قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الثلاثاء، 11 فبراير 2014

المحامي حسن بيان: الحركة الوطنية المصرية وواقعها في الحياة السياسية

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
الحركة الوطنية المصرية
وواقعها في الحياة السياسية
 
شبكة البصرة
بقلم المحامي حسن بيان
 
مقدمة:
طرحت الأحداث التي تعيشها مصر منذ انطلاق الحراك الشعبي وحتى تاريخه، تساؤلاً مهماً، حول موقع الحركة الوطنية المصرية ودورها في الحياة السياسية بشكل عام، وفي الانتفاضة الشعبية بشكل خاص.
والكلام عن الحركة الوطنية المصرية، يحتل أهمية في النقاش السياسي، نظراً لأهمية موقع مصر، وتأثير أحداثها على وضعها الداخلي وعلى عمقها القومي والمحيط الإقليمي بمواقعه اللاعربية.
إن الموقع المصري يحتل أهمية خاصة عند تناول سباقات الأحداث والتحولات السياسية الكبرى، وهذه الأهمية تستمدها مصر من ميزة موقعها الجيوسياسي، ومن تاريخها السياسي ومن ثقلها ومركزية موقعها في قلب الوطن العربي.
إن مصر التي تشغل حيزاً في الجغرافيا عند تقاطع قارتين، وانكشاف على ثالثة، تبلغ مساحتها حوالي مليون كلم2. ويبلغ عدد سكانها حالياً ما يفوق الثمانين مليون نسمة.
هذه الأهمية للموقع المصري في الجغرافيا، جعلتها عرضة لغزوات بهدف السيطرة عليها، كي يتم التحكم من خلالها بدائرة طويلة الشعاع بالنسبة للمحيط الجغرافي المتاخم والبعيد. وهذه ما جعلها تقع دائماً ضمن مديات النفوذ للامبراطوريات القائمة والصاعدة. فمن الشرق، فارس، ومن الشمال، البطالمة والرومان. ومن كان يريد أن يصل إلى شواطئ المتوسط كان يسعى للسيطرة على مصر، ومن كان يريد العبور إلى الشرق، كانت مصر ممراً حيوياً له، وأن أهميتها ازدادت بعد شق قناة السويس وربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر.
وموقع المصري اكتسب أهمية خاصة ليس استناداً إلى ميزة هذا الموقع الجغرافي وحسب، بل لأنها شكلت أيضاً موطناً غارقاً في القدم لتشكل مجتمعي وما أفرزه من نظام إداري لشؤونه يطلق عليه في العلم السياسي الحديث اسم الدولة.
إن ما أعطى مصر هذه الميزة، والتي لم تكن متوفرة إلا لقليل من المجتمعات البشرية، هو أنها كانت مهداً لحضارات ما تزال شخوصها بارزة حتى الآن. وهذا ما جعل مصر تحوز على تاريخ سياسي يعود إلى ما يزيد عن خمسة الآف سنة، بحيث أن هذا التاريخ انطوى على ثلاثة عصور، القديم والوسيط والحديث. وإذا كان العصر القديم، يشمل عهود الفراعنة والبطالمة والرومان والتي تمتد من (3200 ق.م. إلى 641م) فإن العصر الوسيط يمتد من بداية الفتح العربي أيام الخلافة الراشدية إلى عام 1514 يوم وقعت مصر تحت حكم العثمانيين.
وتاريخ مصر الحديث الذي يمتد من بداية القرن السادس عشر، حتى تاريخه، تمحورت أحداثه أولاً حول معطى الحقبة العثمانية بانتصاراتها وانكساراتها، بتمدد نفوذها وانكفائه، وثانياً يوم وقعت تحت الوصاية ومن ثم الاحتلال البريطاني، وثالثاً يوم دخلت العهد الاستقلال في منتصف القرن الماضي وما تزال معطيات هذا العهد مفتوحة على المستقبل، إذ ان الحركة الوطنية المصرية، التي تعتبر حركة سياسية حديثة، بالنظر إلى تاريخ مصر السياسي، لا يمكن فصل معطياتها عن ظروف تشكل الحياة المجتمعية المصرية. وان مفردة الوطنية تكتسب مدلولان. المدلول الأول، عندما يكون تصويب الموقف الوطني باتجاه عدو الخارج، والمدلول الثاني عندما يكون تصويب الموقف باتجاه خصم الداخل. ولهذا فإن للموقف وطني مضمونين. المضمون الأول، يرتبط بالتحدي الوطني الذي يتعلق بالمكون الوطني على اختلاف مكوناته المجتمعية وشرائحه المجتمعية، والمضمون الثاني يرتبط، بالتحدي الداخلي الذي ينطلق من رؤية التعبير عن مصالح أوسع فئات الشعب، التي تعاني ظلماً سياسياً، يتناول حقوقها الأساسية، وتالياً، ما هو لازم لتأكيد إنسانيتها في حياة حرة كريمة.
انطلاقاً من هذا التوصيف، لمضمون الموقف الوطني، يصبح للوطنية أكثر من دلالة. فإذا كان البلد محتلاً تكون الوطنية، هي الفعل المعبر عن النضال ضد المستعمر أو المحتل، وعندما يكون البلد مستقلاً، تكون الوطنية هي الفعل المعبر عن النضال لإقامة مجتمع العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
وإنه بطبيعة الحال يكون لكل فعل وطني، قواه وحاملاته، ففي واقع مواجهة المحتل والمستعمر، يكون الإطار السياسي الحامل للمشروع الوطني، أوسع منه في حال كانت المواجهة مع المنظومة السياسية الحاكمة. ولهذا فإنه في حال المواجهة مع المستعمر أو المحتل، يكون العمل الوطني تحرراً وطنياً، بغية نيل الحرية الوطنية والاستقلال السياسي، وعندما تكون المواجهة مع شخوصات النظام وقواه الحاكمة يكون العمل الوطني، نضالاً سياسياً اجتماعياً، لاستبدال منظومة حاكمة بأخرى، وكما أن للأولى اصطفافاتها السياسية فإن للثانية اصطفافتها السياسية أيضاً. ولهذا فإنه في تناولنا للحركة الوطنية المصرية، سنفصل ما بين دورها تحت عنوان النضال الوطني للتحرر من الاحتلال والوصاية الأجنبية، ودورها تحت عنوان النضال الوطني لإسقاط كل مظاهر الاستغلال السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تمارسها سلطة حاكمة في مرحلة معينة. وهذا الأمر يكاد يكون قانوناً عاماً، تعمل بوحي أحكامه كل الشعوب التي تعرضت للاستلاب الوطني العام من الاحتلال أو الوصاية الأجنبية، وأيضاً كل الشعوب التي تعيش تحت وطأة الاستلاب لحقوقها السياسية والاجتماعية، ليس بفعل المحتل أو الوصي الأجنبي، وإنما بفعل السلطة الحاكمة عبر منظوماتها السياسية والأمنية وركائزها الاقتصادية.
على هذا الأساس، فإن الحديث عن الحركة الوطنية بشكل عام، والحركة الوطنية المصرية بشكل خاص، كي يأتي مستقيماً مع واقع هذه الحركة يجب أن يحدد الظروف التي يمارس في ظلها العمل الوطني، وبتعبير آخر، فإن تناول معطيات النضال الوطني ضد عدو الخارج، والتي تختلف بطبيعة الحال عن معطيات النضال الوطني ضد خصم الداخلي، يفرض وضع النضال الوطني بين مفصلين، مفصل النضال الوطني الاستقلالي، ومفصل النضال الوطني التغييري وكون مصر عاشت مرحلتين، مرحلة الاحتلال والوصاية، ومرحلة الاستقلال الوطني، فالحركة الوطنية برنامجاً وأداة في مرحلة الاحتلال هي غيرها في العهد الاستقلالي برنامجاً وإطاراً.
 
الحركة الوطنية المصرية/مرحلة ما قبل الاستقلال الوطني الحديث
تعتبر مصر من الدول الأقدم في التاريخ، وهذا منحها ميزة عراقة المؤسسات، وعراقه إدارة الشأن العام. والتاريخ المصري بعصوره القديمة والوسيطة والحديثة، لم يسر عبر خط بياني تصاعدي، بل كان عرضة لتقلبات فرضتها الأحداث الكبيرة التي عصفت بمصر، أن بسبب تفاعلات العوامل الداخلية، يوم كانت تعيش حقبات استقلالية، أو بسبب تأثيرات العوامل القادمة من الخارج والتي كانت تفرضها نوازع ومشاريع التوسع عند الإمبراطوريات آنذاك. ويمكن القول، أن المضمون السياسي للوطنية بمدلوله الحديث، إنما تشكلت معطياته مع تشكل النظام الدولي الذي انطلق عقب الثورة الصناعية والذي جاء مترافقاً مع تشكل الحدود الوطنية للأمم الأوروبية في القرن التاسع عشر.
لقد ساهمت حركة التنوير الفكري على ضفاف المتوسط الشمالية والجنوبية في توسيع دائرة الوعي السياسي عند الشعوب المتوسطية. ومع أن الدول الأوروبية الصناعية، انتهجت سياسية استعمارية واضحة، وعمدت إلى السيطرة على العديد من بقاع العالم، بحثاً من الأسواق من ناحية، وتأميناً للمواد الأولية من ناحية أخرى، فإن هذه السياسية الاستعمارية التي كانت شديدة الوطأة على البلاد المستعمرة، ساهمت بشكل أو بآخر، في إيجاد مناخات لتفاعلات ثقافية وفكرية بين الشعوب.
ومصر التي هي واحدة من الحواضر الإنسانية، وصاحبة التاريخ الغني بنتاجاته الحضارية، لم تكن بعيدة عن تلك التفاعلات، خاصة وأنها كانت دائماً موضع الاهتمام المركزي لدول الغرب الأوروبي الصاعدة بالنظر لأهميتها في التاريخ والجغرافيا.
وإذا كانت مصر قد تميزت عن غيرها من مواقع المشرق العربي، بسرعة التفاعلات السياسية، فلأسباب عديدة، أهمها أن ماضيها اختزن تراثاً عظيماً من تراكم الجهد الإنساني، وأن هذا التراكم وأن لم يتسن له أن يفصح عن نفسه عن تحولات نوعية في منظومات العلاقات الاجتماعية والسياسية، إلا أنه كان مهيئاً لينفجر في أي لحظة نظراً لحيوية الاختلاجات في قلب التكوين المجتمعي المصري. وإذا كان البعض يعي هذه الحقيقة الاجتماعية، وبعض آخر لا يعيها، فإن عراقة الدولة المصرية، وعراقة التاريخ المصري، وعراقة التكوين المجتمعي، كلها عوامل ساعدت في تشكل العقل الجمعي للشعب، الذي اختزن في ذاكرته كل الإرث الذي تعاقبت الأجيال على تكوينه.
هذا الاختمار، ما كان مقدر له أن يبقى إلى ما لا نهاية، ضمن مغلفات الماضي ومعلبات التاريخ، وهو كان بحاجة، لصاعق تفجير هذا الصاعق تمثل بالتحدي الذي فرضه الاستعمار الجديد الذي أطل برأسه على الشرق، والذي لم يطل وقته حتى تبين، أن سياسة "استولى وعمر"، وهي التي تختصر "بالاستعمار" لم تكن تهدف إلى السيطرة على الموارد الاقتصادية وتأمين الأسواق الاستهلاكية، وإقامة القواعد الأمامية لاندفاعه الدول التوسعية، وحسب، بل كان ترى أن استمرار السيطرة على البلاد المستعمرة لأطول مدة ممكنة، لا تتوفر شروطها إلا إذا تعرضت هذه الشعوب المستعمرة (بفتح العين) لاستلاب شخصيها الاعتبارية، والتي يعبر عنها بالشخصية الوطنية. هذا الاستلاب الوطني للشعوب المغلوب على أمرها، احتل موقعاً مركزياً في استراتيجية الدول المستعمرة (بكسر العين)، لسبب بسيط هو أن الدول الاستعمارية قدمت نفسها على أنها دول تحمل رسالة تحرر للإنسانية استحضاراً لشعارات الثورة الفرنسية (حرية – اخاء – مساواة، و"للشرعة العظمى، "الماكناكارتا" في بريطانيا.
هذه الشعارات النظرية التي اعتبرت عظيمة في تاريخها وما تزال، كانت معدة للتطبيق الفعلي في نطاق المجتمعات التي انطلقت فيها، ولم تكن معدة للتطبيق خارج الحدود، لأن الدول الاستعمارية الصاعدة كانت تنظر إلى الشعوب الأخرى نظرة دونية، وهذه النظرة التي كانت سائدة يوم انطلاق النظام الاستعماري. الحديث من عقاله، ما تزال هي السائدة هذه الأيام.
هذا التحدي الذي فرضه النظام الاستعماري على الشعوب المستعمرة، كان بمثابة الصاعق الذي فجر وعياً سياسياً، وأيقظ حالة نائمة، استفاقت على صدح نداء سياسي داع للدفاع عن الذات ليس بمدلولها الشخصي وإنما بمدلولها العام، أي الذات الوطنية، لأن المقصود بالاستلاب، هو استلاب الذات الوطنية.
وإذا كان من تأريخ للحركة الوطنية المصرية، وبالمفهوم السياسي لمضمون الوطنية حماية للذات الوطنية، فإن هذا التاريخ يبدأ من تاريخ الحملة الفرنسية على مصر. هذه الحملة التي لم تستمر سوى ثلاث سنوات، أدت إلى تفجير ثورة عارمة أجبرت المستعمر الفرنسي على الخروج من مصر عام 1901.
ومن يقف عند الوضع الذي كان قائماً عشية نزول الفرنسيين على الشواطئ المصرية، يدرك جيداً، بأنه لو لم تكن الظروف الموضوعية والذاتية لدى شعب مصر، مختمرة، لما انطلقت الثورة بهذه السرعة، بحيث يمكن القول، بأن الحملة الفرنسية لم تكن سوى الصاعق الذي فجر الوضع الشعبي.
وإذا كانت الثورة الشعبية في مصر، التي دفعت الفرنسيين للخروج في وقت قياسي، قد استفادت من معطى الصراع الدولي آنذاك، والائتلاف الدولي الذي (تشكل ضد فرنسا – بونابرت) فإنها وأن لم تقم سلطتها الوطنية، كون مصر عادت لتقع مجدداً ضمن مديات السيطرة العثمانية، إلا أن المتغير السياسي الذي استند إلى معطى الوضع الداخلي وطبيعة الصراع الدولي آنذاك، أوجد أرضية حراك سياسي وشعبي، أبقى الساحة المصرية ضمن حركة دائمة، ازدادت فعاليتها مع تكشف خيوط العلاقة بين الرأسمال الأوروبي والإقطاع المحلي، خاصة في عهدي الخديوي سعيد، والخديوي إسماعيل، وبعدما وقعت مصر تحت الوصاية الدولية استناداً إلى بنود معاهدة لندن المبرمة في 15 تموز 1840، والتي أعادت محمد علي إلى بيت الطاعة عندما وجدت الدول الأوروبية والسلطنة العثمانية آنذاك، ان تمدد سلطته إلى بلاد الشام والجزيرة العربية، ومشروعه الطموح لإنشاء جيش قوى، وإقامة مرتكزات لدولة حديثة، من شأنه ليس تقليم أظافر السلطنة العثمانية التي كانت قد دخلت عهد شيخوختها، بل بروز دولة قوية في مصر تستند إلى مقومات داخلية متينة، وتمد نفوذها السياسي إلى التخوم في الشرق والجنوب وهذا سيجعل منها قوة استقطابية في المنطقة تتوفر لها كل مقومات التقدم والازدهار والمنافسة، وبالتالي فإن تنامي قوتها سيمكنها من تحقيق الامتلاء السياسي الذي يستمد قوته من المحفزات الوطنية، وعندها، فإن ما كانت تمن به النفس الدول الأوروبية بملء الفارغ في شرق وجنوب المتوسط بفعل انكفاء السلطنة العثمانية لن يعود ممكناً في ظل وجود مكون سياسي وطني قادر على تحقيق هذا الامتلاء. فمصر، كانت ستتحول إلى مركز دولي جاذب فيما لو قيض لمشروع محمد علي أن يأخذ كامل مداه الجغرافي والسياسي خاصة وأن مصر تنتمي إلى أمة تشغل الحيز الجغرافي الممتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي وتتوفر لها كل مقومات الترابط والتقدم والوحدة.
في ظل الوصاية الدولية التي أفرزتها معاهدة لندن وتكبيل الاقتصاد المصري بالديون التي نشأت عن القروض المالية في عهدي الخديوي سعيد وإسماعيل وتكوين شركات الرهن العقاري وامتلاك الأراضي الزراعية، تحولت السيطرة المالية إلى سيطرة سياسية. وعندما اشتدت التناقضات بين مصالح الخديوي إسماعيل ومصالح الوصاية الأجنبية، تحالف الأول مع البرجوازية المصرية التي كانت تؤدي دوراً وطنياً سواء لجهة مقاومة الوصاية الأجنبية، أو لجهة إقامة مؤسسات دستورية، تساهم في نقل السلطة الفعلية من يد فرد إلى يد طبقة، وبما يجعل عملية استيعابها أكثر صعوبة وتعقيداً، وهذا ما حدا بدول الوصاية الأجنبية – أن تستسصدر – قراراً من السلطان العثماني بخلع الخديوي إسماعيل في/حزيران/1879 وتعيين الخديوي توفيق الذي قرر إيقاف مشروع الدستور. وهذا ما اعتبر نكسة وطنية لمن كان يطالب بتفعيل الحياة الدستورية ووضع ضوابط لنظام الحكم الإداري، إلا أن هذه النكسة، ساهمت في الإفصاح عن معطى إيجابي، عندما ظهرت حركة الضباط التي كان قادها أحمد عرابي، التي أبدت تأييداً للمطالبين بإقرار مشروع الدستور، وكانت أبرز تجليات هذا التلاقي السياسي بين الضباط العرابيين والدستوريين، هو التعامل مع الجيش باعتباره الأداة المنفذة لإرادة القوى الوطنية التي تطالب بالحكم الدستوري وتمثل هذا في مظاهرة عابدين يوم 9 أيلول/1881 التي قدم فيها الجيش باسم الأمة مطالبة الثلاثة:
1- إسقاط وزارة رياض باشا، والغرض من ذلك إسقاط الوصاية الأجنبية التي تمثلها الوزارة.
2- زيادة عدد الجيش إلى 18 ألف جندي (والغرض توفير أداة لحماية استقلال البلاد).
3- دعوة البرلمان للانعقاد (والهدف إسقاط نظام الحكم المغلق).
لم يستمر شهر العسل طويلاً بين الجيش والزعماء الدستوريين، مما أدى إلى صراع على السلطة. كان سبباً لتهيئة الظروف التي مهدت للتدخل العسكري البريطاني الذي تم في 11 أيلول 1882. بالتدخل العسكري البريطاني، انتهت حقبة من تاريخ مصر السياسي، كانت حافلة بالأحداث، ومعها تكونت معالم الحركة السياسية، التي كانت تسعى لإقامة حكم دستوري، يحاكي تلك التي كانت قائمة في أوروبا لجهة احترام حقوق المواطنة والحريات الأساسية، كما كان لوضوح التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية المصرية بعد معاهدة لندن، الأثر البارز في استفزاز المشاعر الوطنية، والتي كان أبرز تعبير عنها الحركة التي قادها ضباط مصريون بقيادة أحمد عرابي، وباتت تلك الحركة الاحتجاجية تعرف بالثورة العرابية. وبذا يمكن القول أن بداية التأسيس السياسي الفعلي للحركة الوطنية المصرية أن لجهة مقاومة التدخل الأجنبي وأن لجهة إقامة النظام الدستوري إنما بدأت في الفزة التي تم فيها التلاقح السياسي بين حركة الضباط العرابيين، وحركة الدعاة الدستوريين.
 
الحركة الوطنية المصرية إبان حقبة الاحتلال البريطاني
شكل الاحتلال البريطاني، عبر شخوصاته المختلفة، تأسيساً لحقبة جديدة في الحياة السياسية المصرية. خاصة وأنها تزامنت مع وضع دولي كان يحضر نفسه لوراثة السلطنة العثمانية التي كانت تعيش آخر أيامها. وقد تميزت تلك الحقبة بتنامي الوعي السياسي لدى نخب فكرية وثقافية ودينية، وأخذ بعداً أفقياً عبر شموله شرائح اجتماعية مختلفة، من شعبية برجوازية وطنية إلى ملاكي الأراضي.
هذا الوعي السياسي، كان انعكاساً لحالة المخاض الذي كانت تعيشه مصر، والتي تمحورت عناوينه، حول اثنين، مواجهة المحتل الفعلي الجديد، ومواجهة تردي الأوضاع الداخلية. وقد استفادت الحركة السياسية المطالبة بالاستقلال والإصلاح الدستوري من نتائج مؤتمر لندن الذي منح مصر ميزة، لم تتوفر لغيرها من الأقطار العربية التي كانت منضوية في إطار السلطنة العثمانية. هذه الميزة جعلت من مصر موئلاً لنخب فكرية وثقافية وسياسية وأدبية عربية لم تتح لها ظروفها بلادها، التعبير عن أرائها ومواقفها، خاصة وأن هؤلاء المفكرين والرواد وجدوا ملاقاة لأفكارهم ودعواتهم للتحرر والإصلاح، في حركة تنويرية سياسية ودينية كان أبرز روادها، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبد، وقاسم أمين ولطفي السيد وغيرهم.
هذا الواقع السياسي الذي عاشته مصر نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، جعل الموقف الوطني الداعي للاستقلال والإصلاح وإقامة دولة المؤسسات، يزداد وضوحاً، ومعه اتسعت دائرة تأثيره، وخطا، خطوات متقدمة نحو هيكلة تنظيمية لقواه السياسية، كان التعبير الأبرز عن بلورة هذا الهيكلة هو تأسيس الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل.
لقد تركزت الحركة السياسية التي قادها الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل وبعده محمد فريد بعد وفاته، على المطالبة بالانسحاب الفوري الكامل للوحدات العسكرية البريطانية، وكذلك سحب المستشارين من أجهزة الدولة وذلك تحقيقاً للاستقلال التام والسيادة لمصر على أرضها ومقدراتها.
هذا المناخ السياسي الذي ترجم على الأرض بحراك دائم، حاولت السلطات البريطانية احتواءه، إلا أنها فشلت بذلك، نظراً لكون الحركة السياسية الاحتجاجية قطعت شوطاً في تنظيم صفوفها وتأطير أوسع اصطفاف شعبي معادٍ للانكليز.
لكن ما لم تستطعه بريطانيا في حياة مصطفى كامل، تمكنت منه بعد وفاته، عندما شنت حملة واسعة ضد الحركة السياسية المطالبة بالاستقلال والسيادة، تمثلت بمنع الصحافة الوطنية من الصدور وخاصة صحيفة "اللواء" كما قامت سلطات الاحتلال بوضع عناصر الحزب الوطني تحت المراقبة، فاعتقلت بعضهم، ونفت بعضهم إلى العمارى، وبعض ثالث نفته إلى خارج مصر.
إن نشاط الحركة الوطنية المصرية الذي تعرض لنكسة من جراء هذه الحملة البريطانية، تم استحضاره بصيغ تنظيمية جديدة، تمثلت بإقدام سعد زغلول على إنشاء حزب الوفد من خليط سياسي مكون من شخصيات من الحزب الوطني، الذي كان يعتبر في حينها المعبر الأبرز عن التوجهات الوطنية للبرجوازية المصرية، ومن شخصيات تنتمي إلى حزب الأمة الذي كان يمثل كبار ملاكي الأراضي والذي وأن كان يختلف عن الحزب الوطني في رؤيته لبنية النظام السياسي الداخلي إلا أنه كان يتوافق معه على تحقيق مطلب الانسحاب الأجنبي والاستقلال.
لقد حاول سعد زغلول، حمل مطالب المصريين بالاستقلال إلى مؤتمر الصلح الذي انعقد لإعادة ترسيم مناطق النفوذ بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وما أفرزته من نتائج، إلا أن سلطات الاحتلال البريطاني رفضت السماح له بالسفر، وقبضت عليه مع بعض رفاقه، مما أدى إلى حصول انتفاضة شعبية عارمة عام 1919، مما اضطر سلطات الاحتلال لأن تصدر بعد أربع سنوات على هذه الانتفاضة التي كانت أسبابها سياسية واقتصادية واجتماعية تصريحاً من جانب واحد يتضمن إسقاط الحماية البريطانية عن مصر، والاعتراف بمصر دولة مستقلة، مع تحفظات أربعة يتيح لها التدخل في شؤون مصر الداخلية والخارجية والإبقاء على وجودها في السودان.
هذا الإعلان البريطاني، لم يفسح المجال أمام الشعب المصري أن يمارس حقه في السيادة الوطنية، إذ أن التدخل البريطاني الذي مرر تحت عنوان التحفظات الأربعة، بقي الأساس والناظم لعلاقة بريطانيا مع مصر. ولهذا فإن القرار الفعلي في إدارة الشأن السياسي الداخلي خاصة في بعده الوطني، وأيضاً العلاقات مع الخارج، إنما كان إيقاعه مضبوطاً من قبل المحاكم البريطاني. ولهذا فإن المرحلة الفاصلة ما بين إصدار التصريح البريطاني وحتى قيام حركة 23 يوليو 1952، كانت فترة المخاض السياسي الأكثر حيوية في تاريخ مصر السياسي الذي سبق قيام حركة الضباط الأحرار.
فخلال هذه الفترة، تشكلت أحزاب عديدة في مصر، وكان تشكليها تعبيراً عن الحيوية السياسية السائدة.
فإضافة إلى حزب الوفد، تشكل حزب الاتحاد من العناصر المؤيدة للملك، كما تألف حزب الشعب عام 1930 برئاسة اسماعيل صدقي، وكان سبق ذلك تشكيل حزب الاخوان المسلمين برئاسة حسن البنا عام 1928. والحزب الاشتراكي لمصر القناة، أما الحزب الشيوعي المصري، فلم يبرز كقوة وازنة في الحركة السياسية والشعبية. وإذا كانت بعض الجماعات الماركسية قد جاهرت بموقفها الواضح من الاحتلال البريطاني إلا أن الحزب الشيوعي كان محكوماً بسقف الموقف السوفياتي آنذاك. حيث كان الاتحاد السوفياتي ينخرط في تحالف سياسي وعسكري مع بريطانيا ضد المانيا وحلفائها. وقد سحب هذا الموقف السوفياتي نفسه حيال أكثر القضايا حساسية تجاه المشاعر الوطنية والقومية العربية، عندما وافق الاتحاد السوفياتي على قرار التقسيم لفلسطين وكان أول المعترفين بدولة "إسرائيل"، وقد شكل هذا الموقف عبئاً ثقيلاً على الحركة الشيوعية العربية المرتبطة بالمركز السوفياتي ومنها الحزب الشيوعي المصري، وبقي هذا الموقف يلاحقه كنقطة سوداء في صفحات تاريخه السياسي.
بعد احتلال فلسطين من قبل الصهاينة، والذي كان بمثابة الزلزال الذي ضرب الركائز الأساسية للمنطقة العربية، لم تكن مصر بمنأى عن الهزات الارتدادية لهذا الزلزال، خاصة بعد الانكسار العسكري الذي منيت به الجيوش العربية في مواجهة العدو الصهيوني والاهتراء السياسي للنظم الحاكم ومنها النظام الملكي المصري، وبقاء النفوذ البريطاني قائماً رغم معاهدة 1936 التي أسقطت تحفظات تصريح 28 شباط/1923، إذ أن هذا الإسقاط للتحفظات، أسقط الاحتلال البريطاني شكلاً، ولم يسقطه فعلاً.
بعد فشل المفاوضات بين الحكومة البريطانية والحكومة المصرية عام 1951، أعلن رئيس الحكومة المصرية، مصطفى النحاس باشا الغاء معاهدة 1936 في 15 تشرين الأول/1951، وكان ذلك سباً لأشعال انتفاضة شعبية ومقاومة وطنية ضد قوات الاحتلال البريطاني في منطقة قناة السويس، كان نتيجتها، إقدام القوات البريطانية على ارتكاب مجزرة بحق القوى الأمنية المصرية وانتهت بحريق القاهرة في 26/كانون الثاني/1952. هذه الأوضاع المتفاقمة في الداخل المصري وما تولد عن الهزيمة في فلسطين من ارتدادات، أنضجت البيئة السياسية والاجتماعية التي أفرزت حركة الضباط والأحرار في 23 يوليو/1952.
وبقيام حركة الضباط الأحرار عام/1952، والتي دخلت القاموس السياسي تحت عنوان ثورة يوليو، طويت صفحة سياسية هامة من تاريخ مصر السياسي، امتد لقرن من الزمن، حيث شهدت فيه مصر انتفاضتين، الأولى، هي التي أصبحت معروفة "بانتفاضة عرابي"، تيمناً بأبرز رموزها، والثانية انتفاضة 1919، والتي كان الفضل الأول بانطلاقتها يعود للدور الذي لعبه الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، كأبرز رمز سياسي من رموز الحركة الوطنية المصرية آنذاك.
إن المخاضات والتحولات السياسية التي كانت تعيشها مصر خلال الحقبة التي امتدت من عام 1850م/1952، لم تكن منعزلة عن التحولات السياسية الكبرى التي كانت تجري في المحيط الإقليمي وعلى المستوى الدولي وأبرزها الحرب العالمية الأولى التي أسست لبداية تأسيس نظام دولي جديد، ما لبث أن أنهار بفعل تداعيات الحرب العالمية الثانية، والتي أفرزت نتائجها معالم نظام دولي وإقليمي جديد.
فعلي الصعيد الإقليمي، انشئ كيان "دولتي" بقرار دولي هو قيام "إسرائيل" التي قامت على الاغتصاب تحقيقاً لوعد مزعوم بإقامة دولة لليهود في أرض الميعاد، والذي لم يكن ليرى النور لولا الاحتضان الدولي لهذا المشروع الصهيوني، حيث تلاقت أهداف الحركة الصهيونية التي أطلقت عبر بروتوكولات حكماء صهيون والأهداف الاستعمارية، الرامية إلى السيطرة على المنطقة العربية ونهب مقدراتها.
وعلى الصعيد الدولي، برزت ثنائية دولية استقطابية، أعادت رسم مواطن النفوذ في العالم وخاصة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، بضفافه الأوروبية مع عمقها الجغرافي وضفافه العربية وعمقها الأسيوي والافريقي.
وعلى هذا الأساس، فإن التغيير السياسي الذي حصل مصر عام 1952، حصل يوم دخل العالم نفق هذين المتغيرين الدولي والإقليمي، وأنه بطبيعة الحال فإن الحركة السياسية التي شهدتها مصر منذ ذلك الحين لم تكن بعيدة عن التأثير والتأثر بما يجري في البعدين الإقليمي والدولي
وبالنظر إلى أهمية الموقع المصري في الجغرافيا والتاريخ. ومع أن تاريخ مصر السياسي كان حافلاً بتفاعلاته خلال الحقبة سبقت قيام ثورة 23 يوليو، إلا أن الأهم في تاريخ مصر الحديث يبدأ مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي. لأن هذه البداية التي أسست لمعطى سياسي جديد، حيث باتت معالم المشروع الوطني ببعديه الاستقلالي والبنيوي الداخلي واضحة المعالم. إذ لأول مرة تدخل مصر مرحلة الاستقلال السياسي الوطني الفعلي ضد قوى الاحتلال الخارجي، ومنذ بدأت تتشكل ملامح الدولة الحديثة في مصر في منتصف القرن التاسع عشر.
على هذا الأساس، فإن الكلام عن الحركة الوطنية المصرية، خلال الحقبة التي سبقت الاستقلال السياسي الناجز يختلف عن ذلك الذي أعقب دخول مصر حقبة الاستقلال الوطني ان لجهة المضمون السياسي والاجتماعي وأن لجهة الأدوات والآليات من ناحية، أو لجهة الدور الذي اضطلعت به الحركة الوطنية في الداخل وفي العلاقات مع الخارج من ناحية أخرى.
 
الحركة الوطنية المصرية/الحقبة الناصرية
إن الحقبة الناصرية التي بدأت فعلياً في 23 تموز/1952، ورسمياً في 1954، شكلت منعطفاً هاماً في تاريخ الحياة السياسية بشكل عام والحركة الوطنية بشكل خاص، فحركة الضابط الأحرار التي قامت بثورة 23 يوليو، أطلقت مواقف وشعارات استحضرت فيها عناوين المسألة الوطنية، كما عناوين عملية التحول الاجتماعي.
إن فترة الخمسينات، قد طغت على عليها عناوين المسألة الوطنية، من مثل تصفية مراكز التعاون البريطاني عبر اتفاقية 1954، والتي حددت حزيران/1956، موعداً نهائياً لجلاء القوات البريطانية عن قناة السويس، وكسر احتكار السلاح بعدما تمنع "الغرب السياسي" عن تسليح الجيش المصري، عبر التوجه إلى الدول الاشتراكية، حيث كانت صفقة السلاح التشيكي عنواناً لهذا الكسر، ومن ثم التصدي للعدوان الثلاثي عام/1956، الذي أعقب قرار تأمين قناة السويس ومقاومة الأحلاف الاستعمارية وأبرزها حلف بغداد، ومقاومة مشروع أيزنهاور المستند إلى نظرية سد الفراغ بعد انسحاب قوات العدوان الثلاثي عن مصر، وتصفية النفوذ البريطاني، إلى انتهاج سياسية استقلالية غير مرتبطة بالأحلاف الدولية (الأطلسي ووارسو)، وعبر لعب مصر لدور محوري وتأسيسي لحركة عدم الانحياز عندما رأت النور في مؤتمر باندونغ في أندونيسيا عام 1955، حيث وقف عبد الناصر جنباً إلى جنب مع نهرو وتيتو وسكارنو، ليشكلوا قاعدة رباعية لهذه الحركة التي سدت فراغاً سياسياً للدول التي تريد أن تؤكد على استقلالية خياراتها السياسية بعيداً عن الالتحاقات بهذا الحلف الدولي أو ذاك.
اماعلى الصعيد القومي،فقد باتت مصر تلعب دور الرافعة للنضال العربي التحرري، ودور الداعية لعمل وحدوي، يهدف إلى توحيد إمكانات الأمة وجهودها، لحماية نفسها والدفاع عن حقوقها، ولهذا لعبت في تلك الفترة دوراً هاماً في دعم ثورة الجزائر، وكل الحركات الوطنية العربية التي كانت تناضل ضد تبعية النظم الحاكمة للأحلاف الأجنبية. وإذا كانت مقاومة العدوان الثلاثي تعتبر الإنجاز الأهم في التصدي للمشاريع الاستعمارية، والدور المحوري في تأسيس حركة عدم الانحياز هو الإنجاز الأهم في الإطلالة على السياسية الدولية من منصة حركة عالمية، فإن قيام الوحدة بين سوريا والعراق عام 1958 يعتبر الإنجاز الأهم في آليات العمل العربي الوحدوي.
من هنا، فإن الوطنية بمفهوم مقاومة عدوان الخارج، وممارسة استقلالية القرار السياسي في تحديد الخيارات الوطنية الكبرى، كانت تجسدها سلوكية السلطة الحاكمة في مصر، ولهذا فإنه بالنظر إلى المواقف التي اتخذتها في كافة المجالات والتي تؤكد من خلالها على استقلالية القرار السياسي، فإنها كانت سلطة وطنية بامتياز.
أما لجهة الدور الذي لعبته هذه السلطة في التحولات الاجتماعية الداخلية، فإن الحقبة الناصرية تقسم إلى مرحلتين: مرحلة الخمسينات، ومرحلة الستينيات.
ففي مرحلة الخمسينيات، لم تول السلطة السياسية أهمية كبيرة لعملية التحول الاجتماعي الداخلي، إذ الأولوية أعطيت للحركة السياسية الوطنية. وأن القرارات الوطنية الكبرى التي اتخذت آنذاك، كتأميم قناة السويس، ومشروع السد العالي، إنما كانت قرارات وطنية، أتت في سياق إعطاء محتوى اقتصادي للاستقلال السياسي، وأنه باستثناء التغيرات التي طرأت على طبيعة نظام الحكم بإسقاط الملكية وإعلان الجمهورية، لم يسجل إنجاز اقتصادي – اجتماعي ذي أثر على التركيب الاجتماعي الطبقي، سوى الغاء الملكيات الزراعية التي تزيد مساحتها على مئتي فدان.
أما مرحلة الستينيات، فإن السلطة في مصر، أقدمت على خطوة هامة في مجال أحداث التحول الاجتماعي لمصلحة الطبقات الأكثر فقراً، إذ أقدم عبد الناصر يومذاك على إصدار ما عرف بقرارات التحول الاشتراكي وعبر الإقدام على تأميم الشركات الكبرى وإعادة توزيع الأراضي على الفلاحين، وهذا ما أسس إلى بداية فرز سياسي بين الطبقات الاجتماعية، وهذا حصل في مصر وسوريا قبل الانفصال. هذه القرارات أدت إلى تأليب الطبقات الاجتماعية الرأسمالية والإقطاعية ذات النفوذ خاصة وأن هذه الطبقات، لم تكن منقطعة عن علاقات تواصل سياسي مع نظم عربية وجدت في مصر في ظل نظامها الوطني خطراً على مصالحها ونفوذها، وخاصة المملكة العربية السعودية، كما أن هذه الطبقات الإقطاعية والرأسمالية كانت ذات تأثير على مواقع في السلطة، ومما أدى إلى اشتداد النزاع بين عبد الناصر ومن كان مع قرارات التحول الاشتراكي من ناحية، ومجموعة أخرى كانت في هرمية السلطة، وشاركت في حركة 23 يوليو، وهي معارضة ومتحفظة على التحولات الاجتماعية التي رأت فيها تحولات اشتراكية، ومما أدى إلى خروجها من السلطة، لأن شخصية عبد الناصر، كانت الأكثر تأثيراً في توجيه دفة الأمور خاصة في تحديد خيارات السياسية الخارجية، كما كانت الأكثر تأثيراً في ترجيح كفه التحولات ذات المضمون الاشتراكي في السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية – الداخلية.
انطلاقاً من هذه السياسية التي انتهجتها السلطة الوطنية المصرية بقيادة عبد الناصر، فإنها واجهت تحديين أساسيين التحدي العربي الخارجي، خاصة بعدما تمحور الخطاب السياسي العربي حول عنواني، التقدمية، التي كانت مصر عبد الناصر أبرز معبر سياسي عنه، والرجعية التي كانت العربية السعودية أبرز معبر سياسي عنه. وأما التحدي الداخلي فنتج عن معارضة من داخل النظام وخارجه لقرارات التحول الاشتراكي، والتي أريد لها أن تعطي للتحول السياسي الوطني محتوى اجتماعياً. استناداً إلى معطى هذه الحركة السياسية التي قادتها السلطة في مصر، أن ببعدها السياسي في العلاقة مع الخارجي العربي والإقليمي والدولي، أو ببعدها الداخلي في العلاقة مع قوى طبقية اقتصادية متماهية في مصالحها مع قوى سلطوية، يمكن القول أن السلطة المصرية في ظل قيادة عبد الناصر، كانت تختصر العمل الوطني في أدائها وسلوكها. ولذلك لم يكن هناك عمل وطني فعلي خارج الأداء السلطوي. وهذا وأن كان ينظر إليه بإيجابية، لكون السلطة الحاكمة هي سلطة وطنية في تأكيد استقلالية القرار السياسي، وإعطاء هذا الاستقلال مضمونة الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنه في المقابل كانت له نتائج سلبية بانت ملامحه الأولية في الحقبة الناصرية، واثاره البارزة ظهرت بعد طي الحقبة الناصرية لصفحتها السياسية كأبرز حالة معبرة عن الاستقلال الوطني بكل مضامينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبأبعاده الداخلية والقومية والدولية.
وهنا يأتي الحديث من العمل الوطني خارج آليات النظام.
 
الحركة الوطنية المصرية – خارج الآليات الرسمية
إن مصر التي كان تاريخها السياسي قبل ثورة 23 يوليو، ينطوي على حيوية سياسية، تمثلت بالحراك السياسي الذي كانت تعيشه مصر منذ عهد محمد علي وحتى نهاية الاستعمار البريطاني، ان لجهة مواجهة المحتل والمنتدب والوصي الخارجي، أو لجهة الضغط لإقامة نظام دستوري يحدد حقوق الفرد والجماعة وواجباتهم، تجاه الشأن العام. فإن الفترة التي امتدت لخمسة عقود قبل 1952 شهدت تأسيس أحزاب سياسية، منها الديني، ومنها العلماني، ومنها الإقطاعي ومنها التقدمي، وهذه الأحزاب التي نشطت في العقدين اللذين سبقا سقوط الحكم الملكي، لم تتوفر لها المناخات الملائمة للعمل. وذلك لأسباب عديدة، أهمها، ان الجماهير الشعبية والتي تشكل مادة للأحزاب الوطنية والتقدمية، وجدت في الشعارات والمواقف التي تطرحها السلطة تعبيراً عن نوازعها الوطنية، وبالتالي لم تجد نفسها في حاجة للانخراط بأحزاب للدفاع عن مصالحها الاجتماعية والاقتصادية، طالما أن السلطة تعكس هذه المصالح في سياساتها، هذا من جانب القاعدة الشعبية العريضة، أما لجهة الدور الذي قامت به السلطة الجديدة، فإنها ما أن استقرت الأمور نسبياً لها عام 1954 حتى أقدمت على وضع حدٍ لنشاط القوى السياسية القديمة الممثلة بحزب الوفد، وحزب الشعب، وحزب الأحرار الدستوريين، وحزب الأمة، والجماعات الماركسية. وأما حركة الإخوان المسلمين فقد وضع حد لنشاطها وتم حلها بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس عبد الناصر 1954.
بحل هذه الأحزاب، وعدم تشكيل أحزاب تعمل من خارج الأداء الرسمي، اقتصرت إدارة الحياة السياسية المصرية على الأداء السلطوي. وهذا ما أدى إلى فراغ في الحياة السياسية دفع الأجهزة السلطوية لأن تملأ هذا الفراغ. وكان من شأن ذلك أن زاد نفوذ الأجهزة السلطوية في إدارة الشأن السياسي – الاجتماعي، وجعل السلطة بعيدة عن أية رقابة شعبية منظمة عبر أحزاب سياسية قد تتماهى مع النظام بسياساته الاقتصادية – أو تتعارض معه – وأن السبب الأساسي الذي أدى إلى غياب العمل الوطني عبر إطارته المنظمة عن ممارسة السياسية، هو أن الرئيس عبد الناصر لم يكن يحبذ قيام الأحزاب، وهو اشترط حل حزب البعث في سوريا، كشرط مسبق للدخول في الآليات التنفيذية لإنجاز الوحدة. وهذا بطبيعة الحال ما أدى إلى فراغ سياسي على الصعيد الشعبي لم تستطع الأجهزة السلطوية أن تملأه.
هذا الفراغ السياسي التي عاشته الساحة المصرية خارج الأداء السلطوي، بدأ عبد الناصر يشعر بالآثار السلبية التي ترتبت عليه نظراً للصراع الذي بدأ يتبلور بين أجنحة السلطة من ناحية، والاهتراء الذي بدأ يظهر جلياً في بعض الأجهزة التي شكلت مراكز نفوذ لها ضمن مؤسسات النظام من جهة ثانية. عندئذ أقدم عبد الناصر على إنشاء الاتحاد القومي، الذي لم يستطع أن يشكل حركة استقطاب وجذب سياسيين جديين، نظراً لبنيته التي كانت شكلاً من أشكال الأحزاب السلطوية، ثم تأسيس الاتحاد الاشتراكي، كي يأتي متلائماً مع قرارات التأميم والتحول الاشتراكي – لكن لا الاتحاد القومي ولا الاتحاد الاشتراكي استطاعاً أن يشكلا محورية لعمل الوطني، لأنهما شكلا بقرار سلطوي ولم تكن الغاية من تأسيسها سوى توفير غطاء شعبي للأداء السلطوي. وقد بانت سطحية هذه التشكيلات السياسية، وعدم تجذرها، أنها ذهبت بذهاب السلطة التي أنشأتها. وهذا يعطي دليلاً حسياً، أن الأحزاب التي تقيم السلطة، ستبقى بعد ذهاب الأخيرة، وأن أدى ذهاب السلطة إلى التأثير على فعاليتها.
من هنا، يمكن القول أن الحركة الوطنية المصرية إبان الحقبة الناصرية إنما كانت تتمحور حول الأداء السلطوي بجوانبه السياسية والاقتصادية – والاجتماعية. وإذا كانت الأمانة السياسية تقضي للقول بأن النظام كان وطنياً في توجهاته الخارجية والداخلية، وأن شخصية عبد الناصر كانت شخصية وطنية قومية تتمتع "بكاريزمة" استثنائية، إلا أنه في المقابل، فإن ذلك النظام لم يكن يخضع لرقابة شعبية من خارج آليات المراقبة الرسمية.
وبالتالي فإن غياب وتغييب الأحزاب السياسية سواء المصنفة وطنية تقدمية بحكم طبيعة برامجها السياسية، أو المصنفة رجعية بحكم طبيعة برامجها السياسية، أدى إلى نوع من الموات في الحياة السياسية في قطر هو الأهم والأفعل والذي يملك أغنى تراث في العمل السياسي بالقياس إلى الدول العربية الأخرى.
لذلك، فإن المجتمع المصري لم يعش خلال الحقبة الناصرية هيكلة جدية لقواه السياسية، وخاصة المعارضة للنظام، أما لأن بعضها ممنوع ومحظور عليه العمل، وأما لأن بعضاً آخراً كان قد شكل بقرار سلطوي، لم يكن في أحسن أحواله الا أداة من أدوات النظام السياسية التي كانت تغلب عليها سياسة التبرير والمداهنة وليس سياسية المعارضة والتصويب وهذه من السلبيات التي أنسحبت آثارها إلى المرحلة التي أعقبت نهاية الحقبة الناصرية، يوم دخلت مصر عصر الانفتاح الاقتصادي، في ظل معطى سياسي جديد شكل انقلاباً كاملاً على معطيات المرحلة السابقة. وعليه لا يمكن القول أن الحركة الوطنية المصرية كانت موجودة كحركة سياسية خارج آليات عمل النظام ورغم التحولات والإنجازات الكبيرة التي تحققت إبان الحقبة الناصرية فالحركة الوطنية بما عبر عنه من مواقف كانت حركة رسمية سلطوية.
 
الحركة الوطنية المصرية/بعد الحقبة الناصرية
بعد وفاة عبد الناصر في أيلول 1970، أفل نجم الحقبة الناصرية التي كانت معطياتها الإيجابية تفوق الظواهر السلبية التي رافقت مسارها. ومنذ تلك اللحظة دخلت مصر في معطى سياسي جديد، كانت أبرز عناوينه، الارتداد عن الاتجاه الوطني في صياغة علاقة مصر الخارجية، عبر إقدام السادات على الاستدارة الكبرى والارتباط بمحورية الموقف الأميركي، كما برزت أيضاً في اشتداد الصراع بين مراكز القوى، والتي حسمت لمصلحة الاتجاه الجديد في السياسة الرسمية المصرية، عندما تمكن فريق السادات من أبعاد علي صبري وجماعته تحت مسمى تصفية مراكز القوى وزجهم في السجون.
هذه الخطوة التي أقدم عليها السادات عبر التحولين الكبيرين في السياسة الخارجية والداخلية، كانت إسقاطاً لنتائج التحولين الكبيرين اللذين أنجزا في عهد قيادة عبد الناصر عندما وطد علاقاته مع الاتحاد السوفياتي، وأحدث التحولات الداخلية لمصلحة الشرائح الشعبية الأكثر فقراً عبر قرارات التحول الاشتراكي.
وتحت عنوان الدخول "عصر الانفتاح"، الذي أطلقه السادات بعد حرب تشرين، أطلق العنان للقوى الرأسمالية لأن تعمل في المجالين الاقتصادي والسياسي، وكان دخولها إلى الحياة الاقتصادية – الاجتماعية، دخولاً نهماً، وبما أدى إلى خلل سريع في نظام التوازن الاجتماعي بين الطبقات، كان من نتيجته، أن أعاد الرأسمال الاستثماري الخاص تمركزه في أيدي قلة متناقصة، وكانت سياسة رفع الدعم عن السلع الأساسية التي كانت توفرها الدولة، السبب المباشر الذي أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار هذه السلع، وعدم قدرة الفئات الشعبية وذوي الدخل المحدود في تأمين حاجاتها، نظراً للتفاوت الكبير بين المداخيل وأسعار السلع والخدمات،
هذه الاختلالات السريعة في نظام التوازنات الاجتماعية – الاقتصادية أدى إلى حركة احتجاج شعبية واسعة عامي 1977-1978، تعاملت معها السلطة بأسلوب قمعي، ودفعت بالكثير من الذين بروزا في قيادة هذه الحركة الشعبية إلى السجون، سواء من الذين سجلوا اعتراضات على الأداء السلطوي تعلق الأمر بمظاهر الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، أو بالنهج السياسي الذي اختطته السلطة لنفسها في التعامل مع معطى الصراع العربي – الصهيوني وكانت خطوة رأس النظام بزيارة القدس المحتلة وما طرحه من على منبر الكنيست الصهيوني بمثابة الصاعق السياسي الذي فجر بركاناً كان يغلي على مضاعفات الأزمة المعيشية وقد حصل الانفجار الشعبي الشامل، عندما تقاطعت أسباب الرفض الشعبي للسياسة الاقتصادية – الاجتماعية الداخلية، مع أسباب الرفض السياسي والشعبي لمبادرة النظام بتسوية مع العدو الصهيوني..
إن السادات الذي تعامل مع الانتفاضة الشعبية، بأسلوب القمع، أدرك أن القوى السياسية التي تشكلت على معطى نظام الانفتاح الاقتصادي لا تستطيع ضبط الشارع، مما حدا به لأن يعيد الاعتبار لحركة "الإخوان المسلمين: في العمل السياسي العلني والمشرع، وظناً منه أن هذه الحركة بإمكانها أن تملأ الفراغ الشارعي، قطعاً للطريق أمام إعادة هيكلته بالنظر إلى معطى الأزمة التي تفجرت. كما بادر إلى تشكيل ما سمي بالحزب الوطني، الذي مارس دور الحزب الحاكم والذي استمر يفرز الرموز السلطوية إلى مرحلة حصول الانتفاضة الشعبية في 25/كانون الثاني/2011
إن مقاربة العمل الوطني بمضمونه التقدمي خلال المرحلة التي أعقبت نهاية الحقبة الناصرية، تُبين أن هذا العمل، كان يفتقر إلى الإطار التنظيمي المبرمج والموجه. إذ خلال هذه المرحلة، لم تبرز على الساحة المصرية، حركة وطنية وازنة، قادرة على تحقيق الامتلاء السياسي الذي نتج عن تصفية إرث الحقبة الناصرية. فالقوى الوطنية التقدمية التي تملك خبرة تنظيمية، من مثل الحزب الشيوعي، تعرض إبان الحقبة الناصرية للتشظي، ومن بقي على نهجه السياسي والفكري تعرض للاحتواء، وأما الأحزاب الوطنية التقدمية ذات التوجهات القومية من مثل الاتحاد الاشتراكي، فإنه كان حزباً مشكلاً بقرار سلطوي، وما أن صفيت السلطة التي شكلته حتى كان مصيره التصفية. وفي غياب أحزاب، وطنية البنى، قومية الأهداف، بقي الشارع المصري مشدوداً إلى علاقة عاطفية مع الإرث الناصري. ولهذا فإن مصر يعد انتهاء الحقبة الناصرية، لم تشهد ولادة وانبثاق أحزاب وطنية يبعد شمولي. ومن أعاد تنظيم صفوفه، أعادها تحت مسميات وطنية فضفاضة.
من هنا، فإن المرحلة التي أسست بداياتها أول السبعينيات، كانت تفتقر إلى عمل وطني منظم قادر على تأطير الشارع الشعبي حول برنامج سياسي وطني وقومي بأبعاده،واجتماعي – اقتصادي بمضمونه، وهذا ما أدى إلى وقوع الشارع تحت تأثير الحركة السياسية الأكثر تنظيمياً وخبرة، وهي الحركة الدينية، والتي كانت حركة "الإخوان المسلمين" التعبير السياسي الأبرز عنها. وما وسم الحياة السياسية بجانبها السلطوي والمعارض خلال أربعة عقود،بسمة خاصة أنها تمحورت فعالياتها بشكل أساسي، حول حزب السلطة، وهو الحزب الوطني، وحركة الإخوان المسلمين التي تصدرت المعارضة السياسية، لأنها كانت الأقوى تنظيماً والأكثر انتشار نظراً لاستفادتها من مناخ التدين العام في المجتمع المصري، أما الأحزاب الأخرى، الوفد الجديد، والأحرار، والعمل، والتجمع الوحدوي، وبعض التشكيلات الناصرية فإنها لم تستطع لا منفردة ولا مجتمعة أن تشكل قوة استقطاب فعلية كون هذه الأحزاب كانت تفتقر إلى وحدة رؤية سياسية في معالجة أزمات الداخل، وفي الاعتراض على سياسة الخارج.
استناد إلى معطى هذه المرحلة، يتضح أن العمل الوطني، بما هو عمل هادف إلى تحديد واضح لسياسة مصر الخارجية، وخاصة بعد توقيع اتفاقيات كمب دافيد، والضوابط التي وضعت على موقف مصر، بالاستناد إلى هذه الاتفاقية، والعمل لتقديم رؤية لتغييرات داخلية في حدها الأقصى، وإصلاحات جدية في حدها الأدنى في الجانب الاقتصادي – الاجتماعي، لم تتوفر له حاملة سياسية وطنية فاعلة وقوية. وهذا ما أبقى، الخيار السياسي الخارجي، خياراً سلطوياً دون ضوابط، وخيار السياسية الاقتصادية – الاجتماعية، خيار القوى الرأسمالية والتي بما تملكه من نفوذ وتأثير، شكلت الغطاء الفعلي للمنظومة الحاكمة، وتدرجت لأن تصبح جزءاً من هذه المنظومة، والتي كان من نتيجتها، أن ازدادت حدة التمركز الرأسمالي في أيدي قلة متناقصة، اعتمدت على الاستثمار الريعي في قطاعات السياحة والخدمات والعقارات والاتصالات، ومعه اتسعت المساحة الافقية للطبقات الأكثر فقراً، وانعكس الأمر على الطبقة المتوسطة التي بدأت تفقد موقعها كعامل توازن مجتمعي بين الفئات أكثر فقراً، وطبقة الطغمة المالية، التي أمسكت بالقرارات الكبرى السياسية والاقتصادية والأمنية. وهذا كان من الأسباب الرئيسية التي زادت من عوامل التصدع في البناء السياسي والتركيب المجتمعي.
وإذا ما أضيفت إلى هذه العوامل الاقتصادية – والاجتماعية التي باتت تشكل عامل ضغط على البنى المجتمعية المصرية، واتساع مساحة العشوائيات السكنية، لانعدم وجود خطة إسكانية وطنية تحاكي الازدياد المضطرد في عدد السكان، إذا أضيف إلى كل هذا، لجوء النظام إلى معالجة كثير من التعبيرات الشعبية والنقابية بأساليب أمنية قمعية، لتبين، أن الوضع المصري بات يختزن في ذاته كل عناصر الانفجار السياسي والاجتماعي الذي سرع بحصوله الموقف الذي انتهجه النظام حيال القضايا العربية، وخاصة قضية فلسطين والعراق، حيث المزاج الشعبي في مكان وخيارات النظام في مكان آخر، وهذا ما ساهم في تحفيز حالة التعبئة الجماهيرية.
 
الحركة الوطنية المصرية/وانطلاق الحراك الشعبي في 25 ك2/2011
عشية انطلاق الحراك الشعبي الواسع في 25 كانون الثاني/2011، كانت كل الظروف الموضوعية داخلياً وعربياً ودولياً، مهيأة لتوفير الأسباب للانفجار الشعبي الواسع، الذي انطلق تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام".
فعلى الصعيد الداخلي، بلغت الأزمة الاجتماعية حداً غير مسبوق من الاحتقان، نظراً لارتفاع معدل البطالة بسبب النقص المريع في فرض العمل، وإتساع مساحة العشوائيات السكنية، لانعدام الخطط الإسكانية التي تواكب الازدياد المضطرد والمتسارع في عدد السكان، وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية في ظل مستوى من المداخيل المتدنية التي لا تلبي الحد الأدنى من الضرورات الحياتية.
هذه المظاهر البارزة للأزمة الاجتماعية – المعيشية، تفاقمت لأن النظام لم يقدم حلولاً ناجعة لها، بل على العكس من ذلك، فإن الرأسمال الاستثماري الخاص، والذي أمسك رموزه بمفاصل السلطة السياسية، تعامل مع الأزمة بكل مضاعفاتها، بأسلوب التجاهل لحجم المعاناة الشعبية، فكان أن شكلت تعبيرات هذه المعاناة البيئة الاجتماعية المستعدة لاحتضان أي حراك شعبي ضد الشراهة السلطوية في نهب خيرات ومقدرات البلد.
هذا في المضمون الاجتماعي، أما الجانب السياسي، فإنه لم يكن أقل احتقاناً، لأن المنظومة الاقتصادية، التي شكلت قيادة الظل للمنظومة السياسية الحاكمة، شرعت استثماراتها في حقول الاقتصاد الريعي، من عقارات واتصالات ومضاربات مالية وخدمات سياحية، ومما جعل السلطة الحاكمة تتربع على سقف نظام ينخره الفاسد والرشوة والمحسوبية، وتعتمد أسلوب الحل الأمني في معالجة حركة الاحتجاجات الواسعة مغيبة الحدود الدنيا من ممارسة الديمقراطية في الحياة السياسية، وبما وضع مصر عشية الانتفاضة على عتبة مرحلة سياسية، عنوانها تداول السلطة على قاعدة التوريث السياسي، في استحضار لمشهدية النظم الملكية.
هذه المظهرية، التي سعت المنظومة الحاكمة لتقديم نفسها من خلالها، واجهت اعتراضات شعبية واسعة، مما أضطرها، لأن تقدم على تزوير نتائج الانتخابات التشريعية، بعدما بلغت المقاطعة الشعبية حداً غير مسبوق، وبحيث شكلت هذه المقاطعة نوعاً من الاستفتاء الشعبي على أداء النظام في الداخل، وأيضاً على أدائه فيما يتعلق بالعلاقة مع الخارج.
وهكذا فإنه عشية اندلاع الحراك الشعبي ونزول الجماهير إلى الميادين كانت المنظومة الحاكمة، تعيش حالة انكشاف سياسي داخلي، كما كانت تعيش حالة انكفاءعلى مستوى السياسية الخارجية، بان واضحاً من خلال التعامل مع موضوع العدوان على العراق، وبعدها تجاهله لمقاومة الشعب العراقي، والعدوان على لبنان، والعدوان على غزة وحصارها.
من هنا، فإن السلطة الحاكمة، كانت تدير دفه الأمور السياسية داخلياً وخارجياً، بما يخدم مصالح الطغمة – السياسية دون إيلاء أية أهمية للقضايا الاجتماعية والمعيشية الحيوية، ودون طموح وأماني الشعب في رؤية مصر تلعب دوراً يتلاءم وثقلها السياسي الذي يفرضه واقعها الجيوسياسي في توازنات تأثيرات المواقع في الإقليم وبعيداً عن التبعية والارتهان للخارج الدولي ومراكزه المقررةوخاصة اميركا.
إذاً، أن الحراك الشعبي الذي تم تناوله تحت عناوين مختلفة، ربيعاً، أو انتفاضة، أو ثورة، توفرت له كل العوامل الموضوعية، لكن دون أن تتوفر له الأداة القادرة على ضبطه وقيادته نحو تحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما أدى إلى خلل في إدارة هذا الحراك لعدة أسباب:
السبب الأول: ان حجم الانفجار الشعبي، والذي كان أكبر من قدرة النظام على احتوائه، كان أيضاً أكبر من قدرة الحركة السياسية المعارضة على احتوائه بالمعنى الإيجابي.
السبب الثاني: ان المجتمع المصري كان يفتقر إلى الهيكلة السياسية، وهذا ما جعل القوى الشعبية التي نزلت إلى الميادين تعيش حالة من الضياع السياسي، جعل الأطراف الأكثر تنظيمياً، هي الأكثر توظيفاً لنتائج الحراك، خاصة بعد إسقاط رموز السلطة الحاكمة، وعدم نجاعة أسلوب الحل الأمني، من اطفاء جذوة الشعلة التي أضاءها" شخص اعتباري اسمه الشعب".
السبب الثالث: ان الجماهير الشعبية التي احتشدت في الميادين غابت عن شعاراتها تلك المتعلقة بالقضايا القومية ولم تطرح برنامجاً متكاملاً على الصعيد الوطني، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل انشدت إلى شعار رحيل راس النظام وإسقاطه. وهذا ما أدى إلى" تكبير" حالة الشخصنة السياسية، الذي وأن أدى وظيفة إيجابية في تسريع الرحيل السياسي للرموز السلطوية، إلاان اثره بقي محدوداً لأنه لم يكن من ضمن سياق مشروع سياسي شامل للتغيير البنيوي.
هذه الأسباب الثلاث، وهي رئيسية، هي التي جعلت الحركة السياسية تواجه مأزقاً في إدارة الوضع الشعبي الاعتراضي، وبما أفسح المجال لحركة الاخوان المسلمين، والتي كانت آخر من دخل على خط الحراك، لتكون أول المستفيدين منه.
لقد وضع الحراك الشعبي القوى السياسية المصرية أمام تحدٍ مباشرٍ، وهو كيفية التعامل مع هذا المتغير الكبير، والمأزق الأكبر تجلى في حراك قوى العمل الوطني، التي لم تستطع أن تبرز كقوة فاعلة قادرة على التأطير والقيادة، مما جعلها تتكأ على دور المؤسسة العسكرية التي برزت من خلال تصرفاتها منذ اللحظة التي نزلت فيها الجماهير إلى الميادين في 25/1/2011 إلى 11/2/2011 أنها منحازة إلى المطالب الشعبية، وان مجرد وقوف المؤسسة العسكرية على الحياد، ينظر إليه بأنه ليس من مصلحة السلطة السياسية الحاكمة، فكيف اذا كان سلوكها يدلل على محاكتها إيجابياً المزاج الشعبي والمواقف السياسية المعارضة لأداء النظام في إدارة الشأن الداخلي وفي العلاقة مع الخارج؟
إن الساحة المصرية التي اختلجت بحراك شعبي واسع، كانت تفتقر إلى عمل وطني شامل منظم، وهذا وأن كان يعود بسبب منه إلى حجم الحدث السياسي الكبير، الذي فاجأ كثيرين، ومنهم القوى السياسية المصرية، سواء كانت في موقع الحكم والمعارضة، إلا أن السبب الأبرز كان غياب الحركة الوطنية المنظمة والمؤطرة حول برنامج سياسي يقدم رؤية متكاملة للتغيير وإدارة الشأن العام. وإذا كان، غياب الحركة الوطنية ناتج عن ضعف الهيكلة السياسية للمجتمع المصري فإن المرحلة التاريخية السابقة لحصول الحدث الكبير، والتي لم يسجل فيها عمل وطني منظم ببعد وطني شامل، بينت أن القوى الوطنية لم تكن مهيأة لاستقبال حراك شعبي بحجم الذي حصل.
فالشعب المصري، الذي أسلس قيادته لعبد الناصر، حيال القضايا القومية، لم يستطع أن يهضم اتفاقية كمب دايفيد وما أفرزته من نتائج سياسية واقتصادية، ولهذا كان الشعب على درجة عالية من التحصن السياسي والنفسي حيال التطبيع بكل أشكاله والتي أدرجته اتفاقيات كمب دافيد في صلب محتواها.
أن الشعب المصري، الذي عايش قضية فلسطين بكل جوارحه، وكان يطرب لشعار التحرير، ويعتبر أن الخطر الصهيوني لا يستهدف فلسطين لذاتها وحسب، لم تكن تريحه سياسة النظام حيال التعامل مع العدو الصهيوني، ولم تكن تريحه اغراق هذا النظام رأسه في الرمال، في كل مرة يبادر العدوالى تصعيد عدوانه على جماهير فلسطين في الداخل وعلى المقاومة بكل تعبيراتها في خارج فلسطين. كما أن الجماهير المصرية لم تكن تريحها ممارسات النظام في تعامله مع قطاع غزة، لأن هذه الجماهير ورغم ملاحظاتها على أداء ومواقف بعض القوى السياسية الفلسطينية إلا أنها ترى أنه لا يجوز أن تؤخذ جماهير فلسطين بجريره القوى السياسية.
ان هذا الموقف اللاقومي من القضية الفلسطينية، والموقف الذي اتخذه النظام من الحرب على العراق وتتالي فصولها، من حرب أولى وحصار وعدوان واحتلال، توضح ان خيار النظام الأساسي بالانضواء تحت سقف الاستراتيجية الأميركية فيما خص التعامل مع القضية الفلسطينية وأزمات المنطقة العربية، كان في الاتجاه المعاكس للمزاج الشعبي وارثه الوطني. وهذا ما جعل، الحالة الداخلية التي تنوء تحت عبء المسألة الاجتماعية – الاقتصادية ترزح أيضاً تحت عبء المسألة السياسية ببعدها الوطني والقومي. وان تلاقي هذه العوامل، هو الذي وفر الأرضية والمناخات لإنضاج الانفجار الشعبي الذي حصل عشية الخامس والعشرين في كانون الثاني/2011.
وإن ما يسجل على هذه المرحلة التي سبقت الانتفاضة الشعبية لجهة آليات العمل الوطني، هو أنه لم تبرز على مسرح الحياة السياسية المصرية، حركة وطنية مؤطرة حول برنامج سياسي يتناول قضايا الداخل بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا قضايا العلاقة مع الخارج بأبعادها القومية والدولية.وان ما كان يعتبر عملاً وطنياً، كان مجرد إرهاصات عبرت عنها بعض التشكيلات السياسية التي قدمت نفسها تحت عنوان القوى الناصرية والتي لم تكن موحدة في إطار تنظيمي موحد، كما أن بعض التحركات التي كانت تقوم بها بعض التنظيمات النقابية وخاصة نقابة المحامين بقيت دون القدرة على فرز حركة سياسية وطنية يمكنها أن تشكل حالة استقطاب للشارع المتذمر والمستاء والرافض لسياسات النظام، كما لممارسات وسلوكيات قوى سياسية بعضها يستند إلى فعاليات دينية، وبعضها يطمح لمواقع سلطوية.
هذا الغياب للعمل الوطني المنظم، جعل العشوائية السياسية هي التي تخيم على أداء بعض القوى المصنفة قوى وطنية، وبالتالي، بقيت ساحة مصر تعيش فراغاً وطنياً على مستوى البرامج السياسية، كما على مستوى البنى السياسية المنظمة. وهذا بقدر ما ساعد النظام على احتواء كل الأزمات التي برزت في وجهه، فإنه في المقابل، جعل الحركة الشعبية المصرية، تواجه مأزقاً في إدارة حراكها في لحظة التحديات الكبرى، وقد بانت مظاهر هذا المأزق بعدم قدرة القوى السياسية المصنفة وطنياً على توظيف معطى الحراك الشعبي في سياق مشروع وطني متكامل للتغيير، وبالتالي يمكن القول أن الفترة التي أعقبت الحقبة الناصرية وحتى انطلاق الانتفاضة،لم تشهد عملاً وطنياً منظماً استناداً الى رؤية شاملة للتغيير الوطني الديمقراطي.
 
وإذا كانت قد برزت على المسرح السياسي شخصيات ومنابر سياسية تدرج ضمن التصنيف الوطني العام، إلا أنها لم تستطع أن تشكل حالة استقطابية قادرة على وضع ضوابط للحراك الشعبي باتجاه الأهداف الشاملة في التغيير السياسي بمضمون تقدمي. وقد برز هذا القصور السياسي من خلال تمكن حركة الإخوان المسلمين من الفوز بغالبية المقاعد النيابية ومن ثم إيصال مرشحها إلى الرئاسة في أول انتخابات بعيد سقوط السلطة السياسية الحاكمة. وأن تمكن "الإخوان المسلمين" من الفوز بأكثرية نيابية وبالرئاسة، لم يكن بسب أنهم القوة الأكثر استقطاباً للشارع المصري، بل لأنهم، استفادوا من غياب الحركة الوطنية التي لم تستطع تأطير الشارع حول برنامج وطني من ناحية، ومن كونهم يختزنون تجربة تنظيمية طويلة واستفادوا من حالة التدين العام في المجتمع المصري ناحية أخرى.
وإذا كانت حركة الإخوان قد سقطت بعد سنة على استلامها للسلطة، فلأسباب عديدة: أبرزها، أن جوعها المزمن ونهمها للسلطة جعلها تعطي الأولوية لإملاء "بطونها السياسية" على حساب البطوية الشعبية الخاوية. كما أنها مارست نفس الأساليب التي مارستها السلطة السابقة من خلال احتكار مراكز القرار في الدولة وإقصاء الأخرين استناداً إلى ما سمته شرعية صناديق الاقتراع، والأهم من كل ذلك، أنها لم تقدم حلولاً وطنية للأزمة الاجتماعية الاقتصادية ولا للأزمة السياسية ببعدها الوطني القومي.
لقد قدمت حركة الإخوان المسلمين نفسها ليس باعتبارها تمثل الشعب المصري بكل مكوناته المجتمعية، بل باعتبارها تمثل مكوناً أكثرياً، وهذا ما جعل مكونات أخرى وبغض النظر عن مجموعها العددي تعيش هاجس القلق على وجودها الوطني وهي من صلب النسيج المجتمعي المصري، كما أن حركة "الإخوان المسلمين" التي سرعت الخطى لفرض "الإخونة" على الدولة والمجتمع، لم تطرح رؤيتها السياسة، لحل المسألة القومية ببعديها التوحيدي والتحريري، بحيث غابت قضية الوحدة وقضايا العروبة وقضية فلسطين عن خطابها السياسي. هذا التغييب للخطاب القومي، وان كان يحاكي الرؤية النظرية لحركة الإخوان التي لا تقيم اعتباراً للرابطة القومية، لأن الأساس عندها رابطة الدين، شكل عاملاً إضافياً، لاستفزاز مشاعر الكتلة الشعبية العريضة.
هذه العوامل مجتمعة جعلت حركة "الإخوان المسلمين" في قلب مأزق سياسي، فهي لا تملك حلولاً لمسببات الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية، ولا تملك أجوبة واضحة لحل المسألة الوطنية، سواء لجهة الوحدة الوطنية المجتمعية، أو لجهة التعددية – السياسية، لا بل أن الطريقة التي اعتمدتها لإدارة الشأن العام، استنفرت الشعور الشعبي العام، وأيضاً المؤسسات الارتكازية في الدولة والمجتمع المصري، "الأزهر، والقضاء، والجيش".
إن تصادم حركة "الإخوان المسلمين" في أدائها السياسي مع اصطفاف شعبي عريض، ومع المؤسسات المشهود لها بدور وطني جامع دفع الجماهير للنزول مجدداً إلى الشارع في استعادة متجددة لنبضه الذي أسقط المنظومة السياسية الحاكة بداية عام/2011
وكما بدت القوى الوطنية، المندرجة تحت مسمى الشخصيات والمنابر عاجزة عن احتواء الحراك الشعبي عشية اندلاعه، فإنها بدت عاجزة أيضاً عن احتوائه عندما نزلت الجماهير إلى الميادين في نهاية حزيران وبداية تموز/2013 ضد سلطة الإخوان وأزاء هذا العجز الوطني، اتجهت كافة القوى المعترضة على سلطة "الإخوان" إلى الاتكاء مجدداً على المؤسسة العسكرية لتكون الأداة التي يناط بها ضبط الإيقاع السياسي الجديد.
إذاً، بات واضحاً، أن الشارع المصري، يفتقر إلى حركة وطنية فاعلة، وهذا الافتقار، جعل الحركة السياسية تتمحور في فعالياتها، حول دور المؤسسة العسكرية كدور محوري، ودور حركة "الإخوان المسلمين" التي مارست دور الاعتراض السياسي المعبر عنه بأساليب مختلفة من اعتصامات والتظاهرات إلى العمل الأمني واستهداف القوى العسكرية والأمنية.
 
هذه المشهدية السياسية، تدفع إلى تدوين الاستنتاجات التالية:
الاستنتاج الأول: ان غياب العمل الوطني المنظم على مدى الحقبات السابقة، ظهرت مفاعيله عندما وجدت القوى الوطنية نفسها بشخصياتها ومنابرها، أمام تحدٍ ميداني مباشر، بحيث لم تستطع الشخصيات والمنابر أن تشكل إطاراً تأطيرياً للشارع المنتفض.
الاستنتاج الثاني: ان الأحزاب الدينية برزت في تعاطيها مع الأحداث الأخيرة، قوى وازنة في الشارع المصري، وهذا ما جعلها أكثر قدرة على التثمير السياسي، تمثل ذلك بحركة "الإخوان المسلمين"، أو بحزب النور.
الاستنتاج الثالث: ان المؤسسة العسكرية وخاصة الجيش، هي قوة وازنة ومؤثرة في الحياة السياسية المصرية. وهذا الذي وقف العالم على رؤيته مؤخراً لم يكن منفصلاً عن تاريخ هذه المؤسسة في تعاطيها مع الشأن السياسي. بدءاً من انتفاضة عرابي ومروراً بحركة الضباط الأحرار وانتهاء بموقفه المنحاز إلى الجماهير الشعبية عشية انطلاق الحراك في 25/1/2011، والذي برز أكثر وضوحاً في تجديد حيوية الحراك الشعبي في 30 حزيران 2013.
الاستنتاج الرابع: ان المؤسسة العسكرية، أثبتت من خلالها تعاطيها مع الشأن السياسي، انها مؤسسة وطنية التوجه، سواء تعلق الأمر بتعبيرات الموقف الوطني ضد العدو الخارجي، أم تعلق الأمر بفساد النظام السياسي الداخلي.
الاستنتاج الخامس: إن الأحداث الأخيرة، وكيفية التعامل معها، اكدت حقيقة راسخة ان مصر هي دولة مؤسساتية، وان تكوينها البنيوي، قادر على الصمود أمام المشاريع المعادية والرامية إلى تفكيك المنظومة الدولتية للمكونات الوطنية العربية، بغية جعل المجتمعات العربية تعيش حالة تفلت وطني، وبالتالي إدخالها مرحلة النزاعات المجتمعية وإقامة خطوط تماس بين المكونات المجتمعية على قاعدة المعتقدات الدينية والانتماءات الطائفية والمذهبية.
هذه الاستنتاجات الخمس، توضح أن الأرض المصرية هي ارض خصبة لعمل وطني وأنه إذا لم تسفر معطيات المرحلة الراهنة عن بروز حركة وطنية وازنة في إطار إعادة هيكلة الحياة السياسية المصرية، فإن الشارع المصري سيبقى أسير العشوائية في التعبيرات السياسية، وستبقى الحركة السياسية الجدية تتمحور حول الأحزاب الدينية من جهة، وحول دور مؤسسة الجيش باعتباره المؤسسة المنظمة الوحيدة القادرة على ضبط الوضع السياسي عندما يحصل الاختلال الداخلي. وقيام حركة وطنية مصرية فاعلة، مرهون بتوفر عاملين.
العامل الأول، هو بروز الأداة التنظيمية ذات التركيب الوطني الشامل.
العامل الثاني، هو البرنامج السياسي الذي يحاكي القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وإذا كان العامل الأول يرتبط بمبادرات لتأسيس أحزاب وطنية والفرصة متاحة حالياً، فإن العامل الثاني يجب أن يتمحور حول جملة عناوين سياسية واجتماعية واقتصادية.
ففي الجانب السياسي، يجب أن يؤكد البرنامج الوطني على مدنية الدولة والمجتمع، بحيث يشعر جميع المواطنين المصريين أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وأن الأكثريات والأقليات هي أكثريات وأقليات سياسية، وليست أكثريات وأقليات بالنظر إلى الانتماءات الدينية الإيمانية.
كما أن البرنامج الوطني، يجب أن يؤكد على مبدأ الفصل بين السلطات، وعلى تداول السلطة، وأن تكون الديموقراطية هي الناظم للحياة السياسية.
هذا في البعد الوطني الداخلي، أما في البعد القومي، فإن البرنامج السياسي الوطني يجب أن يكون شديد الوضوح في تأكيد هوية مصر القومية وما يترتب على هذا الانتماء من دور قومي في جبه المخاطر التي تهدد الأمن القومي العربي، وفي لعب دور الجاذب القومي للأمة العربية، حيث لا يستقيم الحضور الفاعل للعرب دون دور محوري لمصر بالنظر إلى موقعها وثقلها وأرثها التاريخي.
وفي الجانب الاقتصادي –الاجتماعي، فإن البرنامج الوطني يجب أن يحاكي القضايا المطلبية بكل تفرعاتها، عبر إعادة النظر بركائز النظام الاقتصادي الذي أفرزه ما سمي بعصر الانفتاح، وسن تشريعات اقتصادية تلبي الحاجات الأساسية والضرورية للقطاعات الشعبية، وبما يوفر دعماً للخدمات والسلع الأساسية، ويعيد تنظيم القطاعات الإنتاجية على قاعدة حماية قوى الإنفتاح الفعلية، وتوفير فرص العمل للحد من البطالة، وسن تشريعات إسكانية تلبي الحاجة المضطردة في زيادة عدد السكان. ان إدراج هذه العناوين في سباق برنامج سياسي شامل، من شأنه أن يقدم رؤية متكاملة لتغيير في حدة الأقصى وإصلاح جدي في حده الأدنى وبما يشعر المواطن المصري أنه دخل فعلاً مرحلة الامان على أمنه السياسي والاجتماعي ومرحلة الاطمئنان إلى مستقبله.
إن قيام حركة وطنية وازنة وفاعلة في الحياة العامة، لا يستقيم إلا إذا استحضرت العناوين السياسية لثورة 23 يوليو/1952 لكن دون استحضار آلياتها. وهذا الاستحضار لا يعني استدعاء الماضي إلى الحاضر، بل الاستفادة من كل المعطيات الإيجابية التي حفل بها تاريخ مصر السياسي اجتماعياً ووطنياً وقومياً، ومنها استمدت حضورها الفاعل على كافة الصعد والمستويات.
إن قيام حركة وطنية مصرية، بقدر ما هو ضرورة وطنية داخلية هو ضرورة قومية عربية، لأن مصر هي مصعد العرب ورافعتهم، ان قويت، قوي العرب، وان ضعفت، ضعف العرب،ومصر لن تكون قوية إلا بوطينتها المشبعة بالعروبة.
شبكة البصرة
الثلاثاء 11 ربيع الثاني 1435 / 11 شباط 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق