مجزرة ترتكب باسم القانون وارساء منطق عصابات الجريمة المنظمة وتنفيذ أبشع جرائم العصر بحق أبناء العراق وإعدامهم بتهم كيدية وملفقة ومن نسج خيال المخبريين السريين.! - وقائع وشواهد
المرابط العؤاقي
ربما أهّل عدد الذين تم تنفيذ حكم الإعدام في العراق، أهّل العراق بجدارة لأن يكون أكثر بلدان العالم سادية وتطبيقا لهذه العقوبة، التي يثار بشأن أبقائها أو إلغائها جدل كثير بين دول العالم الثالث من جهة، والدول المتطورة والمنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية والوطنية، وعلى الرغم من ذلك فإن مبررات استمرار هذه العقوبة فيما لو استندت على أسس من الحق والعدل، وتم تطبيق القانون بمهنية وحرفية وشفافية ومحاكمات علنية من دون تسييس، فإنها تبقى رادعا أخلاقيا عن ممارسة الأفعال الموجبة لفرضها، وخاصة في المجتمعات الإنسانية التي قطعت شوطا على طريق تحكيم القواعد القانونية من غرض سياسي، أو التي لم تصل هذا المستوى بعد، على حد سواء.
ويرى فقهاء القانون الجنائي الذين يتابعون المشهد القضائي في العراق، ومنذ الاحتلال الأمريكي عام 2003، وما أعقبه من استفراد إيران بالساحة العراقية وحتى اليوم، أن معظم الأفعال المنسوبة لما سمي بالمدانين والذين تم تنفيذ أحكام الإعدام بهم خلال هذا العام، والذين بلغ عددهم 119 شخصا على وفق الأرقام الصادرة عن وزارة العدل العراقية، في حال صدقت أرقامها، كانت نتيجة تهم كيدية وملفقة ومن نسج خيال المخبريين السريين الذين باتوا أهم مصدر لمعلومات الأجهزة الأمنية، وأنها – أي هذه التهم - جاءت نتيجة تصفية حسابات سياسية بين الشركاء المتشاكسين في العملية السياسية التي وصلت مفترق طرق ومأزق مستحكم لا يوحي أنه مقبل على انفراج، فالمنطق الثأري هو المحرك الأساس لسلوك الحكومة في تعاملها مع خصومها السياسيين، بل حتى مع شركائها.
ثم أن الاعترافات التي تنسب للمتهمين، كانت تنتزع بالتعذيب والإكراه، واعتماد أساليب في غاية القسوة والوحشية، لمجرد البحث عن ضحية تعلق على جسدها اخفاقات الأجهزة الأمنية القريبة من مكتب القائد العام للقوات المسلحة عند وقوع أي حادث أمني لافت، حتى أضحت تلك الأساليب البالية سمة تميز السلطة الحاكمة في العراق والتي لا تريد الاعتراف بأن الزمن يسير إلى أمام.
إن المناشدات الكثيرة التي أطلقتها الدول والمنظمات الإنسانية والحقوقية وخاصة منظمة العفو الدولية، للحكومة العراقية بوقف تنفيذ أحكام الإعدام، في محاولة للخروج من مأزق منطق لي الأذرع بين سلطة اتخاذ القرار والمجتمع الدولي المتمدن، ومن أجل البحث عن آليات جديدة وتوفير فرص التقاضي العادلة أمام المتهمين، ودراسة ملفاتهم بأناة وتدقيقها قبل سوقهم إلى ساحات الإعدام بمهرجانات كرنفالية، وبمنطق الشماتة والتشفي، ومن أجل منحهم حق الدفاع عن النفس بحرية وتوفير المحامين لهم، وحتى تسد كل الذرائع أمام الآخرين، ولكن الحكومة المعروفة بنزقها وضيق صدرها وانعدام خبرتها، جعلها تتعامل مع هذا الأمر باستخفاف كبير فأوصدت عيونها وآذانها، وكأنه متعلق بمصير كائنات حية للتجارب المختبرية ولا صلة لها ببني البشر، أو كأن الحكومة تعيش في جزيرة مهجورة في هذا العالم الفسيح تفعل ما تشاء من دون أن يعرف أحد بما يحصل.
إن هذا المنطق الخاطئ لو أنه عكس وجهة نظر الرأي العام العالمي على الحكومة، لقلنا حكومة لن تعمر طويلا وستلفظ أنفاسها الأخيرة عاجلا أم آجلا، ولكن الكارثة الحقيقية أن هذا السلوك المتخلف للحكومة والذي يعكس عقلية بدائية متحجرة، لا يتوقف عند الحكم على أداء هذه الحكومة أو على رموزها فقط، وإنما سينسحب على سمعة العراق الذي رسا على سواحله كل هذا الزبد، فما يحصل اليوم في العراق هو ارهاب سلطة متسلطة على رقاب العباد والبلاد، ويتم تسجيله باسم الدولة العراقية، ويبقى وصمة عار على جبين العراق والعراقيين دهرا طويلا مع أنه سلوك زمرة حاكمة تسلطت في غفلة من الزمن وبأدوات أمريكية إيرانية.
إن الحديث عن إلغاء عقوبة الإعدام شيء مختلف تماما عن الحديث عن حتمية توفير شروط العدالة في التقاضي أمام قضاء مهني يتعاطى دوره بحرفية بعيدة عن التجاذبات السياسية، التي باتت سمة تطبع واقع المجتمع العراقي منذ الاحتلال، فالحديث عن إلغاء عقوبة الإعدام بصورة نهائية، لا ينسجم مع واقع المجتمع العراقي خاصة، ومع مجتمعات العالم الثالث عامة، وربما يصطدم بعقبات دينية لا يمكن تخطيها، فالموقف الديني من العقوبات الجزائية معروف كونها أداة فعالة لضبط إيقاع المجتمع الذي يراد له العيش باستقراروانسجام وتحريره من الجريمة، وذلك عن طريق الردع العام بصيغة الردع الخاص، فزجر الآخرين عن ارتكاب الجرائم، بحاجة إلى عقوبات رادعة بحق المجرمين الحقيقيين، وإشعارهم بأن ما ارتكبوه لا يمكن أن يمر من دون حساب، وخاصة حينما تتحلل روابط المجتمع وقيوده الذاتية الرادعة عن الإتيان بالفعل المفضي إلى العقوبة.
ثم أن العراق الذي عاش ظروفا استثنائية بكل المقاييس منذ عام 2003، سياسيا وأمنيا ، وتفشت فيه الجريمة المنظمة، وتعرض المال العام فيه للسطو من قبل المافيات المتخصصة، ودفع ثمنا مرتفعا من دماء أبنائه، وتعرضت منظمومة القيم فيه إلى هزة عنيفة، قد يكون من المستحيل الآن وحتى أمد غير منظور مجرد التفكير بإلغاء عقوبة الإعدام، لأن ذلك سيعني إفلات الجناة من العقوبة التي يستحقونها، وإلا فإن المجتمع سيعود أدراجه إلى الوراء أكثر مما عاد حتى الآن، ويأخذ الفرد بتطبيق قانونه الخاص لاسرتداد حقه الضائع والمستلب، فهل نحن بحاجة إلى العودة إلى أسلوب الثأر الشخصي أو العائلي أو العشائري، لتطبيق مفاهيم العدالة؟ لأن الفرد والعائلة والعشيرة والطائفة حينما تجد السلطة عاجزة عن الانتصاف للحقوق المؤكدة أو المفترضة، فإن الفوضى ستضرب أطنابها في كل مكان بحيث ستبدو الفوضى الحالية مجرد نزهة سياحية.
غير أن تحدي العالم من جانب ما تسمى الحكومة وتجاهلها لكل الدعوات والنداءات الملحة لوقف عقوبة الإعدام، أو مجرد التفكير مليا قبل تنفيذ أحكام الإعدام بهذه الصور البشعة، يعكس منطق عصابات الجريمة المنظمة والمتصادمة مع بعضها، ومع منطق العصر والتمدن، وإذا كانت السلطة قادرة على تجاهل النداءات الدولية لسنة أو سنتين، فإنها ستكتشف بعد فوات الأوان أي خطيئة ارتكبت وألحقت هذا القدر الهائل من السوء بسمعة العراق، على الرغم من أننا على يقين أن من نفذ بهم حكم الإعدام، قد تخلصوا من عذابات ومعاناة هي أشد وطأة عليهم من الموت السريع نتيجة ما لاقوى من تعذيب على أيدي جلادين محترفين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق