طارق عزيز لم يتم اغتياله يوم 5-6-2015 بل كان ذلك اليوم انهاء لخطوات عملية اغتياله الطويلة بتعمد ، فمنذ وصل خميني للحكم اعتبر طارق عزيز عدوا خطيرا لاسرائيل الشرقية ووضع اسمه في قمة اسماء لوائح التصفيات الجسدية ، وكانت محاولة اغتياله في 2 نيسان عام 1980 اي قبل شن خميني حربه على العراق، واصيب ومات يوم 5-6 وكتفه معطوب بسبب تلك المحاولة، فهو كان اول قائد عراقي تستهدفه اسرائيل الشرقية بالقنابل، وبما ان العراق كان عزيزا بعزة طارق عزيز فان خميني وبعده خامنئي بقيا يضمران الحقد عليه حتى جاء الغزو فوفرت امريكا لهم الفرصة الكاملة لاكمال عمليه اغتياله ولكن بطريقة اخرى.
يكفي طارق عزيزا فخرا ان جورج بوش الاب واثناء الاعداد لشن الحرب العالمية على العراق في عام 1991 ان قال متحسرا : (اتمنى لو كان لدي وزير حارجية مثل طارق عزيز) وحينما يقول بوش عدو العراق ومطلق الحرب ضده عن احد اعداءه وهو طارق عزيز بانه يتمنى ان يكون لديه وزير خارجية مثله فانه لم يهن جيمس بيكر وزير خارجية امريكا وقتها فقط بل اعترف بان عراق ما قبل الاحتلال كان فيه قادة عظام وليس قائدا عظيما واحدا هو سيد شهداء العصر صدام حسين.
وشهادة بوش الاب لم يكن القائد طارق عزيز يحتاج اليها فهو مكتف بتقدير شعبه ورفاقه في الحزب وقيادته الذين اعتمدوه وزيرا للخارجية لانه كان معدا اعدادا كاملا لدور القائد في دبلوماسية عربية غير مسبوقة لم يكن عمادها عبارة تشرتشل (الدبلوماسي الانجح هو الذي يتكلم كثيرا دون ان يقول شيئا) بل كان جوهر دبلوماسية طارق عزيز التحدث بعد اختيار كل كلمة لتكون تعبيرا دقيقا عن عقيدة سياسية قومية راسخة لا تحركها الاهواء ولا ترهبها التهديدات ولا المصالح الاقتصادية كما في الغرب وغيره.
لهذا كان طارق عزيز انجح دبلوماسي على مستوى العالم وليس العراق والاقطار العربية فقط. انا اتذكر انه كان قادرا على التحدث مع كافة مستويات البشر بطريقة ممتنعة وسهلة فهو لديه لغة يتقبلها العدو والصديق ليس لانها يمكن ان تفسر باكثر من طريقة وانما لانها بقدر ما هي صريحة وواضحة فهي تقوم على لغة مهذبة لا تستفز احدا ولا تزعل الخصم اذا كان عاقلا بل تجبره على الصمت او قبول ما قاله طارق عزيز. بفضل مواهبه المتعددة التي يندر جمعها في شخص واحد اجمع كل منصف محب للعراق او عدو له على ان طارق عزيز هو المعلم الاكبر في المدرسة الدبلوماسية العراقية والعربية وليس فقط عميدها وعبقريها بلا منازع.
ورغم ان السياسة الخارجية في عراق ما قبل الغزو نتاج ستراتجية الدولة وقيادتها وليس من صنع وزير الخارجية او وزارة الخارجية فانه انفرد من بين كافة وزراء خارجية العراق قديما وحديثا بترك بصماته العميقة والواضحة على الدبلوماسية العراقية في كافة مراحلها حتى الاحتلال وبقي المعلم الاول لكافة الدبلوماسيين العراقيين وبكافة مستوياتهم من وزير الى ملحق.
هذه ليست فضائل طارق عزيز الوحيدة فهو انموذج حي وشديد التأثير لطبيعة النظام الوطني قبل الاحتلال والذي اعتمد عقيدة البعث مرجعية اولى له، فطارق عزيز المسيحي العربي قدم للعالم صورة فرضت نفسها لعراق لا يميز بين مواطنيه على اسس الدين والطائفية والاثنية فلقد كان طارق عزيز هو سفير العراق وممثله الدائم بعين العالم وبقي كذلك حتى غزوه.
ولذلك فان احد اهم اسباب سقوط الكثير من اعمدة خطة شيطنة العراق والبعث وجود طارق عزيزا قائدا من الخط الاول فهو عضو اعلى قيادة في البعث على المستوى العربي وهي القيادة القومية وهو عضو اعلى قيادة في العراق وهي القيادة القطرية، وهو نائب رئيس الوزراء اي نائب الرجل الاول، وعندما يتذكر العالم كل تلك الحقائق فان فرية وجود تمييز ديني او طائفي كانت تسقط تلقائيا. اذن صورة القائد طارق كانت احد اهم اسلحة العراق.
عندما كان طارق عزيز يتحدث في الامم المتحدة مثلا كان ممثلوا الدول يتسابقون للحضور للاصغاء اليه باستثناء سفيرين هما سفير اسرائيل الغربية وسفير اسرائيل الشرقية واحيانا ينضم اليهما سفير امريكا. كنت ادير رأسي في الثمانينات في قاعة مجلس الامن او الجمعية العامة للامم المتحدة عندما كنت اعمل في الممثلية العراقية في الامم المتحدة فاجد الجميع في حالة اصغاء وترقب لما سيقوله سفير العراق الاعظم طارق عزيز وكنت اشعر بفخر وانا ارى وطني يزداد عظمة برجال يحترمهم العالم بما في ذلك اعداءهم.
احتل العراق ووقع طارق عزيز في قبضة الاحتلال ورغم الوعود والاعلانات الرسمية الواضحة لسلطات الاحتلال بمعاملته كاسير حرب الا انها تنكرت لوعدها وسلمته لاشد اعداءه كراهية له والذين حاولوا اغتياله في عام 1980 ووفرت امريكا لهم فرصة اكمال عملية الاغتيال تلك بعد 35 عاما، كلمة الشرف الامريكية كانت خداعا رسميا وعلنيا عندما سلمته لنوع من المخلوقات لا ينتمون للبشر فكان طبيعيا ان يعامل بعقلية الانتقام من احد مهندسي اقامة العراق العظيم الذين اذهلوا العالم ليس فقط بانجازاتهم العلمية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية بل بتكوينهم الانساني الفريد بصلابته وعقائديته وسمو اخلاقه، ثم جاء الدرس الاكبر وفرضت نفسها الحقيقة الاشد عظمة وهي ان اولئك الرجال رجال البعث وصدام كانوا نماذج لامة لا تقهر في ميدان العقيدة وكرامة الوطن ومصالحه حتى لو هزموا في ميدان الحرب العسكرية.
وقف طارق عزيز المريض والمحروم من الدواء ليقول للعالم مرة اخرى بعد اسره (نحن ابناء العراق لا نبيع عراقنا ولا نساوم ولا ننحني)، اكد ذلك في محكمة اقترنت باسوأ انواع الاضطهاد لمن يحاكم خصوصا تعيين امريكا لقضاة احقر من النغول واشد وساخة من الخنازير، اختارتهم امريكا عمدا من هذه الاصناف الساقطة لاجل الاساءة لرجال عظام مثل الشهداء صدام وطارق وطه وبرزان وسبعاوي وعلي حسن المجيد وعواد البندر السعدون وغيرهم.
لكن الرجال يبقون رجالا والنغول يبقون نغولا مهما تغيرت الاحوال وبدلا من الاساءة لرموز العراق العظيم فانهم قدموا دليلا اخرا على انهم عظاما بنقاءهم وعفتهم وحمايتهم لكرامة العراق، وتلك كانت ابرز سمات رجالات العراق ومنهم العزيز طارق عزيز الذي رفض باباء التراجع وتحمل عذابات كبر سن المقترنة بالحرمان من الدواء الكامل وتعريضه للتعذيب حتى لفظ انفاسه الاخيرة. هذا هو العراق العظيم الذي اعاد البعثيون بناءه بعد قرون من التخلف والضعف واعادوا اليه امجاده العتيقة بانجازات غير مسبوقة في العصر الحديث في العالم الثالث وبعضها غير مسبوقة في العالم كله مثل نظام التامين الصحي الشامل والمجاني وبلا ضرائب.
من قتل طارق عزيز؟ القاتل الاول للعزيز طارق عزيز هو امريكا فهي من قدمت له كلمة (الشرف) بانه سينال معاملة اسير حرب عادلة لكنها خرقت قوانين الحرب وحاكمته، وهي وليس غيرها من نصب الرعاع والسفلة والاميين قضاة واصدرت حكما باعدامه. وامريكا هي المسؤولة عن مأساة التعذيب البطئ لطارق عزيز وكان هدفه لواضح هو اعدامه بطريقة خاصة توحي بان الانسان كلما استخدم عبقريته في خدمة وطنه سيتعرض لعقاب يتناسب مع الضرر الذي لحق بالغزوات الاستعمارية الامريكية. وامريكا انتقمت من طارق عزيز الذي هزم دبلوماسييها ووزراءها بابتسامته المصحوبة بكلمات دقيقة ناعمة مثل الماء لكنها وايضا مثل الماء تفتت الصخر ببطء.
المجرم الثاني المسؤول عن اغتيال العزيز طارق عزيز هو اسرائيل الشرقية فعندما غزت امريكا العراق وبمساعدة فارسية جوهرية فانها سلمت طارق عزيز للفرس لانه تعلم انهم خير من سيتفنن في قتله ببطء وبتعذيب دائم ولعدة سنوات فكان حرمانه من الدواء واعطاءه بعض ما كان اهله يرسلونه له وسيلة لاغتياله ببطء، وكانت المعاملة الوحشية له ومنع توفير الفحص الطبي له اسلوبا اخرا لاغتياله. وحكم الاعدام الذي اصدره خميني قبل ان يقوم القاضي النغل باعادة اصداره كان يجب ان لا ينفذ مرة واحدة لاجل ضمان تواصل تعذيب طارق عزيز واذلاله حتى الموت.
المجرم الثالث هو الغرب المنافق الذي استخدم لعقود طويلة لافتة حقوق الانسان وغزا وشن الحروب تحت غطاء حماية تلك الحقوق، لكنه صمت ويصمت صمت الموتى على جرائم امريكا في العراق والتي فاقت كل جرائم السفاحين في الحربين العالميتين الاولى والثانية. ان الجريمة الاكبر هي غزو العراق وتدميرة استنادا على اكاذيب مفضوحة مما ادى الى ابادة ستة ملايين عراقي منذ عام 1991 وحتى الان وهو يعد اكبر خسارة يتعرض لها اي شعب في العصر الحديث كله بمعيار عدد السكان، ونتيجة للارهاب الدموي غير المسبوق الذي مارسته امريكا بنفسها او عبر عصابات دعمتها مثل بلاووتر والعصابات الايرانية فقد اجبر اكثر من عشرة ملايين عراقي على الهجرة.
الغرب صمت على تلك الجرائم البشعة التي ارتكبتها امريكا في العراق والغرب يصمت الان على جرائم ابشع تقوم بها عصابات ايران لانه يرى ان من مصلحته الايغال في تدمير العراق شعبا ووطنا.الصامتون على ما يجري في العراق خصوصا على الاغتيال البطيء لطارق عزيز ورفاقه من قادة العراق الابطال عسكريين ومدنيين يتحملون مسوؤلية تلك الجرائم واخرها اغتيال طارق عزيز.
هل نبتأس؟ كلا والف كلا، فعندما اخترنا طريق البعث كنا نعرف انه طريق الالام والتضحيات وليس طريق الامتيازات والمنافع، نحن الجيل الذي انتمى للبعث على قاعدة (البعثي اول من يضحي واخر من ينتفع)، لذلك فاغتيال طارق عزيز وتواصل اغتيال قادة العراق الاسرى مدنيين وعسكريين وببطء ايضا تأكيد مضاف على اننا على حق وان من يريد تصفية رموزنا يستهدف في الواقع انهاء العراق.
صمود رفاقنا الاسرى ورفضهم المطلق لكافة انواع المساومات وسام على صدر كل عراقي وعربي وليس على صدور البعثيين وحدهم، فهؤلاء هم رجالات العراق قبل ان يكونوا رجالات البعث وبطولاتهم هي بطولات كل العراق بكافة مكوناته وقبائله واحزابه وتقاليده وقيمه السماوية، وفخر للعراق ان يكون لديه رجال عظام من كل العراق من المسلمين شيعة وسنة ومسيحيين وصابئة ويزيديين واكراد وتركمان وعرب لا تعلو لديهم هوية على هوية العراق، لا يتراجعون ولا يهابون الموت بل يختارونه تعبيرا عن عشقهم للعراق العظيم الذي كان، والذي سيكون افضل مما كان عظيما ومهابا وواحدا بفضل هؤلاء جميعا اخوة صدام وطه وطارق وكل الشهداء بعثيين وغير بعثيين.
هل هذا رثاء للعزيز طارق عزيز؟ كلا انه تسليط الاضواء على سيرة رجال العراق العظام كي تتعلم الاجيال الجديدة من تلك السيرة ان الوطن لا يحمى بالكلام بل الموقف الصلب وان الكرامة لا تصان باحناء القامة بل بالوقوف برؤوس مرفوعة لا تنحني الا لله.
رحم الله العزيز طارق عزيز الذي عاش عزيزا وولد من جديد عزيزا.
Almukhtar44@gmail.com
5-6-2015
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق