هل تغيرت وسائل تحقيق الثورتين الاجتماعية والتحررية.!؟ - استقراء حول المتغيرات العاصفة الحاصلة في عالمنا اليوم
يتعب الإنسان أكثر ما يتعب وهو واقف في مكانه \ حكمة عالمية
اشد التعب يأتينا عندما نقف في الانتظار عند ذاك تساورنا مختلف الافكار المتناقضة خصوصا الشعور بالتعب اقوى مما هو في واقعه لاننا نحصر تفكيرنا في انتظار امر واحد فيتركز تفكيرنا فيه ولا يخرج عنه الا لما هو اكثر سوداوية منه، وهذا يعود الى اننا عندما نمشي نحرك جسدنا فتعمل اجزاءه بطريقة مختلفة خصوصا العقل الذي ينشط تلقائيا للتعرف اللاشعوري على محيطنا وما نريده من وراء المشي فتولد الطاقة وتتجدد مثلما نصرفها.
ولهذا فالوقوف سكون متعب وحالة سلبية لا سبيل للتخلص منها الا بالحركة، وقالت العرب (في الحركة بركة)، وقيل الحركة هي الحياة والجمود هو الموت والحياة هي العملية المزدوجة للتكيف الدائم والتحكم الدائم بنفس الوقت في الجسد والافكار والبيئة.كيف نترجم عملية التكيف والتحكم في ان واحد على واقعنا العربي والعراقي ونحن نواجه اعقد التحديات واعداءنا هم اكثر قوى البشرية تقدما ووحشية وعداء لنا ولهويتنا القومية ووجودنا البشري؟
ببركة الحركة نرى البدائل امامنا متحركة وواضحة وتتعدد الخيارات تلقائيا ولا نسقط بامتحان الوجود بخيار واحد. دعونا نفحص هذه الفكرة عمليا وميدانيا. ولكن ولان الموضوع حساس جدا علي ان اعترف اولا بانني كأنسان ناقص القدرات، في مجالات معينة وربما كثيرة كغيري من البشر استنادا الى حقيقة ان الكمال لله وحده فربما افشل وربما اصيب، اؤكد بان هذا التحليل عبارة عن افكار اولية لي شخصيا وانا وحدي اتحمل مسوؤليتها وهي مطروحة للنقاش والحوار لاجل اغناءها تغييرا او تثبيتا واضافة وتوسيعا وتصحيحا. ففي الحوار الجماعي نقلص دوائر الخطأ ونحقق اكبر قدر من الصواب فنجد طرق خلاصنا وبتلاقح الافكار وتحاورها الحر غير المقيد بالانانية والفردية نصل للنتاج الارقى والاصح وهذه هي اهم فضيلة للقيادة والعمل الجماعيين.
ربما اول صدمة تلقيناها في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد هي الانقلاب العاصف والجذري والطفرة التي كانت غير متوقعة في حالة العالم كله وبالاخص في انماط حياتنا عامة بما في ذلك السياسية والفكرية نتيجة ما كشف عنه وكان مخبوءا او ما تحقق وقتها من اختراعات تكنولوجية غيرت العالم جذريا الى الابد، والواجب تبعا لذلك تغيير اساليب العمل وفحص قواعد التفكير مجددا لاكتشاف اين اخفقت واين اصابت اساليبنا وافكارنا وقواعد تفكيرنا، فما لم نفهم الواقع كما هو وبلا رتوش تضيفها الذات الامارة بالانانية والتحصن بكسل فطري سري لا نشعر به ويحركنا باللاشعور فاننا ومهما ضحينا وعملنا بجد فاننا فاشلون لا محالة وربما يكون مصيرنا هو الدخول في انفاق الانتهازية والردة مع ان التكيف المطلوب يتناقض جذريا معهما لانه يستهدف اولا واخيرا ابقاء العقيدة حية ومتجددة وفعالة بتغيير اساليب النضال من اجلها وليس التخلي عنها!
واول ما يواجهنا واخطر ما نعيشه هو واقعة ان التغييرات العاصفة في العالم عززت الهيمنة الامريكية الامنية الحديثة المعتمدة على ما انجز من ادوات تحولت فورا من استهلاكية مضافة الى جزء لا يمكن الاستغناء عنه في حياتنا تماما مثل المدمن على المخدرات وربما اكثر واقوى، فاذا انتبهنا الى ان الموبايل والاجهزة الالكترونية المعقدة مثل اللاب توب واللوحي وغيرهما والاجهزة المنزلية الالكترونية بما في ذلك الثلاجة والطباخ والسيارة زرعت فيها لاقطات تبث لمن انتجها معلومات عن المكان والاشخاص بما في ذلك الخصوصيات الاكثر حساسية، وان هذه الادوات صارت جزء لا غنى عنه في حياتنا اليومية بكافة اوجهها دون اي استثناء فاننا امام عصر غريب جدا غير مسبوق هو عصر عبودية الانسان الاختيارية!!!
والمأساة والمفارقة في ان واحد هي ان الانسان يختار تلك العبودية بنفسة لاول مرة في التاريخ الانساني مع انه يدرك انها عبودية بينما كان في كل تاريخه يقاوم العبودية بكافة الطرق! وهكذا وضع الانسان في كل العالم في اقفاص المراقبة على مدار الدقيقة وليس الساعة وفي كل مكان - متعة او عمل - وكشف كليا امام من يراقب وانهارت عصور التخفي والسرية المطلقة وصار الانسان لا يعرف ما الذي عرف عنه حقا ورغم ارادته وما الذي لم يعرف، وعادت اجهزة المخابرات الى عصور ما قبل الانترنيت والالكترونيات بتحويل اغلب اسرارها الى مخازن ورقية بدل الالكترونية لتجنب الاختراق ومع ذلك فان الاختراق بقي احتمالا واضحا واساسيا.
واذا كان الانسان الفرد والمجتمعات الانسانية قد دخلت هذا الطور من التغييرات الاجتماعية والعامة فان اول نتيجة ترتبت على ذلك هي ان من امتلك زمام التغييرات الانقلابية تلك حقق التفوق على غيره وهو هنا امريكا، ولذا فان من الطبيعي ان يقترن عصر التغييرات العاصفة بشبه انفرادها بالقرار الدولي وجعل اساليب القرن الماضي في التعامل مع امريكا وغيرها من الدول المتقدمة يحتاج لاعادة نظر للوصول الى خيارات تحمي عقيدتنا اولا لانها حزمة الضوء الهادية لنا في عالم مظلم وظالم، وتقلل بأي درجة قدرة امريكا على ممارسة تأثيرات خطيرة رغم ارادة الاخرين وقرارتهم.
دعونا نرصد اهم ما حصل اثناء وبعد التغييرات العاصفة في عالمنا:
1- انهيار المعسكر الاشتراكي واستكلاب الغرب الاستعماري والكشف عن وحشية اشد ترك القوى التقدمية المناهضة للاستعمار وحيدة وبلا غطاء دولي كان يوفر لها امكانية ولو محدودة لمواجهة الغرب الاستعماري فضاقت خياراتها وزادت ضرورة التحول من الهجوم الذي وسم عملها خلال القرن العشرين لحين انهيار المعسكر الاشتراكي الى الدفاع بشكليه الايجابي والسلبي.
2- تمزقت وحدة ما كانت تسمى (القوى الوطنية التقدمية) من بعثيين وشيوعيين وكتل ناصرية واسلامويين وانخرطت في حروب داخلية فيما بينها وبرزت ظاهرة اعتبار كل طرف الطرف الاخر عدوا رئيسا يجب تدميره وهكذا اصبح الصراع متعدد الاشكال من حيث من هو العدو الاخطر، ومن المؤكد ان هذه الظاهرة لا تخلو من وجود عامل مخابراتي اجنبي حركها ويحركها.
3- فجرت عمدا قضايا كانت اما نائمة او ثانوية لا يصل تأثيرها الى تغيير طبيعة الصراع الرئيس وهو صراع القوى الاستعمارية واتباعها مع القوى التقدمية والمعسكر الاشتراكي، فبرزت فتن طائفية وعرقية واتخذت اشكالا متعددة وصلت حد المقاومة المسلحة لكيان الدولة الواحدة فتعددت مصادر التهديدات الداخلية واصبح بعضها اقوى من عدوان عسكري خارجي محدود وهكذا لم تعد القوى الوطنية والتقدمية في حالة هجوم كما كانت خلال القرن العشرين.
4- انحدرت مستويات المعيشة في كافة الاقطار العربية وتفاقمت ظواهر الفقر والامية والانصراف للحصول على لقمة يومية من كتل جماهيرية كانت القوة الضاربة للقوى الوطنية في مرحلة النضال ضد الاستعمار والصهيونية، وثبت بان تدهور الاوضاع الناتج عن دعم الغرب والصهيونية لانظمة فاسدة ومستبدة وعاجزة عن تحقيق الاصلاح حتى في حدوده الدنيا كان خطة عمل موضوعة وليست تطورات عفوية مثل الكثير من دول العالم الاخرى التي ظهرت فيها نفس الظواهر، ولهذا فان القوى الثورية وبعد الانحسار الجماهيري وجدت انها شبه نخبوية تعتمد على تنظيمها الجماهيري وهو مهما كبر لا يكفي لتشكيل حزام امان حولها او وسيلة ضغط تعمل لصالحها فاضعفها ذلك وجعلها تتخبط بين مفهوم الاعتماد على الجماهير وهو من صلب عقائدها وبين حالة الفقر الجماهيري فتدهورت قدرتها على التأثير الفعال في ساحات العمل وحلت المغامرات محل العمل الثوري المنظم.
5- نتيجة للتفوق المطلق تكنولوجيا واختراع تكنولوجيات قادرة على كشف اسرار الجماعات والناس مهما كانوا حذرين ولديهم خبرة في توقي الانكشاف جعل الشك باساليب العمل في القرن الجديد موجودا وغالبا قويا، فانت ومهما علمت وبحثت لا تعرف سوى القليل عن وسائل التنصت الحديثة جدا وكيفية الحصول على المعلومات رغم انف صاحبها وتقرأ عن ادوات تنصت وتصوير بالغة الدقة وصلت حد تصنيع حشرة صغيرة تدخل البيوت ولا تلاحظ لكنها تصور وتنقل كل كل شيء، هذا ما عرفناه ولكن مالا نعرفه اكثر بكثير مما عرفناه لانه من اسرار من يريد تحقيق اختراقات شاملة! وكانت ادوات التسجيل عن بعد عبر ذبذبات الصوت ممكنة منذ السبعينيات اذ يكفي ان تجلس في الشارع المقابل لسكن الهدف وتسجل اهتزازات زجاج النوافذ كي تعرف ما يقولون، هذا كان في السبعينيات اما الان فقد حصل انقلاب جذري في وسائل المراقبة حتى ان الانسان الذي يجري عملية ويخدر لا يعرف ما يزرع في جسمه من ادوات تجعله مراقبا وتنقل كافة تصرفاته واقواله دون علمه.
اذن نحن بأزاء عالم حيّد الكثير من وسائل حماية الاسرار ووضع الانسان امام حالة انكشاف خطيرة امام عدوه.
6- كل ما تقدم غير مفهوم العمل السري وتنظيم اعمال سرية مفاجئة لا يكتشفها احد كما كان الحال في القرن الماضي، وسادت حالة الشك بالخطط الموضوعة للتغيير الثوري التقليدي، وتعززت الشكوك هذه بما حصل منذ عام 2011 في الوطن العربي حيث ان الجماهير التي انزوت بغالبيتها وتركت القوى السياسية تعمل وحدها نتيجة يأسها وبؤسها الاجتماعي والمادي وفشل محاولات التغيير التي اما احبطت قبل ان تقع او انها احبطت بشراسة بعد ان وقعت وبقي نظام الفساد والاستبداد والتبعية.لكن انتفاضات تونس ومصر وغيرهما فجرت ماكان كامنا داخل الجماهير من غضب ورفض للانظمة الفاسدة والمستبدة ودفعها للشارع والساحات بالملايين كما في مصر مما ادى الى التعجيل باسقاط نظام مبارك وقبله بن علي في تونس، ولكن وهنا المقتل هذه الانتفاضة سرعان ما ادخلت في نفق مظلم وتحولت المسارات لصالح ما سمي (الدولة العميقة) وتغيرت وجوه رموز الاستبداد والفساد ولم يجتثا وهذا هو الذي اعاد الجماهير لنقطة الصفر بل دفعها لما وراء نقطة الصفر وهو العودة للامبالاة اشد مما مضى وهو ما كان من خطط ينتظره ويريده.
7- خصخصة الجيوش كانت خطوة لم يفهمها البعض على انها عنوان حروب المستقبل فهي لم تكن مجرد عملية تجنيب الغرب الاستعماري الوجود المباشر في ساحات حروب باهضة التكاليف ماديا وبشريا والتي لا تستطيع دول الغرب الاستعماري تحملها كما اثبتت تجربة العراق المحتل، بل كانت خطوة لانشاء انواع مختلفة من الجيوش الخاصة التي تقتصد في المال والخسائر البشرية لكنها تلحق اضرارا غير مسبوقة بالقوى الثورية وفصائل مقاومة الغزو الوطنية، فنحن الان امام جيوش خاصة هي مزيج من المرتزقة مثل بلاك ووتر، او جيوش خاصة تموه باشكال تنظيمات ارهابية متطورة القدرات القتالية والمالية وبالغة الوحشية وتستهدف القوى الوطنية اولا وقبل اي طرف من جهة كما انها تخوض معارك استنزاف الناس العاديين عبر اعتبار الهدف الطائفي هو محور الحرب وليس التحرر الاجتماعي والاقتصادي من جهة ثانية.
وبسبب عملية التضليل البالغة الذكاء اقترنت بتشكيل هذه الجيوش ظاهرة مزدوجة فهي تضم عناصر قيادية عميلة تسيطر على اقسام اساسية من التنظيم الارهابي وهي عناصر مجندة مخابراتيا وتعرف دورها الحقيقي لكنها بنفس الوقت وكي تستطيع تجنيد الالاف بسهولة اختارت غطاء دينيا لها شيعيا او سنيا كي تجند الناس العاديين الذين هزتهم الاحداث الدموية والظلم الذي وقع ويقع على العرب، فتبلور لديها الاستعداد للموت من اجل انهاء الظلم، وهكذا وجدت جيوش خاصة بقيادات ملغومة وقواعد متطوعة وليست عميلة وزجت في حروب استنزاف الاقطار العربية لاجل التخلي عن حرب التحرير الوطنية والتمهيد لشرذمة الاقطار العربية وايصالها لمرحلة الاضطرار لقبول التقسيم للارض والوطن بصفته اهون الشرور.
يتبع....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق