قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الجمعة، 11 مايو 2012

مهمة ميتافيزيقية في بقاع المشلولين عن المكان ..الذي عجز العلم أن يجد له موطئ قدم


مهمة ميتافيزيقية في بقاع المشلولين عن المكان ..الذي عجز العلم أن يجد له موطئ قدم
09/05/2012
د. صلاح صالح

أوّل ما يلحظه قارئ (تقرير الهدهد) لكاتبها اليمني حبيب عبد الرب سروري (الصورة ) أنها وعاء فضفاض على مادّتها التي أرادها الكاتب مادّة (ضخمة) تبدأ من (مقهى الكوكبة) في السماء السابعة والسبعين على بعد مليارات السنوات الضوئية، 
وتنتهي على أرضنا السورية الصغيرة في سياق تكليف الكاتب السوري (نبيل بدر سليمان) بمهمة ميتافيزيقية، بدت  غير مناسبة لـكاتب تصفه الرواية بأنه (مادّي حتّى العظم) في معرض سعيها لإنتاج بعض مفارقاتها القاتمة، وفي سياق إلحاحها على ترسيخ التفكير العقلاني الذي كان أبو العلاء المعرّي رمزه العربي الأهمّ، وجعلت (نبيل سليمان) قسيماً لأبي العلاء في أداء الشخصية المحورية في الرواية، ووجهه المعاصر أيضاً.


تقرير الهدهد

ولذلك تبدو أي أحداث مقترحة لملء فضاءات سماوية تقاس مسافاتها بمليارات السنوات الضوئية أحداثاً هزيلة، لأنها تعجز بحكم الضرورة الفنّية - قبل أي اعتبار آخر- عن تعبئة هذا الفضاء مهما بلغ عدد الصفحات، على الرغم من سعي الكاتب (وهو بروفيسور في الكمبيوتر يعمل في فرنسا) إلى حشد أحداث هائلة للغاية، تبدأ من الانفجار الكبير الذي بُدئ به الكون، مع الإتيان على دور ما سمّته الرواية (الأعلى جدّاً) والمرور بقصّة الخلق، وخلق الإنسان، مروراً بانقراض الديناصورات، في صياغات مبسّطة بدت منقولة عن أفلام علمية تلفزيونية يتكرر عرضها في القنوات المتخصصة. إضافة إلى التجوال الحر الذي أباحته الرواية لنفسها في مختلف المسائل والقضايا التي تعيشها وتعانيها منطقتنا العربية التي أطلقت عليها الرواية تسمية ذكية ودالّة: (بقاع المشلولين).
بدا الكاتب مندهشاً إلى حدّ الانصعاق اندهاشاً من مناخ الحرية الفكرية (بإطلاق الدلالة) التي كان المشرق العربي يعيشها في القرن الرابع الهجري الذي اختتم عبقرياته الشعرية بأبي العلاء المعري. وبدا الكاتب أيضاً مندهشاً بالمدى الذي بلغه أبو العلاء في السخرية من عبادات بني زمنه وطرائقهم في التعاطي مع التديّن بشتى تلويناته المذهبية، وسعي الشاعر العبقري إلى ترسيخ التفكير العقلاني بالقدر المستطاع، وهو ما دفعه إلى أن يجعله عضواً بارزاً في شلّة مقهى الكوكبة إلى جوار (داروِن، وماركس، وبيكاسو، وسواهم) قبل أن يعيده مرّة أخرى إلى الأرض ضمن لبوس معاصر هو جسد الكاتب السوري (نبيل سليمان) في (مهمّة ميتافيزيقية) لإنجاز (تقرير الهدهد) في مقابسة نصية مع الحكاية المعروفة عن (سليمان وبلقيس) التي أدى فيها الهدهد دوراً محورياً.
ربما كان الإطار الفضفاض ضرورة فنّية لاستيعاب جميع الخيوط السردية في الرواية التي سعت إلى قول (كل شيء) ذي صلة بهذه المنطقة العربية الشاسعة مع امتداداتها الإسلامية التي سمّتها الرواية جميعها بقاع المشلولين، بوصفها المنطقة الأرضية الوحيدة التي عجز فيها العلم عن إيجاد موطئ قدم، بسبب الشراسة الفظيعة في معاداته، ومعاداة منطقه وأساليبه في التعاطي مع الوجود، والإصرار على جعله عدوّاً مطلقاً للدين الذي ربطته المنطقة بـ «الحقد والكراهية والانتقام ومكر الماكرين» (ص82). خلافاً لما هو قائم في مختلف بقاع الأرض، بما في ذلك مناطقها التي تأخّرت عن إنجاز نهضتها الشاملة، مع الإشارة إلى أن الرواية جعلت الدين شقيقاً أكبر للعلم، لا عدوّا له، في الوقت الذي يصرّ فيه أبناء بقاع المشلولين على جعله عدوّاً.


موطئ قدم

سردت الرواية من شعر أبي العلاء أبياته الشائعة التي استعدت عليه المؤسسة الدينية إلى حدّ اتهامه بالزندقة والكفر عبر التاريخ، وإلى حد محاولات تحطيم تمثاله المتواضع (الآن) داخل المعرّة التي ما كان لأحد خارج منطقتها الضيّقة أن يعرفها لولا ارتباطها باسم أبي العلاء. وهو ما يرسّخ الفكرة الذاهبة إلى أن العبقرية الإنسانية هي التي تمنح المكان قيمته لا العكس. وسردت أيضاً بعضاً من الحياة اليومية لأبي العلاء في سجونه الثلاثة المعروفة، لتنشئ قصّة حب مع إحدى مريداته التي جعلتها الرواية الجدّة البيولوجية الثالثة والثلاثين لنبيل سليمان الذي ورث حب العلم والمعرفة والهوس بأبي العلاء عن والدته (التخييلية) الدكتورة (نوال التنوخي) المهووسة أيضاً بجدّها أبي العلاء، وسردت أيضاً كما أسلفنا قصة التكوين، وبدايات الحياة وصولاً إلى الحياة المعاصرة في سورية وباريس والبحر الأحمر، جاعلةً مقولتها الرئيسة تدمير البنى المعادية للعقل، واستئصالها من أعماق مشلولي هذه البقاع، بوصف التدمير ضرورة للخلاص والنهوض، وإنجاز جدارة الانتماء إلى العصر. مع التساؤل عن مغزى اختيار الرقم (33) لعدد الأجيال التي تفصل عصرنا عن عصر أبي العلاء، والمعروف أنه رقم (غنوصي) تعتمده الماسونية في درجات أعضائها، وهو مقترح أيضاً لعمر المسيح، وهو عدد حبات المسبحة أيضاً.
على الرغم من الغزارة المعرفية التي يتمتع بها الكاتب بحسب الراشح من السياق، فإن تلك الغزارة لم تستطع أن تعفي الرواية من الحشو والتكرار، ولتّ المعجون ذاته مراراً في مواضع عدّة من النص، وهو ما يجعلنا نستذكر المقولة الذاهبة في نظرية الرواية إلى أن (عبقرية الرواية تكمن في تنظيم غزارتها) من غير أن تنطوي (الغزارة) بحدّ ذاتها على أية قيمة فنّية.
منح الكاتب نفسه حرية قصوى للتجوال في مختلف شؤون الحياة العربية المعاصرة، وثقافتها المنحدرة من عصور الظلام، والتخلّف التي تبيح للجهلة المسعورين هدْرَ دم أي إنسان يخالف المعشّش في أدمغتهم المتكلّسة على مطلقاتهم الميثيولوجية المتوارثة: «لو تجرّأ أستاذ فيزياء واحد في مدرسة ابتدائية بأن يقول لطلابه إن ذلك مستحيل الحدوث لعذّبوه عذاباً شديداً، أو لذبحوه» (ص395) ومثل هذا التجوال عهدناه في غير رواية عربية متألّقة كـ (العصفورية) لغازي القصيبي الذي سرد مقداراً وفيراً من شعر المتنبي، و(متاهة الأعراب في ناطحات السراب) لمؤنس الرزاز، ورائعة هاني الراهب (رسمت خطّاً في الرمال) على سبيل المثال، وسعى حبيب عبد الرب سروري مثلما سعى أولئك الكتاب إلى تبطين سرده بالسخرية السوداء، ولاسيما خلال تناول ما سمّاه في أحد الفصول: «مناقصة تكسر ركبة الفيزياء» خلال تحليله الفيزيائي لقصة نقل بلقيس وعرشها مسافة ثلاثة آلاف كيلومتر خلال جزء من عشر أعشار الثانية.
حصر المسرب

كان من المحبّذ لو بقيت الرواية في حدود المعاينة والتوصيف، بدلاً من أن تقترح خلاصاً بدا ساذجاً بالمعنى السياسي حين حصرته بنوافذ الإنترنت التي تتدفّق منها الأجيال الشابة الجديدة كما لو كانت أرحاماً، حتى لو قيد الكاتب رؤيته برؤية نبيل سليمان بوصفه شخصية روائية مسرودة لا ساردة، فعلى الرغم من أن تعليق الأمل على الشباب بوصفهم رجال المستقبل فكرة متداولة في مختلف الأمكنة والأزمنة، فإن حصر المسرب بنوافذ الإنترنت والانفتاح على متاهة المعلومات المعاصرة، وغزارتها الطوفانية الغامرة، وانخراط الشباب انخراطاً قطيعياً في بعض ما ينخرط بعضهم فيه، بما في ذلك انخراطهم في آلة القتل اليومي الراهن، يجعلنا ذلك كله نلزم التحفّظ في مسألة الانسياق الأعمى وراء (حماس الشباب) لأنه حماس يضمر الطيش إن لم يكن طيشاً في كثير من توضّعاته العربية الراهنة، وهو ما ينافي محاولات الرواية لترسيخ الفكر العقلاني الذي حاوله أبو العلاء منذ ألف عام. ويُضاف إلى ذلك حقيقة يُفترض ألا تغيب عن ذهن أستاذ في الكمبيوتر تتمثل في أن ما يُسمى بالشبكة العنكبوتية للمعلومات هي شبكة مسيطر عليها أمريكياً، ولا تسمح إلا بممارسة العنف الذي تباركه أمريكا في المناطق التي تريدها، حتى على أسسه القبيحة إلى أقصى درجات القبح، على غرار ما يحدث اليوم في المناطق التي تتصدى أمريكا لمعالجة أوجاعها.  
المصدرهنا 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق