيين من الخلفيات الأمنية إلى الدول المضطربة وغير المستقرة، وتعزز من وجود محطاتها الاستخباراتية في تلك الدول بهدف جمع المعلومات عن الرؤوس الكبيرة فيها، ودراسة إمكانية الاستثمار فيهم.
ويبدو أن خلفيّة السفير البريطاني في بغداد مناسبة لهذا العمل. فالرجل قد شغل منصب مدير مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية البريطانية سابقا، ثم مديرا للأمن القومي، فمسؤولا لتحليل شؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما ترأس الفريق السياسي المعني بالشؤون الإيرانية. وقبل كل هذه المناصب والمسؤوليات كان قد عمل في وزارة الدفاع البريطانية في العام 1996، قبل أن ينتقل للسلك الدبلوماسي سكرتيرا أول في القاهرة من العام 2004 حتى العام 2006.
يقينا أن السفير البريطاني هذا قد قرأ سيرة حياة وسلوك مواطنته السيدة البريطانية غيرترود بيل (المس بيل) الباحثة وعالمة الآثار والمستشارة لدى المندوب السامي البريطاني في بغداد، في عشرينيات القرن المنصرم، التي وُصفت آنذاك بأنها صانعة السياسة والسياسيين في العراق، بعد أن ولجت إلى قصور المتنفذين في المجتمع، وحضرت دواوين ومجالس النخب العلمية والثقافية والدينية وزعماء وشيوخ العشائر فيه. ولم يكن سلوكها هذا من أجل تعزيز الروابط الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والثقافية بين العراق وبريطانيا، كما هي الغاية من العمل الدبلوماسي، الذي يُوصف بأنه فن ممارسة العلاقات الدولية وتصريف شؤون البلاد الخارجية وتجنب الحروب والنزاعات وإبرام المعاهدات وإدامة مصالح الرعايا. فبريطانيا لم تكن بحاجة إلى كل ذلك لأنها كانت دولة انتداب. بل كان الهدف صُنع سياسة وساسة يعملون من أجل تحقيق مصالح بريطانيا في العراق وحسب.
فالمُراقب والمتتبع لتحركات السفير البريطاني في بغداد، يرى، وبصورة واضحة، حرصه على تقديم صورة مشرقة عن العراق في مناسبات مختلفة. وكان يتجول في أماكن عديدة في العاصمة العراقية، ويلتقي بشخصيات سياسية ودينية وشعبية، ويشترك في برامج حوارية سياسية وكوميدية واجتماعية، ويُعلّق على أحداث كروية. بل كانت قمة تحركاته هذه حضوره مجلس عزاء حُسيني في بغداد يقيمه زعيم تيار سياسي عراقي. وفي غمرة كل هذه الحرية في التحركات والنشاطات التي يخالف في بعضها الأعراف الدبلوماسية، كان السفير يبدو مطمئنا لما يقوم به، ربما لأن غالبية الطبقة السياسية هم من مواطنيه بسبب حملهم الجنسية البريطانية.
لكن يبدو أن السلطة في بغداد التي كانت مُغمضة الأعيُن طوال الوقت عن تحركات السفير وتجاوزه الأعراف الدبلوماسية في تحركاته، والنفوس مطمئنة إلى ما يقوم به من دعاية سياسية وأمنية لها قد غاضها حديثه الأخير، فصبت جام غضبها عليه بالاحتجاج الرسمي على تصريحاته، وهو مؤشر على أن الرد كان غطاء حكوميا لهذه الميليشيات. ولطالما مارست كل الحكومات العراقية منذ العام 2005 وحتى اليوم هذا الدور. ولا غرابة في ذلك أبدا فعند تشكيل الحكومة الحالية قال أحد زعماء الميلشيات، إن الحكومة الحالية هي حكومتهم وأن رئيس الوزراء ليس سوى موظف فيها.
إن من الطبيعي أن يكون للدول جيوشا تحفظ أمنها وسيادتها واستقلالها، لكن الواقع السياسي يقول إن هنالك جيوشا تستولي على الدولة لتحمي مصالحها بها فتصبح أداة بيدها. وفي الواقع السياسي أيضا نجد أن هنالك دولا لها ميلشيات وأذرعا خارجية تُحرّك بها مصالحها، لكننا أيضا نجد أن هنالك ميلشيات تخطف الدولة وتتشكل جميع السلطات منها فتصبح الدولة ملكها. وفي العراق هناك واقع يعرفه الغرب خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، وهو أن الميلشيات هي من تشكل الحكومة فيه.

نشر المقال هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق