قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الأربعاء، 26 يونيو 2013

حكومة تسمي نفسها "دولة القانون" وتمارس أشنع الجرائم والأنتهاكات... ولازال العالم في سبات عنها..! الصمت المخزي حول أوضاع اسرى الحرية في العراق ...من الاستجواب الى الغرغرينا..! - حلقة دراسية متكاملة \ ج 1-2

حكومة تسمي نفسها "دولة القانون" وتمارس أشنع الجرائم والأنتهاكات... ولازال العالم في سبات عنها..! الصمت المخزي حول أوضاع اسرى الحرية في العراق ...من الاستجواب الى الغرغرينا..! - حلقة دراسية متكاملة \ ج 1-2

المرابط العراقي

Ali 13-s

من غباء سلطات الاحتلال الامريكي في العراق انها تعاملت في سجونها مع الأسرى والمعتقلين السياسيين انهم مجرد أفراد موقوفين لديها، وتعاملت معهم بانهم أشخاص مجهولي الهوية والانتماء، أو انهم مصنفين بوليسيا لديها بأنهم مجرد أفراد مشكوك بهم، لرفضهم الاحتلال والمشاركة في العملية السياسية التالية التي فرضها الغزاة على العراق تحت الاكراه والقمع الدموي.
وخلافا لكل القوانين الدولية حول معاملة الاسرى والمعتقلين في أوقات الحروب والاحتلالات، فان الولايات المتحدة أظهرت انها الدولة الأكثر مروقا واستهتارا في الخروج على القانون الدولي واتفاقيات جنيف وحتى على جميع الشرائع الانسانية؛ بلغ الاستهتار بالقوات الامريكية انهم تعاملوا مع الخصوم بخسة ونذالة وكانوا بعيدين كل البعد عن مواقف الفروسية والرجولة تجاه معارضيهم وسكان البلاد المحتلة.

ولأن سلطات الاحتلال الأمريكي لم تقنع أيا من الاحرار العراقيين، ولا حتى البسطاء من العامة من الناس، بمبررات إقدامها على غزو العراق واحتلاله وتدميره بشكل شامل ومقصود، لذا حجبت قيادة الولايات المتحدة أيضا أسباب اجبارها على الخروج من العراق بهزيمة مدوية، قلما تعرضت لها دولة عظمى قبلها في الحروب والغزوات.

عندما قررت الادارة الامريكية سحب قواتها من العراق تركت بصمات الانتقام ضد خصومها بشكل واضح، خاصة عندما خططت لتفكيك الدولة العراقية والمجتمع العراقي من خلال تجنيد أيادي محلية عراقية قبلت المشاركة والتورط بآثام الاحتلال وظلت مستعدة لتنفيذ ما تبقى من المهام القذرة الموكولة لها، كانت أولها الايغال في الانتقام من رجال المقاومة العراقية، والتنكيل بهمن وتمديد فترات اعتقالهم، وتلبيسهم تهما مفبركة قصد الإساءة اليهم، وتشويه مئآثرهم الوطنية، كرجال مقاومة وتحرير.

ومنذ انسحاب القوات العسكرية الامريكية من العراقن وتركها واحدة من أكبر السفارات في العالم مسلحة بعتاد وقدرات تتجاوز قدرات الدولة العراقية الكسيحة التي يتم تسييرها من المنطقة الخضراء، وتسيرها ايادي مخابراتها وخبراتها الامنية. وهكذا اعطت الادارات الامريكية المتعاقبة خلال العشرية الدموية السوداء الاخيرة انها ظلت وراء كل الجرائم وهي المسؤولة عن كل هذا العبث الكارثي بمصير العراق. وهي حين قررت الانسحاب من العراق ظلت تمارس إجراءات إحترازية غادرة ضد أحرار العراق، من خلال التكليف والتسيير لحكومات الاحتلال المتعاقبة ومجلس نوابها، وهيئات قضائها، بتمديد فترة بقاء الاسرى العراقيين الى أطول الآجال، وبذلك تم تجاهل مطالب الشعب العراقي حول حرية المعتقلين والافراج الفوري عنهم ولو بقانون وطني يتفق عليه للعفو العام.

وهكذا تبقى حكومة الولايات المتحدة مسؤولة عن مصير حياة الأسرى في العراق؛ كونها قامت بتسليمهم، وهم سجنائها، لإدارة الحكومة الاحتلالية الخامسة، وبذلك وضعت مصائرهم تحت رحمة خصوم سياسيين، أظهروا انهم ليسوا برجال دولة ولا قادة مجتمع ؛ بل هم طلاب ثأرات وانتقام دموي غير مخفي عن الجميع، فالمسؤولين عن تسيير الحكومة العراقية، وجلهم من عملاء الاحتلال، كانت دوافع الانتقام كامنة في نفوسهم حتى باتت أكثر من حالة مرضية وسادية، وهي تضاف الى صفاتهم التي حددها السفير بول بريمر، الحاكم المدني الامريكي السابق، بوصف من خدموا ادارته من العراقيين بأرذل الصفات.

ولأنهم حُملوا الى السلطة والحكم في العراق من دون استحقاق شعبي او انتخابي أو كفاءة سياسية او علمية، فالاميون وحاملي الشهادات والرتب العسكرية والامنية المزورة ، وخاصة أؤلئك الجلادون المنسبون الى ما يسمى بوزارة العدل وإدارات السجون وتسيير المحاكم ومؤسسات القضاء، جلهم ذووا توجهات تتسم بالحقد الطائفي والسياسي والانحراف الاخلاقي.
عشرة سنوات مرت على الاحتلال ولا تزال مشكلة المعتقلين العراقيين في سجون ومعتقلات القوات الأميركية السابقة وبعدها في معتقلات حلفائها، يلفها الصمت المريب،خاصة تلك السجون والمراكز الأمنية السرية التابعة للمليشيات ، وكواليس السلطات العراقية الخاصة بالقمع، باتت تشغل الرأي العام الوطني والدولي، وتزداد أخبار فضائحها وجرائمها يوما بعد يوم،وعلى مدار الساعة .

فمنذ نشر شبكة (سي بي إس نيوز) الأميركية في 28 أبريل/نيسان 2004 فضائح التعذيب في المعتقلات الامريكية، والعالم الحر مصدوم، ببشاعة مانقلته وكالات الانباء من صور مرعبة كان ابطال جرائمها قوات امريكية كانت تدعي " أنها جاءت لتحرير العراق" ولكن الحقيقة كانت تشير الى ان تلك القوات جاءت لتعذب العراق، تؤكدها مئات الصور التي تكشف سادية تعذيب الجنود الامريكيين لسجناء عراقيين في سجن أبو غريب وبأوضاع لا يمكن ان تضع لها خلاصة او تحليل نهائي يعبر عن دوافع فاعليها.
ان دروس الصدمة والترويع التي قدمتها إدارة بوش للعالم، لا تنحصر ببشاعة افعال الاحتلال العسكري للعراق وقنبلة المدن الآهلة بالسكان وتدمير كل ما له صلة بالحياة،؛ بل في جملة لا تحصى في مقالة من الممارسات المرعبة التي أقدمت عليها دولة عظمى، تدعي التحضر، ضد شعب ومجتمع وثقافة وحضارة يعترف كل العالم لها بالفضل والامتنان لريادتها في كل المجالات عبر حقب التاريخ والماضي وحتى الحاضر.

تتفق جميع المنظمات الحقوقية على أن قضية المعتقلين في العراق شكلت وتشكل الانتهاك الأبرز لحقوق الإنسان، لأنها القضية الوحيدة في العالم التي ظلت معطياتها وحجم آلامها وتعداد ضحاياها، خاضعة للتقديرات والاجتهادات والمساومات، ولكونها القضية الوحيدة في العالم التي لا تتوفر عنها معلومات دقيقة وتوثيق محايد، وعدالة دولية، ولأنها الكارثة البشرية التي تقترب من معايير جرائم الابادة ضد الانسانية التي لا يعرف العالم عن أعداد الضحايا من الاحياء والأموات فيها، ولا يعرف العالم، بسبب التعتيم الاعلامي الكبير، عن أوضاعهم الإنسانية أو مصير من تبقى من الاحياء، الذين نقلتهم القرارات العسكرية الامريكية المتهورة من سجن أمريكي الى بديله معتقل عراقي تتوسع حدود مظالمه يوما بعد يوم.
ان التفاوت في الارقام المنشورة حول تعداد المعتقلين في العراق خلال هذه العشرية الدموية السوداء تبقى واحدة من كبرى الفضائح الدولية التي تدين حكومة الولايات المتحدة أولا، كدولة إحتلال، وتتبعها ادانة لعديد هيئات الامم المتحدة التي أقرت عبر قراراتها: ان ما جرى في العراق يعتبر احتلالا عسكريا، وغزوا غير شرعي وغير مبرر، ويشمل هذا العار المخزي الكثير في سياقاته الابعد لجان حقوق الانسان ومنظمة العفو الدولية ورجال القانون الدولي والإنساني في العالم طالما استمر الصمت المتواطئ مع الادارة الامريكية خشية الفضيحة المدوية .

تختلف المصادر المحلية والأمريكية والدولية فيما بينها، خاصة حول عدد المعتقلين والسجناء العراقيين في السجون الخاضعة لإدارة السلطة العراقية التي نصبها الاحتلال أو في سجون ومعتقلات القوة المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، رغم مرور عشرة سنوات على غزو واحتلال العراق.

تطورت الحالة اللا انسانية للسجناء والمعتقلين في العراق الى الأسوء بعد الاعلان الرسمي للانسحاب الامريكي وبدء ادوار مسرحية ما سمي باعادة السيادة للعراق عبر ما سمي بالحكومة العراقية، التي حولت العراق الى محتشد بشري يضم أكبر عدد من السجون، ومناطق التهجير والابعاد القسري؛ وصار الانسان العراقي سلعة للمتاجرة وحقل للتجارب وطرق التعذيب وانتزاع الاعترافات بانتقاله من سجون الجيش الأمريكي، إلى سجون الحكومة العراقية ورزمة سجون وزارات الداخلية والدفاع والأمن القومي والمخابرات، ووصل الأمر إن الأحزاب السياسية الطائفية المتسلطة فتحت سجونها الخاصة ومارست القمع والترهيب والاعتيال للخصوم عبر نشاط مليشياتها وعصاباتها المنظمة في سائر محافظات العراق.
تذكر المصادر الرسمية، لما يسمى بالحكومة العراقية، التي تسلمت بشكل مسرحي فترة الانتقال، وما سمي باستعادة السيادة على المحافظات والمعسكرات والمعتقلات من القوات الامريكية المنسحبة تدريجيا، والتي خصص لها جهة رسمية عراقية راعية ومتخصصة هما وزارة العدل من جهة ، ووزارة اخرى وظيفتها التستر على مظالم الاولى وفضائحها ممثلة في وزارة حقوق الإنسان العراقية. وعندما تتكتم وزارة العدل على الارقام والفضائع فان الوزارة الثانية التي ظلت متشردة من دون بناية وميزانية وموظفين لسنوات عدة لكنها تجرأت مرة في القول: أن عدد المعتقلين العراقيين خلال فترة تواجد القوات الامريكية في العراق بلغ حوالي 31 ألف معتقلا، منهم 14 ألفا في السجون التابعة للقوات الأميركية. أما عدد المعتقلين في معسكرات القوة المتعددة الجنسيات، فقد صرح الجيش الأمريكي في فبراير/شباط 2008 عنها : بأن عدد المحتجزين بلغ 23 ألفا وتسعمائة شخص، منهم ثلاثة آلاف وخمسمائة في معسكر كروبر، بالقرب من مطار بغداد، وعشرون ألفا وأربعمائة سجين في معسكر بوكا، جنوبي البلاد، ويضم هذا العدد من السجناء 620 طفلا.

وحسب تصريحات سابقة منسوبة الى ممثلة اتحاد الأسرى والسجناء السياسيين العراقيين الحقوقية العراقية سحر الياسري: فإن عدد المعتقلين العراقيين وصل إلى أربعمائة ألف معتقل، منهم ستة آلاف وخمسمائة حدث، وعشرة آلاف امرأة.

وكما اشرنا ان تلك الارقام تظل غير دقيقة ويجري التقليل منها بذرائع امريكية شتى ،ولا توجد إحصاءات دقيقة ووثائق كاملة التدوين حتى هذه اللحظة عن عدد السجون والمعتقلات الأمريكية في العراق؛ لان اغلب السجناء كان يتم نقلهم من مكان الى آخر، وهم معصوبي الأعين ومربوطي الاطراف، وتحت الصدمات الكهربائية والتجويع المقصود، ومنهم من كان يجهل مكان تواجده، وجهة اعتقاله، ولتداخل التعاون الامني بين حراس الحكومة وقواتها ومليشياتها مع الشركات الامنية الخاصة ، التي كانت تكلفها القوات الامريكية بممارسة العديد من الافعال القذرة لإذلال المعتقلين وادارة السجون بخبرات امريكية، ضاعت الحقائق المراد توضيحها للعالم .

وقد أكدت الحقوقية سحر الياسري حينها وجود 36 سجنا رسميا عدا أبو غريب، وتقع هذه السجون في كافة المحافظات، بما فيها شمال العراق بكردستان، ناهيكم عن السجون الواقعة في القواعد العسكرية الأميركية التي لا يعرف عددها بالتحديد. ولكن المؤكد والمعلن ان القوات الأمريكية كانت تدير ثلاثة سجون كبيرة، هي معتقل معسكر بوكا في قضاء أم قصر بمحافظة البصرة جنوبي البلاد، وسجن كروبر قرب مطار بغداد الدولي، وسجن سوسة في محافظة السليمانية شمالي العراق.

حسب تقارير الأمم المتحدة ولجان حقوق الانسان في اقليم كردستان تكون أوضاع النظام القضائي في الاقليم الكردي، بشمال العراق، ليست في حال أفضل بكثير.. فقد سجلت تقارير حقوقية عديدة حالات احتجاز لمعتقلين ولفترات طويلة تعرض لها مواطنون عراقيون من كل القوميات، وجرى احتجازهم بناء على اتهامات غامضة و كيدية ، ولاغراض شتى منها سياسية او جنائية، ومنها بسبب مواقف منحازة تسجل على لائحة التحالف الكردستاني الحاكم للاقليم، والمتحالف مع حكومة المالكي لتشكيل أغلبية حاكمة.

وكما ترد تقارير عديدة من ساحات الاعتصام والتظاهر في محافظات ديالى وكركوك وصلاح الدين والموصل، معظمها تتحدث عن اعداد غير قليلة من العرب والتركمان وحتى الكرد وهم مغيبون منذ سنوات في معتقلات او مراكز تحقيق سرية يشرف عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحليفه الاتحاد الوطني الكردستاني. كما أشارت تقارير كردية الى أفضع من ذلك ان السطات الحاكمة في الاقليم والمركز تتبادلان الخبرات القمعية ويتنقل بين سجونهما العديد من ضباط التحقيق من ذوي السمعة السيئة وهم من أصحاب السوابق العدلية أومن اشتغلوا كجلادين سابقين في فترات سابقة. لقد تم تسجيل تأخيرات كثيرة في تقديم بعض المحتجزين او المعتقلين الى المحاكمات لفترات منها وصلت إلى أربع سنوات .

يعد معسكر بوكا من أكبر مراكز الاعتقال الأمريكية، وقدر أحد الضباط الأميركيين حينها: ان عدد المعتقلين فيه بلغ عشرين ألفا، وتشير بعض المصادر إلى أن العدد يتجاوز العشرين ألفا، واستنادا الى ما ذكرته وزيرة حقوق الإنسان في العراق وجدان ميخائيل: أن عدد المعتقلين كان يقارب 18 ألفا، سجلتها الوزيرة المذكورة كرقم رسمي، بعد زيارتها الشخصية رسميا للسجن .

هناك ما يسمى بالمخيمات أو " الكامبات" التي وصل بها الأمر الى تقسيمها على أساس طائفي، أو جهوي، لزرع الشكوك والانتقام من بعض السجناء الذين يجدون في محاربة رفاقهم السجناء عذابا لا يمكن تحمله ولزرع بذور الانشقاق في النسيج الوطني والاجتماعي، كما ذكر ذلك ضابط أميركي. وصل عدد تلك " الكامبات" الى 32 مخيم اعتقال، يؤوي كل واحد منها ما بين خمسمائة إلى ألف محتجز ، وكانت ظروفها السيئة ان معتقليها عاشوا تحت قساوة تغير الانواء والأجواء المناخية وعصف الرياح والعواصف الترابية والغبار وتغير درجات الحرارة المتقلبة في حر الصيف وبرودة الشتاء وحتى ما بين ساعات النهار والليل في اليوم الواحد.

كانت ادارات السجون تتزود مباشرة بالتعليمات والموافقات الرسمية من ادارة البيت الابيض والبنتاغون وحتى الخارجية الامريكية تخولها رسميا جواز انتزاع الاعترافات من السجناء بوسائل القوة الغاشمة والتعذيب بكل الوسائل، التي وصلت منها بشكل سري الى ايادي ضباط متخصصين، كانت واحدة من ثمار وعبقرية رائد الاجرام الامريكي السفير نيغرو بونتي وخليل زادة. وفي بعض الحالات وصلت التعليمات الى فرض التقنين والوصف الكامل لطرق التعذيب التي تم التبليغ بها عبر مراسلات وصلت الى القائمين على ادارة السجون الامريكية في العراق، وهنا لا يمكن تبرئة وزارة الدفاع الامريكية وهيئة المخابرات الامريكية وحتى الخارجية، التي كانت ترسل تباعا نشريات خاصة لضباط الارتباط في السجون، تتضمن تعليمات وطرق الاستنطاق، وحتى بجواز استخدام وسائط التعذيب المحرمة دوليا ،كالكهرباء والإغراق الكامل للرأس بالماء، والتنقيط على رأس منزوعة الشعرولساعات طويلة، والازعاج المتكرر لمنع النوم ، وسلب راحة المعتقل، واطلاق الاصوات المخيفة والمرعبة وإصدار الكوابيس الصوتية والضوئية واللايزرية... الخ.

ونفس الشئ يمكن أن يقال عن ممارسات القوات البريطانية وفضائحها في سجونها الخاصة في جنوب العراق، وخاصة في محافظة البصرة. وبدرجات متفاوتة لبقية قوات التحالف من بلدان اخرى.

قبل سنتين من اعلان الانسحاب الامريكي من العراق، أكد كليف ستافورد سميث، المحامي البريطاني والمدير التنفيذي لمنظمة ريبريف، التي تدافع عن عشرات المعتقلين في سجن غوانتانامو العسكري الأمريكي بكوبا : أن الولايات المتحدة تحتجز 27 ألف شخص في سجون سرية حول العالم. وقال ستافورد: "هناك عدد ضخم من السجناء يتم اعتقالهم في العراق بصورة سرية، ولدي معلومات مؤكدة بأن الولايات المتحدة تجلب أشخاصًا إلى العراق لاحتجازهم بصورة مريبة هناك". وأضاف المحامي البريطاني، وفقًا لشبكة "ديمقراطي ناو" : " واشنطن تضمن بهذا الأسلوب إبعاد الإعلاميين والمحاميين والحقوقيين عن السجناء الذين يراد التغطية على قضاياهم وملابسات اعتقالهم، وبالتالي يحرم هؤلاء الأشخاص من كل حقوقهم القانونية". .

كانت صحيفة واشنطن بوست قد ادعت يوما عندما أشارت إلى أن شبكة المعتقلات الدولية السرية للإدارة الامريكية التي كانت تمثل لتلك الادارة عاملاً مركزيًا لما سمي في "الحرب غير التقليدية"، التي يشنها الجهاز الأمريكي على ما يسمى بـ "الإرهاب". وترى الصحيفة: انه بالاستناد إلى ما سمي بالمخاوف على الأمن القومي الامريكي والقيم التي أنشئت من أجلها السجون السرية عبر بلدان عديدة في العالم ومنها العراق والاردن وبولونيا، تمكنت وكالة المخابرات الامريكية "سي.آي. إيه" والبيت الأبيض من تجنيد امكانيات محلية ودولية كبيرة عبر العالم ووضعت الميزانيات الكبيرة لها ومنها استخدامها لطائرات خاصة ونزولها وانتقالها عبر مطارات خاصة عبر العالم. وعندما كثرت فضائح التعذيب والنقل للسجناء والابرياء تم استدعاء المسؤولين عنها للاستجواب أمام لجان الكونجرس الأمريكي، ولكن القوى المجرمة في تلك الاجهزة ظلت تتهرب عن الحضور والافصاح عن حجم تلك الجرائم بحجة مطالبة الجهاز الإستخباراتي منها عدم الإجابة على التساؤلات المطروحة في الصحافة الامريكية والعالمية وحتى في تقديم شهادة علنية او سرية حول أوضاع المعتقلين بحجة الحفاظ على اسرار الامن القومي او الخوف من اهتزاز الصورة الاخلاقية لقادة وجيش ومؤسسات الولايات المتحدة في العالم وامام الشعب الامريكي الذي باتت تزعجه فضائح سجن ابو غريب وصور غوانتانامو .

لقد تهرب القادة العسكريون الامريكيون، خاصة المسؤولون منهم عن فضائح التعذيب في العراق، في سجن أبو غريب وغيره، وامتنعوا بأوامر قادتهم حتى عن الحضور الى جلسات الاستجواب الخاصة التي طالب بها عدد من اعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، وعندما جرت بعض الجلسات بفضل الصراع الحزبي المحتدم بين الجمهوريين والديمقراطيين جرت التغطية على تلك الجلسات، ومنع الحضور الاعلامي لها بحجة سرية القضايا، وحساسيتها، وصلتها بالامن القومي الامريكي.

بعد توقيع الاتفاقية الامنية بين حكومة المالكي والقوات الامريكية التي كانت تحضر لمرحلة الانسحاب، تظل العديد من حقائق السجون الامريكية في العراق وفضائحها في طي الملفات السرية ، ومع ذلك فقد تمت بعدها صفقات أمنية أخرى مريبة، تشير الى حالات من الريبة والقلق؛ خاصة بعد ان بلغ عدد المراكز الامنية وأماكن الاحتجاز والتحقيق السرية وتوسع حالات بناء المعتقلات الجديدة وطريقة توزيع وادارة السجون وطبيعة المحتشدات البشرية التي بلغت بمحصلتها حدودا غير معقولة، وكم من مرة جرى اطلاق سراح عدد من المتورطين في جرائم معروفة، بل ان الفساد في ادارة السجون العراقية جعل من الرشوات والصفقات طريقا لتهريب عدد من المجرمين المعروفين.

وهكذا خرجت الولايات المتحدة بقواتها العسكرية الثقيلة لكنها تركت وزر الملف الأثقل بيد عملائها الدمويين ، وهم الذين حرصوا على توسيع حملاتهم الاجرامية وتصفياتهم الجسدية لخصومهم بعد انسحاب القوات الامريكية، وتسلل المجرمون والجلادون المعروفون بدمويتهم وفسادهم الاخلاقي والسياسي الى الوحدات الخاصة بالتحقيق ونقلت عبرهم خبرات فيلق القدس الايراني ليعيث هؤلاء بما تبقى من العراق فسادا واجراما.

لقد وصلت الاعتقالات والاحتجازات غير القانونية والجزافية حدودا غير معقولة، كما تكرر تأجيل المحاكمات المعلقة الى آجال بعيدة، و تم تغيب القضاء تماما أو تم توظيفه للتغطية على اختراقات فضيعة لحقوق الإنسان، وتصاعد أعداد المحكومين بالإعدام والتنفيذ الجماعي لحفلات القتل المنظم التي غالبا ما صاحبتها حالات تعذيب بشعة بحق المحكومين حتى اللحظة الاخيرة، وهي جرائم ضد حياة الضحايا من المعتقلين. لقد وصل الامر الى تخمين ارقام عن القتلى والوفيات والمختفين عن سجلات السجون بطريقة مريبة ولا يمكن حصرها بالضبط في ظل الفوضى المقصودة وضياع الوثائق.

وبينما تذهب منظمة حقوق الانسان "هيومان رايتس" في تقريرها لسنة 2008 في إحدى تقديراتها: يكون لدى الجيش الامريكي 25 ألف محتجز عراقي، ظلوا معتقلين بظروف لا إنسانية، من دون توجيه اتهامات اليهم، أو مثولهم امام المحاكم. وهنا تدان الولايات المتحدة كدولة ومؤسسات: انها حاولت خلط الاوراق والملفات بين من كانوا من الاسرى المقاومين او المعتقلين السياسيين الرافضين للغزو والاحتلال، والمحبوسين بالشبهات او من كانوا من رجال النظام الوطني السابق، سواء من الذين تم اعتقالهم او تم تسلمهم عبر مفاوضات ووساطات دولية او محلية، وعدتهم بضمان وسلامة حياتهم ، كوزير الدفاع السابق الفريق سلطان هاشم ونائب رئيس الوزراء طارق عزيز. لقد نكث الامريكيون بكل وعودهم وضربوا بما وعدوا الالتزام به عرض الحائط. حتى اصحاب الجنايات العادية دفعت ملفاتهم الى عديد المعتقلات ليزج بهم عشوائيا وسط هذا الحشر البشري المظلوم.

صنف قوات الغزو الامريكي، وإدارة الاحتلال المعتقلين العراقيين بعد عام 2003 ، وبناء على ظروف اعتقالهم إلى أربعة فئات هي:

1. الأشخاص الذين أسروا أو اعتقلوا من قبل قوات الجيش الأميركي أثناء العمليات العسكرية الكبرى من 20 مارس/آذار 2003 حتى 9 أبريل/نيسان 2003.
2. فئة الذين خطفوا أو اعتقلوا بعد سقوط بغداد استنادا إلى لائحة اسمية وزعها الجيش الأمريكي، وعرفت باسم (اللائحة السوداء) وهم الاشخاص المطلوبون من رجال الحكم الوطني الـ 55 الذين سبق وأعلن عنهم من قبل القوات الغازية وعلى رأسهم الرئيس الراحل صدام حسين.
3. فئة من اعتقلوا بعد ذلك التاريخ، بتهمة المقاومة، أو بتهمة التعاون مع المقاومين.
4. فئة المعتقلين العاديين الذين احتجزوا لجرائم عادية مثل السرقة والتزوير وانتحال الشخصيات.
ذكر التقرير الثاني عشر لبعثة الأمم المتحدة لدى العراق بشأن أوضاع حقوق الإنسان في العراق: أن عدد المعتقلين في السجون الأميركية والعراقية كان يقارب 38 ألف شخص ، منهم حوالي 18 ألفا في معتقلات القوات المتعددة الجنسيات بقيادة ألولايات المتحدة.

وفي ذات الفترة من العام 2008 أعلنت منظمة العفو الدولية في تقرير لها ، كان بعنوان: "بين المجازر واليأس.. العراق بعد خمس سنوات": أن عدد المعتقلين يقارب ستين ألف شخص لدى القوة المتعددة الجنسيات والسلطات العراقية، منهم 35 ألفا في مراكز الاعتقال العراقية. وذكر التقرير، نقلا عن الجيش الأميركي أن 80% من المعتقلين كانوا محتجزين لدى القوات الأميركية لوحدها.
ووفقا للجنة الدولية للصليب الأحمر، التي سمح لها بزيارة عدد من السجون العراقية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 اعلنت عن وجود أكثر من ستين ألف معتقل لدى القوات المتعددة الجنسيات وقوات الأمن العراقية.

سجلت الكثير من التقارير والشهادات الموثقة ان المعتقلين والمحتجزين تعرضوا لمختلف أنواع التعذيب المحظورة عالميا، والممنوعة بموجب قانون حقوق الإنسان العالمي وبإجماع من المصادر الرسمية العراقية والأميركية وتقارير المنظمات الحقوقية المحلية والدولية. تصاعدت طرق التعذيب بمعدلات وطرق فضيعة وكانت في اغلبها انتقامية على يد لجان التحقيق المحلية التي نفذت تعليمات الحكومة العراقية او المتنفذين على اوكار وسجون وزارات الداخلية والدفاع والأمن وتوابعها في المراكز التحقيقية السرية، كانت افضعها ما تسرب من اعمال تعذيب خلال فترة حكومة ابراهيم الجعفري ووزير داخليته بيان جبر صولاغ الزبيدي، ومن تلاه بالتعاقب على تسييرمكاتب وزارة الداخلية والدفاع حتى استكمل السيطرة عليها جميعا وقادها شخصيا نوري المالكي بصفته رئيسا للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة وهو المشرف المباشر على وزارتي الدفاع والداخلية والامن والمخابرات لسنوات طويلة.
وصل الامر ان الكثير من ضحايا الفترتين السابقتين، الاحتلال وما بعده، كانوا يقولون ان "أبو غريب يُعد الأرحم بين السجون رغم فضائحه الفظيعة ". وقد سجلت لاحقا حالات وفاة للكثيرين من المعتقلين والمغتالين والمخطوفين ومئات القتلى في ظروف غامضة، وقد جرى التخلص من جثامينهم على الارصفة والطرقات ومنهم من رميت جثثهم على جوانب وأبواب المؤسسات والطرق العامة والأنهار وحتى رمي البعض منهم في الاحياء قصد إشاعة الترهيب والتخويف والابتزاز المقصود .

ويعتقد المختصون واللجان الطبية في المستشفيات التي حمل الى ثلاجاتها المغدورون أن اغلب تلك الحالات قد تعرضت الى الوفاة والموت بسبب التعذيب الوحشي الممارس عليهم حتى الموت .
طبقا للتقارير الدولية والشهادات الموثقة فإن المعتقلين عاشوا ويعيشون أوضاعا إنسانية مأساوية في معتقلات تؤكد حالتها المزرية، تقارير منها تُنسب الى الحكومة العراقية نفسها؛ كونها محتشدات مكتظة بما يفوق طاقتها الاستيعابية من المعتقلين. يعيش المعتقلون فيها ظروفا لا انسانية، ويتعرض الكثير منهم الى التهم الكيدية وتقارير ووشايات المخبر السري، ومن المحكومين ومنهم تمت براءتهم من قبل محاكم جرى اعادة التحقيق معهم وابقائهم من دون محاكمة مرة اخرى كرهائن الى أجل غير مسمى حتى يتسنى تدبير تهما جاهزة ضدهم واغلبها تهمة " الارهاب". . وحسب تقرير منسوب الى دي ميستورا سجلت فضاعة الكثافة البشرية للمعتقلين "في أحد السجون، اين وجد حوالي 123 سجينًا في زنزانة واحدة مساحتها لا تتجاوز 50 مترًا مربعًا".

تمتد مظاهر القمع والتعذيب والابتزاز الى عوائلهم وأبناء أحيائهم وأصدقائهم وحتى محاميهم، ومن زارهم من الاقارب والمعارف وصلات الرحم العائلية، ووصل الانتقام حتى من المحامين والاعلاميين، أو ضد من إطلع على ظروف مأساتهم وكتب عنهم او رفض الشهادة ضدهم.
من صنوف التعذيب التي استخدمها الجنود الأميركيون وقوات التحالف وقوات الأمن العراقية بعض مما تم توثيقه وتسجيله :
• العزل والحرمان.
• الضرب والتجويع.
• الإهانة والسب، والتعرية والاعتداء الجنسي والاغتصاب.
• التبول على السجناء.
• الصعق بالصدمات الكهربائية على أجزاء حساسة من الجسد.
• التعرض لدرجات الحرارة والبرودة القصوى لفترات طويلة.
• التعليق من الأطراف.

ورغم كل ما سجل ونشر ووثق بالصورة والصوت، ظل المسؤولون العراقيون وممثلي وزارة العدل، خاصة ، ينفون تعرض المعتقلين للتعذيب، ويكررون القول: "إنها مجرد ادعاءات" بل وصلت الحالة بالمالكي ان اعتبر حكم الاعدام وسيلة إصلاحية لا بد منها ، أما وزير عدله فانه لم يتوان عن الافتخار بتصاعد أرقام المعدومين بالعراق.
نظرا لانعدام ظروف الشفافية لدى الامريكيين وتابعيهم اللاحقين في حكم العراق ظلت الاعداد الحقيقية من الاسرى والمعتقلين والسجناء مجهولة وغير موثقة، وزاد الموضوع تعقيدا ان المنظمات الدولية ولجان حقوق الانسان داخل العراق وخارجه كانت تجهل وضعية تلك السجون التي سلمتها القوات الامريكية، وقد اضيفت لها مراكز تحقيق واعتقال وسجون اخرى غير معروفة، تسلطت عليها المليشيات الطائفية التابعة للحكومة او الاحزاب المتشاركة في السلطة، فكان الرقم الذي صرح به النائب العراقي السابق محمد الدايني وما عرض على لجان البرلمان العراقي يقترب من وجود أكثر من 420 سجنًا سريًا انتشرت في عموم العراق، وحينها ناشد محمد الدايني هيئات الأمم المتحدة التحقيق في اوضاع تلك السجون , وأكد النائب محمد الدايني، حينها، في مؤتمر صحافي، عُقد في جنيف، أن بعض تلك السجون موجود تحت الأرض، وأن زنزانات أخرى جرى التمويه عليه وجعلها كقطاعات من معتقلات خاصة ظلت في وضع السرية، حتى وان كانت تحتل أجزاء من السجون الرسمية أومؤسسات الدولة كمطار المثنى ومقرات حزب الدعوة السرية منها والعلنية .
رغم ان اغلب من سيقوا الى محاكم حكومة المالكي لاحقا بتهمة "الارهاب" فان حكومة الولايات المتحدة لا زالت تلتزم الصمت المريب وسكتت عن مصير ضحاياها من الاسرى والمعتقلين الذين سلمتهم لحكومة المالكي بعد انسحابها المزعوم من العراق، وهم اليوم يواجهون تهما جديدة ومتجددة ومفصلة حسب طلبات الحاكم الطائفي، وهم يواجهون احكاما بالابادة من لدن حكومة غير شرعية، جاءت وهي تحمل في رأسها مسبقا مخططات الانتقام من خصومها السياسيين وشعارها الاجتثاث لكل من يخالفها الرأي وهي تسعى الى تجريم الآخرين وتتناسى جحيم جرائمها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصمت المخزي حول أوضاع اسرى الحرية في العراق.. من الاستجواب الى الغرغرينا
[القسم الثاني]
لقد وصم التاريخ تسمياته التي تدين للعقائد والممارسات العسكرية لكل احتلال كالفاشية والنازية وغيرها وعبر العالم في كل الظروف عن احترامه وتكريمه للمقاومات الوطنية التي تواجه العسف الاستعماري والقمع الدموي.
ورغم أن تجارب الأمم الحية ذات التاريخ الحضاري، بما فيها تلك الأمم التي تورطت نخبها بممارسة غرور القوة والغطرسة إلى التورط في جرائم يندى لها الجبين الانساني، وهكذا سقطت الولايات المتحدة في وحل بتنفيذ الغزوات والمجازر وتكريس ظرف الإحتلال بالقوة ضد الشعب العراقي، زاجة في سجونها وسجون حلفائها مئات الالوف من صفوة الرجال والنساء الاحرار من ابناء الشعب العراقي ممن رفضوا هذا الاحتلال وقاوموه قد استطاعتهم سياسيا وعسكريا.

وعندما أقدمت ادارة الاحتلال الامريكية على ارتكاب المجازر بحق شعبنا ومارست قواتها ابشع طرق التعذيب وانتزاع الاعترافات في سجون ابو غريب والمطار .... واطلاق الاحكام إلا أن الكثير منها بعد صحوتها من تلك الغطرسة لا بد أن تدرك مسبقاً أو لاحقاً، إن لكل احتلال نهاية، وان لكل احتلال مقاومة، ومقابل كل غزوة استعمارية، ستكون هناك انتفاضات وثورات وحتى حرب تحرير. وفي خضم تلك المراحل سيسقط بيد العدو الكثيرين من هؤلاء الرافضين والمنتفضين والمقاومين، أسرى ومعتقلين، إضافة إلى الشهداء.

وان هؤلاء الأسرى المقاومين سيكونون، لا محالة، أيقونات للحرية وأمثلة للرجال التي ستفتخر بهم أمتهم، وأجيال العراقيين المتعاقبة ، ومنهم أيضا سيختار شعبنا المنتصر باذن الله في معارك الحرية سادة للعراق، ومنهم سيكون أيضا ذلك الجزء الهام من قادة البلاد المحررة. ولهذا المثال وغيره تسجل العديد من الأمم احترامها لأسراها ومفقوديها وشهدائها، ومهما كانت التهم المفبركة اليوم ضدهم أو تلك التي وجهت ضدهم، خاصة وإن شعبنا قد خبر تاريخ الرجال والنسوة المجاهدين، وهم الذين خاضوا ببسالة، وبإراداتهم المعارك الشرسة ضد الاحتلال واحتلوا أماكنهم الرائدة في تجارب الكفاح المسلح والنضال السياسي لشعبنا، كثوريين ووطنيين مقاومين.

وفي كل حركات التحرر الوطنية تقدم الوطنيون إلى واجهة المعارك المسلحة والسياسية، والكثير منهم يعرف مُسبقاً إن الدروب إلى الحرية ليست مفروشة دائما بالورود والرياحين، وليس هناك من ضمان الانتصار في كل مواجهة، وطريق الثورة عسير وليس فيه من محطة اسهلة أو مريحة، وإن لم تتعمد الثورات والانتفاضات بالدماء وتنشد لها الحناجر بهتافات النصر، وتسمع آذان الجلادين صرخات المعاناة في مجاهل المعتقلات فإنها لا تنتصر. والمناضلون من أجل الحرية، يدركون إحتمالية الوقوع في الأسر، ومواجهة المحاكم العسكرية والإستثنائية، وحتى انهم قد هيأوا أنفسهم، نفسيا ووجدانيا لسماع أحكام الإعدام ضدهم أوإحتمال السجن المؤبد، لكنهم بتفائلهم الثوري يظلون منتظرين لفجر الحرية، وفي اي وقت سيقرره شعبهم وجماهيرهم عند الثورة والمقاومة والانتفاضة الباسلة.

ولأنهم من صنف القادة الوطنيين، فان سلطات الاحتلال والأنظمة الدكتاتورية والعميلة، غالبا ما تعزلهم في الزنازين، ظنا منها انها يمكن أن تقتلهم بالعزلة ومحاولة فصلهم عن قضاياهم العادلةح لذا تتعمد اهانتهم، والانتقاص من إنسانيتهم، ومحاولة النيل من معنوياتهم، وتلجأ في الى وضعهم في سجون قد تضم ذوي السوابق العدلية لاجبارهم على التعايش مع اللصوص والسرُاق وعتاة المجرمين من المحكومين لقضايا جنائية أو فساد؛ وبذلك تجعل سلطات القمع من هؤلاء الأبطال في الموقع الحرج وسط عالم من الإجرام والقتلة والشواذ، وهو أسلوب متعمد ورثه الجلادون من تعليم جلاديهم وأسيادهم، في العراق يحاول الجلادون من خلال تلك الاساليب كسر روح المقاومة لدى هؤلاء الابطال من السجناء والأسرى الذين تناقلتهم السجون والمعتقلات الامريكية الى ايادي سجون العملاء .

في كل الحالات عبرت إرادات السجناء والمعتقلين والأسرى عن روح إنسانية عالية، حتى تجاه سجانيهم وجلاديهم، عندما تكفلوا، بصبر يُحسدون عليه، حتى برعاية هؤلاء المجرمين من زملاء السجون، بهدف إصلاحهم، وتفهم دوافع إجرامهم، وتفهم سقوطهم في الرذائل وعالم الاجرام. وتسجل الكثير من الحالات الرائعة في مدارس التجارب الثورية والنضالية في العالم، ومنها مئآذر عراقية لا يبمكن حصرها، كيف صارت للسجين السياسي رسالة إنسانية أخرى، تضاف الى دوره الثوري، كمحرر، وقائد، عندما عمل الكثير من المناضلين والثوريين على كسر إرادة السجان وإحباط دوافعه ونوازعه الانتقامية ضد الآخرين، وعرف هؤلاء الثوريون الصامدون كيفية التعامل مع السجان وادارة السجن والقضاة الفاسدين ومؤسسات حقوق الانسان المزيفة. هؤلاء جميعهم بنظر الفكر الثوري هم بشر ومواطنين من أبناء جلدتهم تعرضوا الى الانحراف وتشبعوا بالاحقاد، بحكم حصولهم لوظيفة ساقطة كلفته بها السلطة، او تغذية طائفية او سياسية مغلوطة التوجه الانساني.

لقد سجلت تجارب السجون والمعتقلات في كثير من البلدان، ومنها بلادنا، والحالات الكثيرة لثوار من دول العالم، أين واجهت إن المناضلين، ضحايا الاضطهاد، حالات غنسانية مشرفة لهم، حيث عاملوا سجانيهم بتفهم ودراية كبيرة، وبسمو إنساني، مهما كانت درجة حقد الآخر وتعبئته ضدهم. و في حالات عديدة أعادوه جلاديهم وسجانيهم إلى محيطهم الإنساني، وفي حالات كثيرة أجبروهم، بإنسانيتهم السامية، إلى التراجع أمام تلك الشجاعة اللا متناهية التي يمتلكها الكثير من الأسرى والقادة السياسيين ، خاصة، من أؤلئك المؤمنين بحتمية انتصار الحرية والإنعتاق، لا لهم وحدهم، ولا لشعوبهم فقط؛ بل حتى لتحرير السجان والجلاد وإنقاذهم من مظالم السقوط الأخلاقي كمجرمين إمتهنوا التعذيب والقسوة والابتذال الانساني.

في حالات عدة، نقرأها من كم من المذكرات الرائعة لمناضلين وثوار، أو حتى لأشخاص أوقعتهم ظروفهم الوظيفية او المهنية أو السياسية المتطرفة للعمل في إدارات السجون ووزارات العدل والمحاكم ولجان التحقيق، فنجد في نصوصهم، بعد صحوتهم، اعترافات ذات قيمة إنسانية هامة، بعضها امتلكت الشجاعة بالإعتراف، وبعضها تمتلئ بالندم الكبير عن أفعال شانئة، ومنهم من حاول التنصل عن المسؤولية، ولاذ ببعض الأعذار، بعد غياب الشهود والتوثيق، عن مثل تلك السنوات السوداء التي قضوها بعض الجلادين في ممارسة التعذيب والقسوة مع ضحايا الاعتقال السياسي، ومنهم من خدمة الاحتلال الاجنبي لبلاده او النظام السياسي القمعي الذي جندهم كموظفين في مؤسسة القمع التي طالما ما حملت عنان " العدالة".

القليل منهم تحلى بالشجاعة لتحمل مسؤوليته الاخلاقية الكاملة عن ممارساته وقبوله الانخراط الطوعي في خدمة أحط الوظائف التي تحتقرها الانسانية جمعاء الا وهو التعذيب وادانة الابرياء عن طريق انتزاع المعلومات.

عندما نراجع مذكرات بعض الجلادين النادمين عن أفعالهم المشينة، خاصة ضد الصفوة الثورية من أبناء الامم الأخرى، ممن رفضوا الاحتلال والاستكانة لشروط الإلغاء الاستعماري لكرامة شعوبهم التي طالما سعت اليها إدارات الاحتلال ومعاونيهم من الخونة، لفرض الاستسلام على الخصم المقاوم العنيد سنستفيد منها عندما تحين لحظة نمفيذ العدالة الانتقالية ليأخذ كل منهم حقه أو عقابه .

لقد بات ذلك الجزء من تلك الافعال في خانة العار الانساني الذي تخجل منه الامم والشعوب التي مارست نخبها وقواتها وجلاديها الفعل المشين بحق الغير. ولا نظن ان احدا من ابناء واحفاد الجستابو الألماني ، ومن أدار سجن غاونتانامو او ابي غريب او سجون أو بوكا أو سجون العدو الصهيوني ، وكل من شارك في اعمال لجان التحقيق في الكثير من سجون الانظمة العربية، وحتى من تجند جلادا وقاتلا في صفوف المليشيات السياسية والطائفية سيفتخر يوما بوظيفة ابيه او جده، كان عنوانه كجلاد أو سجان، او المخبر السري، ، أو محقق يحترف انتزاع الاعترافات وإملائها وفق هواه .

لقد بات العار أبديا بحق كل هؤلاء وهم أورثوه وسرثوه الى أبنائهم وعوائلهم وعشائرهم وأحفادهم.

قد تبدو للبعض من هؤلاء الجلادين أن السجين أو الأسير الأعزل سيكون في موقع الضعف والعزلة والنسيان في مجاهل الاعتقال لحظتها. وقد تبدو لبعض الجلادين انه السلطة المقررة لحياة إنسان، يبدو في نظر الجلاد ضعيفا أو أعزلا، وهو يقف أمام جلاده المدجج بالسلاح، والمتمترس في قلاع السجون والمعتقلات، تحرسه وحدات مدربة خاصة تحترف الإيذاء الجسدي والمعنوي للسجين، ويتعامل مع النصوص القانونية كأدوات للتجريم والإسقاط العمدي في تهم جاهزة ومعدة على المقاس المطلوب، لكن مثل تلك الملاحظة والوهم الذي عاشه كل الجلادين كثيراً ما يسقط ويتراجع أمام الحقائق الصادمة التي أفرزتها مواقف وتجارب المناضلين الصلبين ومذكراتهم التي باتت دروسا هامة من صفحات التاريخ الانساني.

إذا ما عرفنا الكثير من الأمثلة التي تعيد المواجهة بين المعتقل والسجين وجلاده إلى الاتجاه المعاكس تماما، فهؤلاء الأسرى يتصفون أولا بالشجاعة والايمان بقضاياهم ، وبقدرات لا حدود لها من الصبر والذكاء والفطنة والتسلح بالإرادة والصمود، وحتى بإمكانيات النجاح في إدارة التنظيمات الثورية، والارتباط مع بقية المناضلين الآخرين داخل وخارج السجن.
وعندما تنضج ظروف التنظيم الناجح بين المناضلين في السجن الواحد او عبر مجموعة من السجون والمعتقلات تبدأ معارك الاحتجاجات ضد المظالم والتعذيب والمعاملة اللا انسانية، تبدأ برفع المذكرات والاتصال بالمنظمات الحقوقية والمحامين، وبعدها الشروع بتنظيم الإضرابات، وصولا الى الاضراب عن الطعام، كحالة تحدي قصوى بمقابلة القمع بالجوع والاستعداد الى الموت والشهادة، لفضح سلوكيات السجانين وإدارات المؤسسات العقابية التي تُسير تلك السجون، وبالتالي فضح الانظمة وسلطات الاحتلال.

يكرر وزير العدل الفرنسي الأسبق إدمون ميشليه، الذي استوزره الجنرال ديغول خلال السنوات الاخيرة للاحتلال الفرنسي للجزائر أواخر الخمسينيات من القرن الماضي إعجابه بقدرة جبهة التحرير الوطني الجزائرية على تنظيم مناضليها، والاتصال بأسراها في أعماق مجاهل السجون الفرنسية الرهيبة.

ويعترف الوزير باعجاب عن تلك القدرة لهؤلاء المناضلين والمجاهدين الجزائريين وقدرة النجاح لجبهة التحرير الوطني الجزائرية ومناضليها على تنظيم مواطنيها سواء داخل الجزائر المحتلة او في بلدان المتروبول [ داخل فرنسا]، على الجهة الأخرى من المتوسط، ويعترف ذلك الوزير بنجاح الثورة الجزائرية وقدرة قيادتها على ربط المناضلين احرارا كانوا او معتقلين في الانخراط بتنظيمات الثورة، ومواجهة كل الظروف والاحتمالات التي يفرضها الالتزام الثوري للوصول بقضية التحرير الى الانتصار النهائي ونجاح الثورة.

وبهذا عبر الوزير الفرنسي عن تجربته وإستخلاصاته من وظيفته ومهامه كمشرف عام على السجون الفرنسية فيتوصل إلى الحقيقة الثابتة التالية : إن تلك القدرة التنظيمية العالية هي سر الانتصار التالي الذي حققه المناضلون الجزائريون بتحرير بلدهم. وهنا اجد من القيمة ذكر مثل هذه الامثلة لثوار واسرى العراق وهم في سجونهم الرهيبة. وهي تذكرة للجلادين الجدد الذين يتحدثون عن مظلومياتهم وينسون جسامة مظالنهم المرعبة في العراق.

ورغم أن الرجل الفرنسي، إدمون ميشليه ، الذي سبق له ن عاش سجينا في ظروف الاحتلال النازي لفرنسا، لكنه تناسى كل دروس الحرية حين ظن أن التجارب الثورية للشعوب قد تختلف من حالة إلى أخرى، وعندما قبل مهمة الاشراف على وزارة العدل الفرنسية، وعندما تقلد وظيفة تسيير المظالم في وزارة العدل الفرنسية وجد أنه لا يمكن ان يكون للعدل فيها موقعا؛ طالما ان دولته تمارس الاحتلال والقمع والاستباحة لبلد وشعب الجزائر الذي ظل يطالب بالحرية والاستقلال طوال 130 سنة من العهد الاستعماري والاحتلال.

ربما يكون إدمون ميشليه، من القلائل الذين أدركوا استحالة تحقيق عدل في ظل سلطات الاحتلال، لكنه رغم ذلك قبل المهمة التي كلفه بها الجنرال ديغول بمهمة تسيير وزارة العدل وسجونها ولجان تحقيقها فوجد نفسه أمام السؤال المحير الذي عاشه وهو سجين مقاوم يطالب بتحرير فرنسا من الاحتلال النازي. اعاد السؤال على نفسه وزيرا : من هم هؤلاء السجناء من الجزائريين الذين يقفون أمامه؟، وتصل الى مكتبه تقارير السجون والمعتقلات التي تزدحم بعشرات الالوف منهم، وخاصة ملفات القادة والاسرى؟؟ . وفي لحظة شجاعة ومراجعة مع الذات فجاب في قرارة نفسه : هؤلاء هم قادة دولة الغد للجزائر المحررة، ولا يمكن لاي سبب من الاسباب قبول إهانتهم بالتعذيب وانتزاع الإعترافات منهم بطريقة مخجلة، لان الغد يبشر بالانتصار لهم، مهما طالت ليالي الاحتلال، وتراكمت عذابات الأسر، وطال البعد لهم عن الأهل والأوطان.

أمام ذلك الوزير الفرنسي مرت ملفات العديد من قادة الدولة الجزائرية، ممن كانوا في الأسر، اليوم منهم الكثيرون يتذكرون تلك العذابات والمعاناة القاسية لهم عندما كانوا في الأسر الفرنسي، ومنهم الكثير من قادة جبهة التحرير والثورة الجزائرية، كام منهم الرئيس الراحل احمد بن بله والمناضلين محمد بو ضياف وحسين آيت احمد، ورابح بيطاط ومحمد خيضر، ومصطفى الأشرف التي خطفتهم القوات الفرنسية في أول قرصنة جوية يسجلها التاريخ المعاصر عندما تم اجبار انزال طائرتهم المدنية على النزول بالقوة وتم اعتقالهم. غيرهم الالوف من الشهداء والمجاهدين، كثيرون منهم لم يكتبوا بعد وصفا لمعاناتهم وحالات تعذيبهم، ولا يمكن أبدا أن تحصى حالاتهم وتعداد سني اعتقالهم وحجم معاناتهم وما تعرضوا له من طرائق التعذيب التي باتت تخجل مجد فرنسا الاستعمارية عندما لجأت لجان التحقيق انتزاع اعترافاتهم أو إسقاطهم سياسيا ونضاليا في دولة صدعت أسماع العالم بشعارات الثورة الفرنسية . [المساواة والاخوة والديمقراطية].

في داخل السجون الفرنسية عرف القادة الجزائريون كيف يتواصلوا مع قواعدهم الثورية وشعبهم من داخل وخارج السجون، وكانوا مؤمنين بثقة، رغم ثقل الاحكام الاستثنائية ضدهم، بأنهم منتصرون لا محالة،، ومهما كانت ظروف اعتقالهم فهم سيبقون مناضلين سياسيين وثوريين ثابتين على مبادئهم، ولهم قضية وطنية واحدة، يجب ان يعرفها العالم هي التحرير وانتزاع النصر من المحتل، وبكل الوسائل الممكنة، بما فيها النضال الصلب من داخل السجون والمحتشدات والمعتقلات والنفي البعيد.

إن الأحداث السجنية، ومنها إضرابات الجوع، كانت وستبقى من وسائل الكفاح الثوري، في ظروف لاتكافؤ فيها، بين الضحية وجلاده، لكنها إحدى الوسائل التي تقود الى الانتصار وفضح التعذيب، وتعرية سلطاته اخلاقيا، وهي وسيلة نضالية تنشر أخبار معاناتهم إلى العالم القريب والبعيد، ومن اهدافها تحريك الوعي لدى أسرهم وشعوبهم وشعوب الآخر، وإضرابات الجوع تصل في تأثيراتها حتى إلى جبهة سكان النظام الاستعماري ومجتمعاته ونخبه الفكرية والسياسية وتحدث صدمة والشعور بالعار، حتى باتت تقليدا ثوريا لكل أحرار العالم عندما يلحقهم الأذى في ظروف الاعتقال القسري.

من هنا صارت أخبار صمود المعتقلين والاسرى وتدهور صحتهم والتزامهم القرار والتضامن مع بقية زملائهم تحتل موقع الصدارة في التضامن الانساني لكسب التعاطف معهم وضمان ديمومة التضامن الوطني والعالمي لهم ، ليس معهم كسجناء فقط ؛ بل كمناضلين يسهمون، وهم في الزنازين في كفاح شعبهم الجاثم تحت الاحتلال ببطون خاوية.

ان جبهة العدو العسكرية والسياسية تخشى أن تفضحها إرادة السجناء والأسرى والمعتقلين، فتحاول التكتم على ممارساتها القمعية، لذا تسعى بكل الوسائل على تكميم الأفواه ومحاولات تشتيت تنظيمات المناضلين والثوريين والاسرى وعزل قياداتهم وطلائعهم الواعية ، لكن مثل هذه القضايا ستواجه جدارا صلبا من الإرادات المؤمنة بالانتصار، التي لم يحسب لها السجانون حسابا عند بداية أي إضراب معلن من قبل السجناء، وسرعان ما تكون تلك الاحداث مصدر احراج وحساسية حساسية شديدة للسلطات القمعية ونخبها السياسية، تبدأ ردود الافعال القمعية بالتصاعد مع ظهور ابسط المطالب الانسانية للسجناء، لكنها في النهاية ستتراجع صاغرة أمام إستمرار اراداتهم وصمودهم، وهم يقدمون حياتهم مقابل الخلاص من عذابات العدو ومحاولته قهرهم في السجون.

إن صدى صمود السجناء في العراق وفلسطين وغوانتانامو وسجون الانظمة القمعية في كل انحاء العالم يظل مدرسة للحرية لكل شعب يحترم تاريخ كفاحه من اجل الخلاص من الذل والقهر والاستبداد. وان صرخة الحرية في أي سجن تخاطب العالم الحر كله، وغالبا ما تكسر قانون الصمت وحديد الزنازين ووحشتها وصلافة جلاديها.
من السجناء القليل ممن أُتيحت لهم الفرصة فكتب ونشر تجربته النضالية ، ومنهم من تمكن أن يعبر عن إرادته في المقاومة على جبهة فضح الجلادين اينما كانوا، لإلحاق الهزيمة في صفوف أعداء الحرية وفضح السلطات الغاشمة في كل مكان. لدينا تجربة هامة للمناضل الجزائري الراحل بشير بو معزة حين كتب عن تجربته في كسر قانون الصمت الاستعماري، وهو من قاد يوماً عددا من الإضرابات البطولية للقادة الجزائريين المحتجزين داخل السجون الفرنسية، وعلى ارض فرنسا الاستعمارية عبر البحر، وقف معه ولبى نداءه كل مناضلي الثورة الجزائرية، قيادة وقواعد.

المجاهد الثائر الراحل بشير بومعزة، المسؤول السابق في فيدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا كان المسؤول، في ذلك الوقت، عن إضراب معتقلي جبهة التحرير الوطني المسجونين في معتقل قرين، اهتدى إلى أن الإضراب عن الطعام داخل سجن قرين سيهزم جبروت فرنسا الاستعمارية في عقر دارها. وفرنسا الاستعمارية ظنت ، بعد عجزها بوسائل التعذيب وتنفيذ حكم الإعدام، أن تهزم إرادة المعتقلين الجزائريين بالترهيب داخل السجون مهددة إياهم بالموت البطئ، واظهرت اللامبالاة تجاه وضعهم الإنساني والصحي وهم يقتربون من لحظة الموت جوعا ببطون خاوية. دولة الديمقراطية والحرية والمساواة وسلطاتها الاستعمارية والاحتلالية كانت تشاهد أحرار الجزائر يتساقطون الواحد تلو الآخر في زنازينهم، بتأثير الجوع والعطش والآلام والأمراض الأخرى.

لكن الدرس الذي تعلمته فرنسا، وإدارات سجونها، أنها كلما حاولت كسر الإضراب عن الطعام وتفتيت تنظيمات المضربين وعزلهم عن بعضهم البعض، زادتهم ممارساتها قوة وصلابة وإرادة اكبر. في احد المرات، وفي عهد الوزير إدمون ميشليه، وكما يسجل مستشاره آنذاك، إرفيه بورج، في كتابه " ذاكرة عصر" : سارع السجانون إلى قطع المياه عن المعتقلين الممتنعين عن تناول الطعام، فيما وزعت ادارات السجون الحليب عليهم، كانت الفكرة لدى السجانين: أن المعتقلين، عندما يشربون الحليب بدل الماء، فإنهم سيتغذون، وسيفشل إضرابهم عن الطعام، لكن المعتقلين والاسرى الجزائريين لم ينخدعوا بتلك المحاولة، فواصلوا الاضراب، ورفضوا إطفاء عطشهم بالحليب المتوفر في الزنازين، استمروا على اضراب الجوع وهم يدركون إن فقدان السوائل تدريجيا من أجساد المضربين سيقود إلى هلاكهم وبسرعة.

وعندما أدركت السلطات الاستعمارية الفشل بكل تلك المحاولات، سارعت بإطلاق الماء إلى الحنفيات. وتلك معركة سجلها بشير بومعزة، ووردت في كتابات العديد من المنصفين الفرنسيين، ومنهم بيار هنري سيمون في صرخته في كتابه " ضد التعذيب"، الصادر من دار نشر لوسوي بباريس 1957، وكتاب الصحافي المعتقل والمُعذب هنري أليغ، المعنون "الاستجواب" الصادر باريس في عام 1957. بعدها قام بشير بومعزة بفضح التعذيب في الجزائر في كتابه الصادر بالفرنسية الذي عنونه " الغرغرينة"، مستندا إلى التحقيقات التي جرت معه شخصيا فاضحا جرائم الاستعمار ضد الاحرار الجزائريين وكتابه يظل وثيقة هامة ودامغة تكشف العار الاستعماري وهمجيته في تصفية المناضلين وتعذيبهم. حينها فقد بشير بو معزة كل أسنانه على اثر الحرمان الطويل من الطعام الذي فرضه على نفسه في إطار مشاركته في تلك الإضرابات الباسلة عن الطعام التي أطلقها في سجون الجزائر لوقف صلافة ادارات السجون ولجان تحقيقها وممارسات التعذيب.

ورغم معاناته الصحية، وانهيار صحته، وهزاله الجسدي الذي لازمه لعقود طويلة حتى وفاته قبل سنوات، تمكن بشير بومعزة، وبإرادة حديدية من الهرب من سجن قرين الرهيب. يروي عنه "ارفيه بورج" في مذكراته بكتاب " ذاكرة عصر" : ، وكان في حينها مستشارا في ادارة السجون، وكلفه وزير العدل الفرنسي بمتابعة اوضاع السجناء الجزائريين لدى مكتب وزارة العدل، فيعترف إرفيه أيضا: انه تعلم كثيراً من تجاربهم، وتوصل منذ نهاية الخمسينيات إن هؤلاء السجناء والأسرى سيكونون هم قادة المستقبل في الجزائر المستقلة، وعلى ضوء تلك العلاقة المحترمة التي مارسها داخل السجن معهم، كان إرفيه يرسم مستقبل العلاقات الفرنسية الجزائرية مستقبلاً.

وبعد نيل الجزائر استقلالها في الخامس من تموز/ جويليه 1962 حظي إرفيه بورج باحترام قادة جبهة التحرير والجمهورية الجزائرية المستقلة ، وتم استدعائه حالا للعمل في إدارات الدولة الجزائرية الفتية في اول حكومة لها وفاء للموقف الذي وقفه مع احرار الجزائر خلال فترة سجنهم بفرنسا . بعد إعلان الاستقلال مباشرة صار إرفيه بورج من أقرب الشخصيات العاملة في مكتب أول رئيس للجمهورية الجزائرية صيف 1962، أين عمل في مكتب الرئاسة بجانب الرئيس الراحل احمد بن بله، وعمل مستشارا له، وتم تكليفه بعديد المهام الوطنية والدولية، وانتقل بعدها ليكون اقرب مساعدي أول وزير للشباب والرياضة في اول حكومة بعد الاستقلال، كان يقودها الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، ومن ثم التحق إلى وزارة الاقتصاد، ليعمل جنبا إلى جنب مع بشير بومعزة، حتى لحظة مغادرته الجزائر حينها. وظل إرفيه وعديد من كتاب وممثلي اليسار الفرنسي ممن رفضوا التعذيب والاساءة لاحرار الجزائر اصدقاء تكن لهم الجزائر وشعبها كل الاحترام والتقدير.

ومن شهادة إرفيه بورج في كتابه " ذاكرة عصر" يشير بورج إلى ذكريات القادة الجزائريين عن سجانيهم وعن أماكن اعتقالهم، وما عاناه البعض من صنوف التعذيب، ومنهم بشير بو معزة، الذي عاد من منفاه، وأسس جمعية 8 ماي 1945، ونشط في الدفاع عن القضية الفلسطينية واستنكر الحرب على العراق وحصار الشعب العراقي في كل كتاباته وندواته ومحاضراته داخل الجزائر وخارجها. ظل بومعزة وفيا للحرية وللاحرار في كل مكان حتى رحيله عن هذه الدنيا. وفي عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أصبح بشير بومعزة رئيسا لمجلس الأمة، ثاني موقع في ادارة الدولة الجزائرية، وخلال تلك الفترة زار بشير بومعزة باريس في ماي من عام 2000 ، قبل شهر من زيارة الرئيس بوتفليقة الى باريس. وهناك قال بومعزة وعلى رؤوس الأشهاد، في حفل أقامه على شرفه " جان بيير شفينمان" بالقرب من ساحة بوفو بباريس. خلال حفل العشاء كان ارفيه بورج مشاركا فيه والى جانبه : قال بو معزة مؤشرا للمكان القريب من ذلك الحفل : قبل أكثر من أربعين عاما، جرى تعذيبي في هذا المكان من قبل مديرية الأمن الوطني الفرنسي [DST]. قالها وهو حر ومسؤول كبير في قيادة الدولة الجزائرية، ذلك هو حكم العدالة الذي ينتظر كل مناضل، الذي صير اؤلئك الاسرى الى رجال دولة، كانوا بالامس يواجهون جلاد الاستعمار، وهو اليوم يذكرهم بمعانات شعبه، وهاهم الاحرار يقودون، دولة مستقلة، سيدة وحرة.

كم هي الحالات التي يعيشها اليوم سجناء العراق وأسرى فلسطين، وهم يعتصرون الإرادة من الام معدهم الخاوية، الاخبار وصلت عن انتصار جزئي للأسرى الفلسطينيين عندما حولت جماهير شعبهم قضيتهم واحدة في داخل السجون وخارجها. السجناء الفلسطينيون يسطرون ملحمة من ملاحم الحرية، ويشدون بآلامهم تلاحم أبناء شعبهم، وهم يفضحون ديمقراطية الصهاينة المغطاة بقانون الصمت الذي يفرضه الرعب اليومي للجلادين في السجون والزنازين الإسرائيلية. هؤلاء الإسرائيليون الصهاينة الذين تاجروا بمظلوميات اليهود وقصص معاناتهم في السجون النازية والادعاء بمحارق " الهولوكوست" يكشفون عن جهلهم لحقائق التاريخ المخلد لأبطال المقاومات الوطنية وحتمية انتصارهم ، طال الزمن أم قصر، ظلت رغبة الانتقام لدى الصهاينة حمقاء وعمياء من رؤية دروس التاريخ، وهم في سجون الاحتلال الصهيوني حيث تحل محل ممارسة الحق والتعامل مع الخصم برجولة، دوافع الإنقام والإبادة.

وفي الوقت التي تتناقل وكالات الانباء وتقارير لجان حقوق الانسان فداحة وجرم الممارسات التي تقوم بها ادارات السجون في الحكومة العراقية منذ الاحتلال الامريكي للعراق، هناك كثير من التقصير والتهاون في تجنيد كل الامكانيات لفضح جرائم التعذيب والمحاكمات والاحكام المستندة الى محاضر الاعترافات المنتزعة بوسائل التعذيب والاهانة لكرامة السجناء والاسرى والمقاومين وابتزازهم في شرف عوائلهم ونسائهم يجري التكتم من كل الاطراف المشاركة في العملية السياسية عن اخطر الممارسات الاجرامية لحكومة المالكي وقضائه المسيس ولجانه التحقيقية المسيرة من قبل المليشيات الاجرامية التي اخترقت وزارات العدل والقضاء والاعلام والداخلية لتشكل وحدة من وحدات الجريمة المنظمة المكلفة بتصفية احرار العراق وقادة مقاومته الوطنية الرافضة للاحتلال ولحكم العملاء.

لجان التحقيق في العراق والعصابات المنظمة التي اخترقت جسد السلطة بات ديدنها الحصول على الاعترافات والإفشاءات وتقديم شهود الزور ، وتنظيم مسرحيات المحاكمات الشكلية، حتى وان كانت ملفاتها مفبركة ومنتزعة اعترافاتها تحت التعذيب. مهمة حكومة المالكي باتت أكثر وضوحا بعد خدمة الاحتلال وتنفيذ بنود الاتفاقيات الامنية صارت تسعى وفي سباق مع الزمن لإسقاط الأبرياء وارتهان القادة المقاومين كأسرى. ووصل الامر الى تنظيم الاعتقالات بحق حلفاء الامس من شركاء العملية السياسية. وهكذا ينمو الغول الذي تباكى يوما على المظلوميات الطائفية ليصير كابوسا جاثما على صدر شعب العراق.

هذا الكابوس اللا إنساني وممارسات التعذيب وتنظيم المحاكمات القمعية من قبل حكومة تدعي انها تمثل " دولة القانون" في العراق تفضحها تقارير الامم المتحدة والمنظمات الانسانية ومنظمة العفو الدولية، وتقابلها الإضرابات البطولية والمطالبات الحقوقية والإرادة الوطنية العراقية لانتزاع الحقوق ووقف المظالم وتصليب الارادات التي لا تلين أمام قانون الصمت الاستعماري والإحتلالي والطائفي والإثني المتطرف في العراق.

وكما سقط دعاة الجزائر فرنسية بالأمس، وسودوا صفحات مذكراتهم بالخزي؛ فان دعاة إسرائيل دولة يهودية على تراب فلسطين، هم على طريق تدوين فضائح السقوط الصهيوني والى الأبد. كما سيسقط معهم العملاء وقادة المليشيات والحكومات التي تتغنى بالمظلوميات التاريخية والطائفية وباسم الممارسة الديمقراطية التي باتت جرائمها تزكم الانوف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق