بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
|
د. ناجي صبري آخر وزير خارجية للعراق قبل الاحتلال
يكشف أسرار الحصار والاحتلال (2)؛
مليون و720 ألف عراقي قتلوا تحت الحصار
|
* مليون و720 ألف عراقي توفوا تحت الحصار من 91 حتى 2003
* قذائف ألقت 3 آلاف طن من اليورانيوم المنضب تسببت في سرطنة أجيال من العراقيين
* التأثيرات الإشعاعية لقذائف اليوراينوم ارتدت على الجنود الأمريكان فيما يعرف بـ"متلازمة حرب الخليج"
* تعاون العراق مع المفتشين كان بنسبة 97% لكنها لم ترق لواشنطن فأطلقت "ثعلب الصحراء"
* مجلس الأمن اتخذ تدابير تعسفية انتقامية بالقرار 687 كشرط لاستمرار وقف النار
* 39 مليار دولار عائدات "النفط مقابل الغذاء" لم يحصل العراق منها إلا على 9،9 مليار
* واشنطن اعترفت علناً بأن فرق التفتيش كان يقودها ويشارك فيها جواسيس أمريكيون وبريطانيون
* حصول العراق على اليورانيوم من النيجر كذبة مفضوحة لا يصدقها طفل روجتها المخابرات الأمريكية
* بتلر كان يرفع تقاريره عن نتائج التفتيش للبيت الأبيض وليس لمجلس الأمن
* العراقيون قاموا الحصار بإرادة حديدية وجهود جبارة وأعادوا ما تهدم في حرب 91
* الحصول على اليورانيوم من النيجر كذبة روجتها أمريكا وبريطانيا اعتماداً على وثيقة مزورة
* أمريكا وبريطانيا نفذتا عملية واسعة لإنهاك العراق عبر عدة مسارات تخريبية خانقة
* اتفقنا مع الأمم المتحدة على آلية لتفتيش المكاتب والقصور الرئاسية لكن أفسدتها المخابرات الأمريكية
* شرفاء أمميون -غير عرب- عارضوا نهج المفتشين وتعسف بلكس والبرادعي
* لجنة العقوبات منعت على العراق استيراد القلم الرصاص بحجة إمكانية إذابته وتحويله سلاحاً
* "النفط مقابل الغذاء" كان هدراً لأموال العراق وإبادة جماعية للشعب باعتراف مدير البرنامج
* استقطاعات الجهات غير العراقية أضعاف ما حصل عليه العراق من النفط مقابل الغذاء
|
شبكة البصرة
|
أدار اللقاء: جابر الحرمي
أعده للنشر: طه حسين - عبد الحميد قطب
|
**بعد مارس 1991 وإخماد التمرد، لماذا استمرت وتيرة استهداف العراق؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: كان العراق قد أعلن رغبته في سحب قواته من الكويت يوم 15/2/1991 بشروط، ثم تخلى عنها في يوم 21 شباط/فبراير، وفي يوم 27 أعلن عن سحبها من الكويت. وأثناء انسحاب القوات العراقية هاجمتها الطائرات الأمريكية والبريطانية وقتلت المئات من المدنيين والعسكريين ودمرت العربات والأعتدة. والذين استطاعوا الوصول إلى الأراضي العراقية تولى إرهابيو حرس الثورة الإيرانية مهاجتهم في جنوب العراق. وألقى الرئيس الأميركي جورج بوش خطابا يوم وقف إطلاق النار 28/2/1991 حدد فيه شروطا على العراق وصدر قرار مجلس الأمن رقم 686 يوم 2/3/1991، متضمنا هذه الشروط، متجاهلا انسحاب العراق من الكويت وموافقة العراق على قرارات مجلس الأمن. وبينما باشر العراق فورا بتنفيذ ما طلب منه في القرار، جمد مجلس الأمن حالة الحرب مؤقتا، لكنه أبقاها قائمة، وكان يبيت النية لإصدار قرار جديد خطير يكبل العراق ويكون بمثابة معاهدة استسلام يفرضها المنتصر الأميركي على دولة العراق التي خسرت الحرب. وصدر هذا القرار بالرقم 687 يوم 3/4/1991، وهو قرار خطير ينتهك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة في عدة أوجه. وهو أطول قرار في تاريخ مجلس الأمن ويتألف من ديباجة من 26 فقرة تليها 33 فقرة عاملة. طلب القرار الذي صدر تحت الفصل السابع من الميثاق العراق لتدمير ما ادعى مجلس الأمن وجوده من أسلحة دمار شامل وصواريخ يزيد مداها على 150 كيلومترا، وهي أسلحة تقليدية، لكنها شملت بالتدمير من أجل إسرائيل ولإضعاف قدرات العراق العسكرية التقليدية في مواجهة الخطرين الإسرائيلي والإيراني. وأن يجري هذا التدمير تحت إشراف لجنة تفتيش خاصة شكلها وربطها به وأعطاها صلاحيات مطلقة تتجاوز على سيادة العراق واستقلاله. وجعل رضى هذه اللجنة بما يدمره العراق وبما ينفذه من مهمات في إطار تفويضها الخاص بأسلحة العراق شرطا وحيدا لاعتراف مجلس الأمن بأي إجراءات ذات صلة يتخذها العراق.
تدابير انتقامية
وتضمن هذا القرار الذي يعد وثيقة تاريخية لا سابق لها في الأمم المتحدة، إجراءات تعسفية أخرى مثل فرض تخطيط الحدود بين العراق والكويت، خلافا للممارسات المتبعة في القانون الدولي وفرض نظام ومنظومة لنظر مطالبات التعويض عما تسبب به التدخل العسكري العراقي في الكويت من أضرار للمؤسسات الكويتية ولأطراف ثالثة، حيث منح نفسه سلطة قضائية لنظر المطالبات لا يمتلكها ولا يفوضه إياها الميثاق، وبالتالي فرض التسييس على قضية قانونية بما يلحق المزيد من الضرر بالعراق. ثم قام المجلس بتغيير الهدف من فرض العقوبات أو الجزاءات على العراق بموجب قراره 661 في 6/8/1990، مما دفع العراق للقبول بتنفيذ الفقرة الثانية من قراره 660 في 2/8/1990، وهي الانسحاب بدون قيد أوشرط من الكويت إلى هدف جديد هو تنفيذ الشرط الجديد، وهو التخلص مما أسماه أسلحة الدمار الشامل والصواريخ التي يزيد مداها عن 150 كيلومترا وجميع ما يتصل بها من معدات ومخزونات، وذلك بعد أن أوفى العراق بالتزاماته بموجب القرار المذكور وسحب قواته من الكويت في يوم 27/2/1991. وجعل رفع الحصار أو تخفيفه والسماح للعراق بتصدير نفطه رهنا بموافقة المفتشين أولا ومجلس الأمن ثانيا بإجراءات العراق للتخلص من الأسلحة أو المواد المحظورة.
وجعل مجلس الأمن قبول العراق بجميع ما فرضه في القرار من إجراءات وتدابير تعسفية انتقامية لا إنسانية ولا قانونية شرطا لاستمرار وقف إطلاق النار. وبخلاف ذلك، أعلن القرار في الفقرة 33 بكل وضوح أن الحرب المدمرة ستستأنف. وكانت آلاف المنشآت معطلة وكل الحياة المدنية خربت والجروح تنتشر في كل الجسد العراقي الذي لم تجف دماؤه بعد. فلم يكن أمام العراق إلا القبول بهذا القرار على مضض لدفع ما هو أعظم، أي استئناف الحرب التدميرية من جديد.
ورغم أن الحصار كان شاملا وقاسيا والخراب والتدمير واسعين ومنتشرين في كل مكان، إلا أن الدولة العراقية لم تستسلم. فأعاد العراقيون بناء كل ما تهدم في حرب 1991 من منشآت ومرافق حيوية أساسية، مثل الكهرباء ومصافي المياه والنفط والكليات والمدارس ومراكز الاتصالات وطرق المواصلات والجسور في 6 أشهر بعملية واسعة لإعادة بناء ما هدمته القوات المعتدية في الحرب، وكانت العملية عراقية خالصة خبرة وكوادرَ وأجهزة.
وقد سعى العراق لتنفيذ قرار مجلس الأمن 687 الملزم، واجتهدت الجهات المشرفة على التصنيع العسكري للبدء ببعض الإجراءات لتنفيذه قبل وصول مفتشي الأسلحة الدوليين بهدف التخفيف من أعباء التفتيش واختصار الوقت المطلوب للوصول إلى مرحلة رفع الحصار اللاإنساني الخانق على سكان العراق. وخلافا لما نص عليه القرار بأن يكون التخلص من الأسلحة والبرامج المحظورة تحت إشراف المفتشين، قامت هذه الجهات العراقية بتدمير الصواريخ بعيدة المدى التي يزيد مداها على 150 كيلومترا وبعض حلقات البرامج التسليحية غير المكتملة. فاعتبر المفتشون ذلك مخالفة لقرار مجلس الأمن وعملا متعمدا من العراق لإخفاء حقيقة برامجه التسليحية، مما زادهم تعنتا وقدم لهم وللأجهزة الأميركية والبريطانية الساندة لهم ذرائع إضافية لإطالة آماد التفتيش.
إنهاك العراق
وقد نفذت الولايات المتحدة وبريطانيا عملية واسعة لإنهاك العراق وإضعافه بعد حرب 1991 عبر عدة مسارات، فإضافة إلى استمرار الحصار الخانق، بدأ المفتشون، بناء على توجيهات الدوائر الرسمية في الولايات المتحدة وبريطانيا، بعملية تخريب جديدة لضرب المراكز العلمية والصناعية العراقية. ورغم أن الحرب الثلاثينية توقفت في 28 شباط/فبراير عام 1991، إلا أن طائرات أميركا وحليفاتها بدأت منذ اليوم الأول من آذار/مارس تخترق الأجواء العراقية في حرب استنزاف واسعة استمرت حتى يوم الغزو عام 2003.
كان العراق دولة قوية وذات قيادة قوية، فصمم العراقيون على مقاومة هذا المخطط بإرادة حديدية وجهود جبارة. وحرصت الدولة أولا على تأمين سلة غذاء كافية، ولو بالحد الأدنى، لمنع حدوث مجاعة. وأبدع في هذا المجال الدكتور محمد مهدي صالح وزير التجارة الذي وضع نظاما دقيقا عادلا وشاملا لتوزيع وإيصال الحصص التموينية لكل عراقي ولكل مقيم في العراق، حيثما كان في البلاد. وقد كافأه المحتلون باعتقاله بدون أي تهمة أو محاكمة لمدة تسع سنوات. واستطاعت الأجهزة الأمنية أن تفرض الأمن والنظام وتوفر الأمان للناس، كما تمكنت دوائر الدولة من التكيف مع الوضع الجديد وتسيير أمور الناس رغم كل المصاعب الناجمة عن الحصار وضغوط حرب الاستنزاف الأميركية البريطانية.
أجندة فرق التفتيش
**ماذا عن لجان التفتيش وما كانت تحمله من أجندة لوضع العراق تحت الوصاية؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: بدأت فرق التفتيش تدمر المنشآت العراقية العلمية والصناعية المتصلة ببرامج التسليح، وتلك التي لا تتصل مباشرة بهذه البرامج. فبعد أن دمرت فرق التفتيش جميع الأسلحة الكيماوية التي سبق أن أعلن عنها العراق قبل حرب 1991، وأنهت برنامجه النووي بنقل بضع جرامات من البلوتونيوم، كان علماء العراق تمكنوا من تخصيبها، إلى خارج العراق وتدمير كل المنشآت ذات الصلة، وبعد تسلمهم أطنانا من الوثائق عن البرامج العراقية، انتقلت هذه الفرق إلى المطالبة عام 1996 بتفتيش المواقع الأمنية والعسكرية، ومنها انتقلت إلى المطالبة بتفتيش مكاتب الرئاسة وقصور الضيافة الرئاسية في النصف الثاني من عام 1977. ولم تُسوَّ الأزمةُ إلا بعد زيارة قام بها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان لبغداد في شباط/فبراير 1998 وعقده اتفاقا مع الجهات العراقية على آلية معينة لترتيب زيارة المفتشين لمكاتب الرئاسة وقصور الضيافة الرئاسية. هكذا كانت الأزمات وحالات التوتر الشديدة تكتنفان علاقة المفتشين مع الجهات العراقية نتيجة تنكر مفتشي ومسؤولي لجنة التفتيش الخاصة والوكالة الدولية للطاقة الذرية لحقيقة تعاون العراق وتنفيذه الكامل لكل ما فرضته قرارات مجلس الأمن التعسفية وتعمدهم اختلاق الأزمات والتجسس على أمن العراق وعلى تحركات رئيس الدولة واستفزاز العراقيين جهاتٍ رسميةً ومواطنين.
كان عدد كبير من فرق التفتيش يقودها أو يشارك فيها جواسيس اميركيون وبريطانيون، مثل ديفد كاي رئيس فريق الوكالة الدولية للطاقة الذرية ورجرد دولفر نائب رئيس اللجنة الخاصة للمفتشين وغيرهما. وكان العراق يشخصهم ويعلن على الملأ شكوكه في هوياتهم. واعترفت الادارة الأميركية بعد الاحتلال الاميركي بذلك علنا، وقالت ان هذين المسؤولين الكبيرين عضوان في المخابرات الأميركية.
واستمرت هذه الحالة حتى منتصف كانون أول/ديسمبر عام 1998 حينما سحب الاسترالي رجرد بتلر رئيس اللجنة الخاصة فرق التفتيش من العراق. ورفع رسالة، ليس لمجلس الأمن مرجعه الرسمي، بل للبيت الأبيض مرجعه الحقيقي، شكى فيها من عدم تعاون العراق وانتهاكه قرارات مجلس الأمن وتهديده السلم والأمن الدوليين، وذلك بعد أن اجرت 300 عملية تفتيش لمنشآت عراقية وجرت كلها بدون أي مشكلة، باستثناء 5 عمليات تفتيش لم ترق للمفتشين. أي ان نسبة التعاون كانت أكثر من 97 بالمائة ونسبة عدم التعاون كانت 2 ونصف بالمائة فقط، لو افترضنا ان شكواهم في الخمس عمليات كانت حقيقية وليست مفتعلة!
وكانت تلك الرسالة ذريعة قدمتها لجنة التفتيش للادارة الاميركية لتشن هي وحليفتها بريطانيا، بعد خروج المفتشين، ببضعة أيام عدوانا جويا وصاروخيا على بغداد يوم 18 كانون أول/ديسمبر استمر 3 أيام وأطلقتا فيه أكثر من 300 صاروخ كروز على العاصمة العراقية لمعاقبته على (عدم التعاون)! وأطلقتا على هذه العملية تسمية (ثعلب الصحراء).
تحريض علني
وبعد العدوان قرر العراق عدم السماح بعودة المفتشين بعد ان وصل السيل الزبى في ممارساتهم المصممة لإلحاق أشد اشكال الضرر بشعب العراق، وآخرها تحريضهم علنا الادارة الاميركية للعدوان على بغداد وانسحابهم لفسح المجال لهذا العدوان الوحشي. وحينما كانت فرق التفتيش تصل إلى نقطة الصفر في تفتيشها وبحثها عن مواد محظورة وتضطر لقول الحقيقة ومفادها عدم العثور على مثل هذه المواد كانت تعمد إلى ابقاء الأبواب مفتوحة أمام الشك بنوايا العراق وباحتمال اخفاء المواد المحظورة بالقول: "لم نجد شيئا لكننا لا نستطيع ان نقول انه لم يبق شيء محظور في العراق ونحتاج وقتا اطول وتعاونا اكثر من العراق لكي نصل إلى استنتاج نهائي بتنفيذ مهمات نزع أسلحة العراق"!
وهذا المنطق الأعوج هو ما يسمح للولايات المتحدة وبريطانيا للتذرع به لمواصلة خنق العراقيين بالحصار ومواصلة الاعتداءات الحربية عليهم.
كذبة مفضوحة
** كيف كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية سيفا مسلطا على العراق في تلك الفترة رغم أن من يرأسها كان عربيا أي البرادعي؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: البرنامج النووي كان أول برنامج يصل إلى نقطة الصفر، ففي وقت مبكر من عام 1992 أعلن العالم الايطالي زفريرو ان البرنامج النووي العراقي قد انتهى تماما ولم يعد فيه شيء ذو قيمة. لكن ادارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية استمرت في عهد هانز بليكس ومن بعده محمد البرادعي في انكار هذه الحقيقة بما يبقي الباب مفتوحا امام الولايات المتحدة وبريطانيا لإبقاء الحصار الظالم على شعب العراق ولاستمرار الاعتداءات اليومية على الأراضي العراقية. وكان سلوك البرادعي في ذلك الاتجاه متناغما مع الموقف الاميركي. فقد بقيت الوكالة في عهده تحقق وتسوف وتلوك في كذبتي استيراد العراق انابيب للتخصيب ويورانيوم من النيجر المفضوحتين رغم اتضاح التزوير في كليهما.
** من كان خلف هذه الكذبة؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: المخابرات الاميركية دبرتها من خلال عميل لها في ايطاليا. وكانت الوثيقة التي استندت إليها مزورة بطريقة بدائية تدلل على ان المزور الذي أعدها من الهواة المبتدئين وليس محترفا، وكانت معدة على عجل لاختلاق ذريعة تستخدمها الولايات المتحدة وبريطانيا في حملتهما لحشد التأييد لمشروعهما بغزو العراق واحتلاله. وقد بقيت الوكالة الدولية تتابع الجهات العراقية بالتحقيق والاستجواب حتى استغرق التحقيق عدة أشهر والناس تموت بفعل الحصار، وكل تأخير في البت بهذه الاكاذيب وتجاوزها يكون على حساب مئات الارواح من العراقيين. وقد بلغ عدد العراقيين الذين توفوا بسبب الامراض الفتاكة الناتجة عن الحصار حتى نهاية كانون الثاني/يناير 2003 حسب احصائية وزارة الصحة مليونا و720 الفا. فكان كل تأخير يعني مزيدا من الوفيات.
شرفاء أمميون
** ألم تقدموا على التواصل المباشر مع البرادعي خاصة أنه مسؤول عربي؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: لم يكن هذا الشخص يتصرف معنا تصرفا يختلف عن تصرف هانز بلكس او أي مسؤول آخر في لجان التفتيش. وكلهم بالطبع كانوا ينفذون الأجندة الاميركية. بينما كان هناك عدد من المنصفين من بين المسؤولين الأممين (ولم يكونوا عربا ولا مسلمين) الذين انتقدوا بكل ضراوة الممارسات التعسفية لمجلس الأمن ازاء العراق ثم استقالوا احتجاجا على هذا الظلم مثل الايرلندي دينيس هاليداي والالماني هانز فون سبونيك وكلاهما كان بمنصب مساعد الامين العام للأمم المتحدة لشؤون ما سمي بالبرنامج الانساني في العراق. كما استقالت لسبب مماثل ايضا الالمانية غوتهارت مسؤولة برنامج منظمة الغذاء الدولي في العراق.
** هل نجحت المخابرات في اختراق المجتمع العراقي في تلك الفترة؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: لم يستطيعوا ان يجدوا لهم موطئ قدم في الدولة العراقية. وكان الرفض شاملا، والحقيقة اننا كنا نعاني من شدة المزاج الشعبي الرافض لأي تعامل مع الامم المتحدة بسبب تصرفات لجان التفتيش التي أدت إلى تفاقم الضرر الناتج عن اجراءات الحصار فضلا عن استفزازاتهم لمشاعر العراقيين وتعمدهم خدمة خطط العدوان العسكري على العراق. وكانت هذه الحالة تنعكس حتى على سلوك الرسميين وعلى أعضاء القيادة الذين هم من أبناء الشعب ويحسوا بما يحس به ويعانون مما يعاني منه.
لجنة 661
** عودة لبرنامج النفط مقابل الغذاء كم حجم الفساد الذي رصدتموه في البرنامج؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: البرنامج الذي سمي بالبرنامج الانساني لم يكن انسانيا تجاه شعب العراق وإنما انساني من حيث توفيره مبالغ طائلة من العراق لتمويل الأمم المتحدة. كان العراق يستورد مايحتاجه عن طريق لجنة 661 التي شكلت وفق قرار 661 الذي فرض مجلس الأمن بموجبه الحصار اللاانساني على العراق. واللجنة تضم اعضاء مجلس الأمن. كان العراق يحدد البضاعة المسموح بشرائها ومنشأها ويقدم طلبا لهذه اللجنة. فاذا وافقت تطلب من بنك فرنسي في اميركا تودع فيه عائدات العراق من بيعه النفط ان يدفع للجهة المصدرة. وفي حالة رفض أي عضو او شكه في البضاعة واستخدامها تلغ العملية او تعلق. وكان المندوبان الاميركي والبريطاني تعمدان تأخير الموافقة على الطلبات ويعلقان عددا كبيرا من طلبات العراق تحت ذرائع سخيفة شتى. أي ان عملية توريد المواد الانسانية في الرنامج المسمى بالانساني تخضع لأهواء وسياسة أعضاء لجنة 661 وخصوصا مندوبي اميركا وبريطانيا وبعض حلفائهما.
وكانت بعثات اجهزة الامم المتحدة في العراق او المتصلة بالقضية العراقية تعيش على حساب العراق وتمول كل مصروفاتها من اموال الشعب العراقي. وكانت تبذخ وتشغل افواجا من الموظفين وتستبدل الاجهزة الحديثة بأخرى تستغني عنها باعادتها إلى الخارج. وكنا نقول لمسؤولي الأمم المتحدة هل هذا برنامج انساني لصالح العراق أو لصالح الأمم المتحدة وموظفيها؟
** كم كان يستفيد منه العراق؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: تشير الاحصائيات إلى أن عائدات تصدير النفط العراقي بموجب برنامج النفط مقابل الغذاء من أواسط عام 1996 حتى 14 شباط/فبراير عام 2001 كانت اكثر من 39 مليار دولار حصل منها العراق على بضائع وتجهيزات بلغت 9،9 مليار دولار واقتطعت الامم المتحدة نحو 13 مليارا ومبالغ للتعويضات، واحتجز مبلغ 11،4 مليار لدى البنك الفرنسي قيمة عقود معلقة بقرارات من لجنة 661. ووصل تعسف هذه اللجنة حدا انها منعت توريد أقلام الرصاص للمدارس العراقية انه يمكن للعراقيين ان يستخرجوا منه الرصاص ويذيبوه ويستخدموه في صناعة الاسلحة. كما منعت توريد سيارات اسعاف للمستشفيات العراقية بحجة انها يمكن ان تتحول إلى سيارات عسكرية. وهكذا كانوا يبررون منع البضائع المدنية بحجة الاستخدام المزدوج.
سرطنة المواطن
** تكلمت عن استهداف العراق كدولة.. هل لك أن تطلعنا كيف كان يستهدف المواطن العراقي في ظل تقارير تتحدث عن تعمد سرطنته ومنع الأدوية عنه خلال برنامج النفط مقابل الغذاء؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: أولا في حرب عام 1991، ضربوا الأراضي العراقية بـ 88 ألف طن من المتفجرات، بما يعادل 7 قنابل نووية من التي ضربت بها الولايات المتحدة هيروشيما وناغازاكي في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية. ومن هذه الكمية 3 آلاف طن من قذائف اليورانيوم المنضب التي تستخدم في اختراق الآليات المدرعة والحصون. وحينما ترتطم قذيفة "اليورانيوم المنضب" بالهدف ينطلق منها غبار "سُمي" وإشعاع خطير ملوث للبيئة. وهذا ما تسبب في انتشار الاصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية والوفيات خصوصا في جنوب العراق.
الأمريكيون والبريطانيون من جانبهم ينفون حتى الآن الضرر البالغ الذي لحق بصحة الإنسان العراقي بسبب هذه القذائف، برغم ان التأثيرات السمية والاشعاعية لهذه القذائف قد ارتدت على جنودهم، الذين شاركوا في عمليات على الأرض، واصيبوا بأمراض مهلكة سميت فيما بعد بـ "متلازمة حرب الخليج".
كما كشفت دراسة أعدها باحث أمريكي أن وكالة الدفاع التابعة لوزارة الدفاع الأميركية كانت تجري بحوثا ميدانية في العراق بين حين وآخر لكي تتبين حجم الضرر الذي أصاب صحة العراقيين نتيجة تعمدها تدمير مراكز تصفية وإسالة مياه الشرب ومنعها العراق من توريد المواد الكيماوية اللازمة لتعقيم وتطهير مياه الشرب. وهذا يبين انهم كانوا يقصدون تخريب الصحة العامة للشعب العراقي.
كر وفر
** هل كانت لجان التفتيش هي الحجة الحقيقية لغزو العراق أو أن هناك توجها من قبل القيادة الأميركية لغزو العراق حتى لو تعاونتم مع اللجان؟
الدكتور ناجي صبري الحديثي: كان هناك كر وفر بين السلطات العراقية ولجان التفتيش. فالعراق يحاول ان يضغط على مجلس الأمن لتعديل مسار التفتيش باتجاه انصافه والتجاوب مع تعاونه الواسع من أجل رفع أو تخفيف الحصار المرتبط بنتائج التفتيش، وذلك من خلال تعليق اعمال لجان التفتيش أحيانا ردا على ايغالها بإيذاء العراق واستفزازها للعراقيين. ثم تتدخل جهات خارجية للوساطة، مثل الحكومة الروسية، كما حصل في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2002، لكي تعود لجان التفتيش إلى عملها. ووصلت هذه المسألة ذروتها في أواسط شهر كانون أول/ديسمبر عام 1998، حينما سحب ريجرد بتلر رئيس لجنة "اونسكوم" الخاصة للتفتيش جميع مفتشيه من العراق، وبعث برسالة إلى الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وليس إلى مجلس الأمن الذي هو مرجعيته، أبلغه فيها ان "العراق لا يتعاون مع لجان التفتيش وانه ينتهك قرارات مجلس الأمن ويتحدى المجتمع الدولي"...الخ من هذه الاسطوانة. وحذا حذوه محمد البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية فورا، فسحب ايضا مفتشي الوكالة. وكان ذلك إيذانا بهجوم وشيك على العراق. وبالفعل افسح بتلر والبرادعي بهذا الاجراء المجال للولايات المتحدة وبريطانيا لكي تنفذا عدوانا جويا وصاروخيا على بغداد دام 3 أيام واطلقتا فيه أكثر من 300 صاروخ "كروز" وعددا كبيرا من القذائف. وهو الهجوم الخامس على العراق منذ وقف اطلاق النار عام 1991، واطلقتا عليه تسمية عملية "ثعلب الصحراء".
تواطؤ على المكشوف
وهنا كان واضحا تواطؤ البرادعي وريجرد بتلر على المكشوف مع مخطط الحرب الأميركية على شعب العراق، فكان سلوكهما بعيدا عن نصوص قرارات مجلس الأمن، رغم كل ما انطوت عليه من تعسف، وبعيدا عن ولاية الوكالتين بموجب قراراته. وهذا ما دفع العراق بعدها لرفض عودة المفتشين، على اعتبار انهم ألحقوا ضررا بالغا بالعراق وتعمدوا التنسيق مع هاتين الدولتين في اعتداءاتهما على شعبنا. فالعراق لم يطردهم، كما ادعت بعض الوسائل المقربة من واشنطن ولندن.
وقد أحدث خروج المفتشين ضجة في الامم المتحدة، وتعالت الانتقادات خصوصا للمنهج الذي اتبعه بتلر، وانصياعه الكامل للولايات المتحدة، وهو ما لم يكن يخفيه هو وزملاؤه من مسؤولي لجان التفتيش في ما يدلون به من تصريحات سياسية، مثل "نحن لن نوقف التفتيش إلا بعد سقوط صدام" وايضا "صدام يهدد العالم" وهذه تصريحات لا تجيزها مهامهم ولا ولايتهم الفنية البحتة. ولكن كان واضحا ان هناك تنسيقا كاملا بينهم وبين الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية. وعلى ضوء ذلك شكلت الأمم المتحدة لجنة برئاسة السفير البرازيلي أموريم (الذي أصبح وزيرا للخارجية فيما بعد) للنظر في كل ملف التفتيش وبرنامج النفط مقابل الغذاء وقضية الحصار. ولم تعد مسألة قيام لجان التفتيش بتجاوز ولايتها وممارسة التجسس على العراق تقتصر على اتهامات العراق، بل بات يتحدث بها الكثير من المسؤولين في الأمم المتحدة. فاضطر مجلس الأمن لإقالة بتلر وتعيين هانز بليكس وتغيير اسم اللجنة الخاصة إلى انموفيك "هيئة الامم المتحدة للرصد والتحقيق والتفتيش". وواضح ان التغيير كان شكليا لامتصاص موجة النقد والفضائح التي تورط فيها بتلر وسابقه رولف ايكيوس ولجان التفتيش.
كان ينبغي لمجلس الأمن ان يأخذ بالاعتبار نتائج مراجعة لجنة أموريم ووجهات نظر اطراف دولية أخرى تبينت بوضوح تجاوز لجان التفتيش ولايتها وتجاوزها الصارخ على سيادة العراق وأمنه وتعنتها وتنكرها لتعاون العراق وتضحياته في تنفيذ القرارات الدولية. لكن مجلس الأمن تجاهل كل ذلك وأصدر القرار رقم 1284 في 17/12/1999، الذي قلص من الفرص القليلة المتاحة للعراق في التخلص من الحصار في القرار السيء الصيت قرار 687 لعام 1991، مما جعل العراق يرفض عودة المفتشين، خصوصا في ظل ازدياد المزاج الشعبي الرافض لعودة المفتشين، بعدما تبين للجميع ان هدف عملية التفتيش إطالة أمد الحصار وايقاع المزيد من الأذى بشعب العراق. وهذا المزاج انعكس ايضا على الرسميين ومنهم في قيادة الدولة.
وكان هذا الجو سائدا، حين توليت الوزارة في أواسط عام 2001، وبدأت بمعالجة هذه المسألة تدريجيا، والنظر في عودة المفتشين، وأفسحت المجال للتواصل مع إدارة الوكالتين، ودعوتهم لزيارة العراق، واتخذنا إجراءات كثيرة في تسهيل لجان الأمم المتحدة، ومتابعتها بدقة وعزم، والابتعاد عن المنهج التصادمي الذي كان يطالب به المزاج الشعبي.
الشرق القطرية 3/4/2016
|
قال سبحانه وتعالى
قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم
الأربعاء، 6 أبريل 2016
د. ناجي صبري آخر وزير خارجية للعراق قبل الاحتلال يكشف أسرار الحصار والاحتلال (2)؛
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق