قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

السبت، 4 فبراير 2012

مصالحة الجزائر مع نفسها، وهي مصالحة انتظرها الشعب طويلا لكنها لم تأت..

د. محمد الطيب قويدري: مصالحة الجزائر مع نفسها، وهي مصالحة انتظرها الشعب طويلا لكنها لم تأت..
04/02/2012
الجزائر.. تغيير النظام السياسي أم إعادة ترتيب أوضاع المجتمع؟ 
د. محمد الطيب قويدري*
 المصدر هنا
بين أفكار المعارضة المطالبة بالتغيير، التي تتخذ من مهاجمة النظام أسلوبا للتعبير عن مطالبها، ومن الدعوة إلى تغييره برنامجا لها، ومبررا لممارستها السياسية. وبين أفكار المؤيدين والمنتمين إلى دوائر السلطة، التي لا تكتفي برفض أطروحات المعارضة، والتشكيك في دوافعها ومبرراتها، وحتى في حقيقة وطبيعة نوايا أصحابها. بين طرفي هذه الثنائية التي تكاد تقوم على الجدل الضدي السلبي، هناك في الأقل رأي آخر مختلف-ليس بالضرورة توفيقيا بينهما- يتوخى الموضوعية والحياد بعيدا عن الانحياز لطرف دون آخر، أو الاندفاع وراء شهوة السلطة، أو هوى الانجراف وراء ميول الجماهير، ورغباتها الجامحة لا سيما رغبتها المشروعة في التغيير الحقيقي.
من المسلمات التقليدية في الفكر السياسي أن كل موقف يمكن أن يعبر عن رغبة في الحقيقة وعن قدرة على الوصول إليها، وليس من المثالي فقط أن يقف الناس إلى جانب الحق أينما كان ومهما كان مصدره، بل إن التجرد عن التحيز إلى المطامع، وعن اللجوء المفرط إلى البراغماتية المفيدة لكل من يرسم لنفسه أهدافا ومخططات خاصة به حزبية كانت أم شخصية، يصبح السلوك السياسي الواقعي الوحيد في اللحظات الحاسمة من تاريخ الأمم الكبيرة. وإذا كانت ممارسة السياسة و وعيها شأن كل أنشطة الإنسان الأخرى، لا يخلوان من الذاتية، فلن يكون من المتعذر على من له نصيب من النزاهة الفكرية أن يقرَّ بالرغم من شوائب ذاتيته بما هو عادل ومحق من الأفكار ومن أنماط السلوك لدى غيره؟ 
معارضو النظام يتفقون تلقائيا على ضرورة الدعوة إلى التغيير الجذري للنظام السياسي في الجزائر، ولا يرون هذه الغاية تتحقق إلا برحيل مجمل الطبقة السياسية التي ارتبطت أسماء أصحابها بتنفيذ السياسات المختلفة للنظام، دون مراعاة بعض حسناته، التي قد لا تبرر استمراره ولكنها تسمح بإنصافه، ودون تقدير أضرار أي انقلاب مفاجئ للأمور على الساحة الوطنية التي لم تشف من عواقب وخيمة لصراع مرير لم يتوقف نهائيا بعد. بل إن مثل هذا القلب الجذري للأمور مطلوب لديهم بذاته على اعتبار أنه صلب عملية التغيير، التي تشمل الأشخاص تماما مثلما تشمل السياسات والبرامج، فالأشخاص متهمون بأنهم رموز فساد أو متورطون به بصورة كلية أو نسبية. والسياسات ينظر إليها على أنها متناقضة، وفاشلة، ولا تتاح لها الفرصة لتصل إلى نهاياتها 'المنطقية'. ويفسر ذلك بأن تلك السياسات ليست أكثر من صيغ مزيفة لمشاريع لا يؤمن بها صانعوها أصلا، بل يدعونها ادعاءً، وربما يتبنونها بقصد إفشالها بصورة متعمدة ومقصودة. وفي غمرة الحماسة لجذرية التغيير يغفل بعض هؤلاء الفرق بين ممارسات السلطة وأخطائها، وبين الإكراهات الموضوعية التي واجهتها الدولة الناشئة بعد الاستقلال، وما زالت جذورها عميقة التأثير في بنية الدولة ومؤسساتها. 
فجزء من الصراع الراهن بين النخب ذات المكونات المختلفة، يعود إلى الاختيارات المبدئية الأولى نفسها، وإلى تطبيقاتها في الواقع، وإذا كان الجميع يعترف بأن اختيار الاشتراكية مع بداية الاستقلال كان متفقا عليه بين مختلف السياسيين، فإن الاختيار الثاني الذي مازالت آثاره تنذر بانقسام في الرؤية حتى لدى 'الأسرة الثورية' نفسها هو اختيار تأطير الدولة ومؤسساتها بمن اعتبروا آنذاك 'أصحاب الخبرة' من قبل البعض وأبرزهم الرئيس الراحل هواري بومدين، ونظر إليهم من قبل البعض الآخر على أنهم ' أعوان فرنسا' الذين لا تشفع لهم كفاءتهم أو خبراتهم مهما كانت قيمتها. وبعد تغيير 1965 ، لم يكن أمام بومدين العازم على التخطيط لتنمية البلاد، وتنفيذ سياسات جريئة وسريعة لنقلها من حالة التخلف، إلى حالة مواكبة للبلاد المتقدمة، سوى أن يستثمر كل ما وقع بين يديه من موارد بشرية متاحة، ومن المؤسف أن الكتاتيب التي تخرج منها أمثاله لم تكن تسمح دائما بإعداد رجال دولة وكوادر فنية وإدارية مثلما سمحت به المدرسة الاستعمارية. لقد كان اختيارا مرا ومحتوما، وقدم في وقته على أنه تعبير عن المصالحة بين النخبة الثورية والنخبة المتعلمة القليلة الموروثة عن الاستعمار، وقد وضع كل ذلك تحت شعار 'التضامن الوطني'. وإذا كانت إيجابيات هذا الخيار الآنية واضحة في ذلك الوقت، فإن سلبياته اتضحت فيما بعد عندما عاد الصراع بالبلاد إلى نقطة البدء وعاد الحديث بصوت عال عما سمي 'حزب فرنسا' أو طابورها الخامس الذي يقدم بعض أصحابه النفوذ الفرنسي في الجزائر حتى على مصالح الأمة العليا. والسؤال المطروح اليوم هو التالي : هل كان بومدين يملك ورقة أخرى بديلة عن ورقة ضباط فرنسا وأعوانها الإداريين، إن ذلك ما سيجيب عنه التاريخ. 
من جهة أخرى لا يبدو على بعض معارضي النظام أنهم يهتمون بخطأ النظرة إلى من يطلق عليهم في الجزائر 'الإطارات الوطنية' دون التمييز بينهم بحسب مسؤولية كل منهم عن الخطأ والفشل المسجل في كثير من الميادين، فمنطق المعارضة الراهن، في عمومه لاسيما شقه الإعلامي، ينظر إلى أعوان الدولة باعتبارهم كتلة واحدة قابلة للإدانة، والمشكلة في منطق يعمم أحكامه السلبية أنه يؤدي إلى تجريم الآخر، باعتباره لا يعترف حتى بمبدأ 'الفروق الفردية'. كما أن جعل الإدانة بديلا عن المحاكمة العادلة يؤدي بالخطاب الإعلامي السياسي إلى إضعاف النظرة الإنسانية التي تعترف للإنسان بمقومات إنسانيته كلها: أي الاعتراف له بضرورة الحرية الخلاقة، وبضعفه، وبمسؤوليته عن أفعاله.
في الجانب النقيض تقف أفكار موالية وحتى ممالئة للسلطة في بعض صيغها الانتهازية، وغالبا ما تستند تلك الأفكار إلى مشروعية الولاء للدولة، ولصورتها المثالية العامة، وهيبتها، وحتى إلى شرعية تمثيلها للثورة مستمدة ذلك من التاريخ ومن الوطنية الجزائرية وتضحيات الشهداء، ولا يخفى أن هذه الأمور تتعلق كلها برأس المال الرمزي والمعنوي للأمة الذي يشترك فيه الجزائريون جميعا، ولا يعقل أن يقصى منه إلا من اختار بحرية واقتناع أن يقصي نفسه منه إذا ما اختار التنكر لوحدة الأمة ومصيرها، أو الانفصال عنها أو معاداتها. لكن السلطة الناشئة بعد جانفي 1992 لم تكن لتقبل بوجهة نظر أخرى بعد أن اعتمدت سياسة المواجهة الأمنية، ومع ذلك فقد استطاع الرئيس زروال بشخصيته المستقلة القوية أن يعيد فتح باب الحوار، وأن يضفي الحيوية على نشاط الأحزاب السياسية داخل البرلمان، بالرغم من تفشي التزوير. كما استطاع الرئيس بوتفليقة أن يهذب التشدد الاستئصالي، وأن يغير من توازنات السلطة، ولو أنه من جهة أخرى كبح حيوية الأحزاب وأضعف وظيفة التمثيلية الوطنية وحتى المحلية لحساب الإدارة. 
بين هذين الطرفين المتنازعين الذين ينفي أحدهما الآخر نفيا قاطعا رافضا إياه، ينتصب الواقع الموضوعي الذي لا يعبأ بالتصورات النظرية إلا بقدر اقترابها منه واعترافها به واستنادها إلى شروطه، ثم بتفسيره استنادا إلى قوانين تكوينه الأصلية، وليس باللجوء إلى شوائب التفكير الذاتية مؤيدة كانت أم معارضة؟من المهم أن نذكر بكون إصلاح النظام مسلمة وضرورة محل إجماع الجميع في الجزائر، غير أن مطلب إصلاح النظام يفترض أن تعبر عنه نخب حية أخذت مكانها الطبيعي والفاعل ضمن مجتمع سليم ليس هو بدوره بحاجة إلى إصلاح صحيح. لأن التطور الاجتماعي الذي عرفته البلاد منذ رحيل الاستعمار عنها آل بعد بومدين إلى فساد عام ليس الفساد السياسي أكثر من تعبير مكثف عنه، فالعلاقات الاجتماعية التي تشكل بنية المجتمع تشكو اليوم من عديد الاختلالات، والمعايير والقيم التي تستند إليها عرفت اضطرابا شديدا هز تلك البنية من أساسها. ومن مظاهر الاضطراب المذكورة البادية للعيان: انهيار قيم العمل، وتفشي سلوك الاتكال على الدولة، منذ الثورة الزراعية، والاستسلام للطمع، والكسب السريع منذ طرح مفهومي الإصلاحات واقتصاد السوق، فكانت النتيجة الانصراف المتعمد عن النشاط الإنتاجي. 
وقد أدى انهيار سلم القيم والمعايير إلى تداخل الأدوار والوظائف داخل المجتمع بين الأفراد والجماعات، وبين النخب بصورة توحي بانفلات أواصر العقد الاجتماعي، والوصول إلى درجة فساد النظام الاجتماعي. ومما زاد من تفاقم الأوضاع تكليف السلطة التنفيذية المؤلفة من موظفين إداريين بأداء وظيفة البديل 'غير المناسب' للطبقة السياسية في تسيير الشأن العام، وقد أفضت هذه النتائج إلى تقوقع المجتمع على نفسه وابتعاده عن الدولة وعن القانون بحيث أصبحت العلاقات الاجتماعية ذات الطابع الاقتصادي والقانوني يتم إقرارها وتنفيذها والالتزام بكل ذلك خارج إطار سلطة الدولة، وخارج دائرة نفوذ القانون، فعلى سبيل المثال أضحى العرف بديلا للقوانين في ما يتعلق بالبيع والشراء والمبادلة والمقايضة، وأضحت قوته لا تضاهيها قوة اللوائح والتدابير الإدارية والنصوص وحتى العقود والأحكام القانونية لا سيما القضائية. وبذلك أضحت السوق العرفية التي تطلق عليها السلطة تسمية 'السوق الموازية' أهم كما وكيفا من السوق التي تشرف على تنظيمها وتسييرها أجهزة الدولة. ومن النافل القول إن المجتمع ممثلا بالجماعات والأفراد المتعاملين فيما بينهم خارج نطاق نفوذ القانون، هذا المجتمع لم يتخل عن الإدارة حتى وإن كان لا يعترف بها ضمنيا، بل إنه استخدمها كأداة لتحقيق أهدافه الخاصة، استخداما جزئيا حافظ فيه على استغلالها دون تجاوز هذا الحد. ومن أمثلة ذلك بيع المساكن والشقق والقطع الأرضية والمزارع، إلخ ...بطريقة عرفية مع استخدام المصادقة، أو الوكالة لدى الموثقين، أو الاعتراف بالدين...إلخ.
وهكذا لجأ كيان المجتمع إلى التعبير عن موقفه من السياسات التي فرضت عليه بردود أفعال، وبتصرفات تلقائية وعفوية في الظاهر، لكنها في حقيقتها منظمة ومتسقة على نطاق المجتمع كله بالرغم من اتساع رقعة البلاد الجغرافية من جهة، ومن تنوع تركيبتها البشرية وتعدد مشاربها الثقافية، مما ينبئ عن وجود بنية مجتمعية منظمة ومتماسكة لم تستطع الدولة عبر نخبتها المتعلمة أو نصف المتعلمة في الغالب الاعتراف بها بسبب استعلائها من جهة، وبسبب استلاب العديد من مكوناتها ذات المرجعيات الوافدة، وبسبب القصور في التفكير.
مما سبق يمكننا القول على سبيل الاستنتاج إن المعارضة السياسية الجزائرية على اختلاف مكوناتها وتوجهاتها الفكرية والسياسية ركزت جهدها على جعل النظام ومايصدر عنه موضوع نظرتها من خلال انتقادها الدائم للسلطة القائمة ولأدواتها التنفيذية الإدارية والأمنية، لكن المعارضة أغفلت في غمرة هذا الاستقطاب الحاد موضوعها الحقيقي وهو المجتمع، وبسبب ذلك لم تستطع استنباط أفكار لبرامجها السياسية من خط سلوك المجتمع وتفكيره التلقائي، ومن تطوره غير المراقب من قبل الدولة. لذلك لا تعبأ العديد من مكوناته وكثير من أفراده بالخط الانتقادي الهجومي الذي يسود كل شيء تقريبا، ويساهم في إنتاج فكر يومي تدميري غاضب لا ترضيه أية سياسة ولا يستجيب للترغيب والترهيب إلا استجابات ظرفية عابرة تتلاعب بها كل ريح للتغيير وحتى للفوضى. بينما كان بإمكان المعارضة الموضوعية طرح بدائل للإصلاح الاجتماعي والتربوي، والدعوة إلى سياسات تتجاوز في جرأتها قوة تخطي المجتمع للسلطة لكي تزيد من قدراتها على الإقناع الذي هو وظيفة كل سياسي سواء أكان فردا أم تنظيما.
من الجهة المقابلة يصدق على السلطة ما يقال عن المعارضة فهي في عز الأزمة رفعت في وجه 'الإسلام السياسي' شعار مصالحة الجزائر مع نفسها، وهي مصالحة انتظرها الشعب طويلا لكنها لم تأت، ونتحدث هنا عن المصالحة بين المواطن والجهاز البيروقراطي المتهم من قبله بالتزوير، والمصالحة بين القانون والعرف، وبين المجتمع والدولة التي ينبغي أن تبقى آلة لخدمته لا قفصا يحد من حريته ويجمد عقله، ويهدد بتخفيض قابليته للحياة واستمتاعه بها، والمصالحة بين القانون وتطبيقات منفذيه في الممارسة..إلخ.
كما يصدق على السلطة ما يقال عن المعارضة من جهة كونها لا تبحث عن تجديد تركيبتها من حيث الجانب البشري، فسلاسل الشيوخ الذين فقدوا، لا بسبب تقصير منهم وإنما بفعل تقدم العمر، وتناقص القدرات الصحية والذهنية لمعظمهم، تلك الطاقة الضرورية للنشاط والرؤية واتقاد الذهن، هؤلاء أضحوا اليوم عبئا ثقيلا على الأجيال الجديدة بدلا من أن يصبحوا محل تبجيل واحترام بفعل قيمة منجزاتهم أيام شبابهم المجيدة. وهكذا بدا التقاعس عن تجديد النخبة السياسية والإدارية سياسة مقصودة لا يعلم الحكمة منها غير أصحابها المنعزلين عن سياق مجتمع يعيش ويتحرك ويبدع خارج الأطر الرسمية، وهو يتجه بالتدريج نحو الابتعاد بحياته وتاريخه عن الدولة ومجالات نفوذها. الدولة التي كانت ثمرة تضحياته وهي رأس المال الذي تعتز به الأمة، وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى بأمس الحاجة إلى المجتمع وإلى أن تخصه بكل عناية حريصة مبتكرة وخلاقة، لأن أخطار الاستعمار ما زالت ماثلة كما كانت في الماضي، بل هي اليوم أشد خطورة وأكثر إيلاما للأمة. في الأخير يجدر التنويه أننا لم نتناول هنا سوى الجدل بين خطاب السلطة وخطاب المعارضة، وأثرهما على ثنائية الفساد والإصلاح المطروحة بقوة في الخطاب الإعلامي والخطاب السياسي الجزائريين، أما الإشكالية العامة للإصلاح فتقتضي الوقوف على الأزمات العميقة التي تعانيها الساحة السياسية، مثل أزمة الاستقطاب الجهوي في الصراع على السلطة داخل المجتمع، وضمن الطبقة السياسية، ومثل إشكالية أولوية التطبيق في مجال تفعيل النصوص القانونية والأحكام القضائية، إلى غير ذلك من القضايا التي تستحق منا مزيدا من الاهتمام والتأمل في مناسبات ومواقف أخرى.

*إعلامي وباحث جزائري، نائب سابق،
عضو مجلس الشورى المغاربي سابقا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق