المشهد الغريب في مصر
الياس سحاب
تعاقبت على مصر بين فصول الربيع في الأعوام 2010 و2011 و2012، ثلاثة مشاهد سياسية مختلفة الى درجة التناقض مع بعضها البعض، لكن اشدها غرابة بلا شك هو المشهد السياسي المصري في الربيع الحالي.
ففي ربيع 2010، كان نظام حسني مبارك يتوج ثلاثين عاماً من الاستبداد والفساد وضياع الاستقلال، بحالة قياسية من التزوير البرلماني، وبإصرار على واحد من امرين: إما ترشيح حسني مبارك الثمانيني لفترة رئاسية جديدة، او توريث نجله جمال. وكان الاحتمالان يظهران وكأن لا ثالث لهما.
أما ربيع العام التالي 2011، فكان يشهد انطلاق الثورة الشعبية في مصر، التي اذهلت العالم كله بفعاليتها ومستواها الحضاري، فأنزلت الطاغية عن عرشه، بعد ثمانية عشر يوماً فقط من خروج ملايين المصريين المدنيين العزل الى ميدان التحرير بالقاهرة، وسائر ميادين المدن الكبرى والصغرى، من أسوان جنوباً حتى الاسكندرية والعريش شمالا.
صحيح ان المجلس الاعلى للقوات المسلحة تسلم زمام الامور بعد تنحي مبارك، في ما بدا بعد ذلك مشهداً من مشاهد استمرار النظام السابق، برغم خلع عدد من رؤوسه، غير ان العام 2011 استمر انطلاقاً من ربيعه، عاماً للتغيير، ظلت فيه جماهير المدنيين المصريين الثائرين، تخرج في دفعات ضغط على المجلس الاعلى للقوات المسلحة لمزيد من التنازلات المتتالية المعروفة.
مسيرة العام 2011 رغم صعوباتها، وفداحة الثمن الذي كان يُدفع في الميادين من حين لآخر، ظلت تبدو مع ذلك مسيرة مظفرة، لا بد لها، مهما تباطأت الحركة، واشتد المخاض، وتكاثرت معوقات النظام السابق الذي بقي قائماً عبر عدد من المؤسسات والمظاهر، من ان تصل في نهاية المطاف الى تحقيق الأهداف الكبرى للثورة، هدفاً بعد هدف، هكذا كان يبدو المشهد على سطحه، على الأقل.
لكن الانتخابات التي اجريت بعد ذلك، لأعضاء مجلس الشعب، وأعضاء مجلس الشورى، خرجت علينا بمشهد بدا وكأنه وقف كامل لمسيرة الثورة، وإعادة الصراع الى حالة سابقة من حالاته بين النظام البائد بكل تجلياته من جهة، وقوى الإسلام السياسي التي ظلت موضوعة تحت القمع والضغط طيلة العقود الثلاثة السابقة بشكل خاص، فيما عدا المشهد الذي تسرب فيه ثمانية وثمانون من مرشحي الإخوان المسلمين الى مجلس الشعب، في سابقة ما لبث النظام البائد ان أطاح بها عبر انتخابات ضربت الرقم القياسي في التزوير، وجاءت تنضم الى سائر المكونات المتراكمة التي فجرت ثورة 25 يناير.
وهكذا، وصلنا الى ربيع العام 2012 الحالي، ونحن على عتبة الانتخابات الرئاسية، التي كان التبكير في موعدها ثمرة من ثمار ضغوط شباب الثورة وميادين الثورة على سلطة المجلس الاعلى للقوات المسلحة، حتى ظهر امامنا مشهد سياسي غريب يسيطر على مصر حالياً، فيه الكثير من الغرائب:
1- يبدو أمامنا ربيع العام 2012، وكأن ربيع العام 2011 لم يمر على مصر نهائياً، وذلك ليس فقط في تراجع حركة ثوار الميادين الى درجة الصفر، بل في اختفاء كل الوعود التي حملها الثوار مع أرواحهم على أكفهم في مشهد تبدو فيه النتائج كأن لا علاقة لها بالمقدمات، او كأنها نقيض لهذه المقدمات.
2- مع ان الاخوان المسلمين ظلوا يحاولون طوال ربيع العام 2011 التقرب من الموجة الثورية الاساسية، غير ان ترددهم الواضح في كثير من المفاصل الهامة في العام 2011، كشف درجة من الاختلاف مع الثورة، لكنه اختلاف وصل الى حد التناقض مع حلول ربيع العام 2012، ونهاية مرحلة التلاعب والتحايل والتسويف والخداع، بوصول الأمور الى خواتيمها المنطقية.
3- أهم مظاهر المشهد السياسي الغريب الحالي، ليس فقط وصول الامور الى حد التناقض بين المشروع السياسي للاخوان المسلمين (ومعهم السلفيون) ومشروع ثوار 25 يناير، لكن الشراهة السياسية الغريبة التي ينقض فيها تيار الاسلام السياسي على الاوضاع السياسية والثقافية في مصر، الى درجة تفضح معها الرغبة في الإقصاء الكامل لكل القوى الأخرى، الى حد الإلغاء. ولعل من العلامات الكثيرة على هذه الشراهة، ان الاخوان المسلمين لم يجدوا غير السيد محمد سعد الكتاتني لرئاسة مجلس الشعب، وأيضا رئاسة الجمعية التأسيسية للدستور، وكأن مصر العظيمة قد تمخضت فولدت سعد الكتاتني كفاءة سياسية ودستورية وحيدة، في "أم الدنيا".
هل هذا المشهد الغريب هو نهاية المطاف في مصر؟ الأرجح أن وقتاً غير طويل لا بد من ان يشهد اندفاع موجة جديدة من موجات ثورة 25 يناير، التي تبدو وكأنها عادت الى موقعها، موقع النار تحت الرماد.
إنها حركة التاريخ، وحركة المجتمع المصري الغني الذي لعب أعظم الأدوار في محيط أمته العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين.
كاتب سياسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق