جنوب السودان يفصح عن أسرار فصله
خميس التوبي
ما يجري بين السودانيين من مواجهات ساخنة على خلفية قيام حكام جنوب السودان بالسيطرة على منطقة هجليج الغنية بالنفط الواقعة ضمن حدود شمال السودان، يطرح سؤالًا مهمًّا: هل كانت اتفاقية نيفاشا للسلام الموقعة في التاسع من يناير عام 2005م سببًا في احتدام المواجهة بسبب ما بها من ثغرات؟ وهل الخلاف محصور على قضية مناطق النفط؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك؟
السودان يكتنز بالكثير من التناقضات والاختلافات إلى جانب الثروات النفطية والطبيعية والمساحة الشاسعة مثلت في مجملها بيئة خصبة وجاذبة لمختلف القوى، يحركها بالأساس الصراع على المصالح والنفوذ، وقد لعبت حركات التمرد ودعمها دورًا كبيرًا في تسهيل مهمة المتنافسين داخل السودان، لتتجاوز فيما بعد حقيقة التدخل الغربي وهي مساندة "أقلية" مسيحية بالجنوب في مواجهة أغلبية مسلمة بالشمال. ولعل اتفاقية نيفاشا كانت العنوان الأبرز والأكبر أو بالأحرى المنطلق الحقيقي في البدء في تنفيذ المشروع الغربي في المنطقة وفي الجزء الخاص بالسودان، ومن المهم والمناسب التذكير هنا بما جاء على لسان كولن باول وزير الخارجية الأميركي في إدارة الرئيس جورج بوش "الصغير" وذلك في القاهرة بعيد سقوط بغداد بيد الاحتلال الأنجلو ـ أميركي بحوالي شهر أو أكثر قليلًا، حين قال باول في مؤتمره الصحفي: إن هناك بعدًا جديدًا في أجندة الرئيس جورج بوش فيما يخص منطقة الشرق الأوسط، وإن هذا البعد يتعلق بتغيير المنطقة بحلول 2013. وبالمناسبة فإن اتفاقية نيفاشا اعتورتها ثغرات أبرزها تقرير حق المصير بإجراء استفتاء عام، وتقاسم الثروة النفطية الذي حمل هو الآخر ثغرة تتمثل في تجاهل الثروة المائية؛ أي أن الأمر قد طبخ بليل، حيث كانت النية مبيتة لفصل جنوب السودان عن الوطن الأم، وهو ما يؤكد السبب الرئيسي وراء مقتل جون جرنج زعيم الحركة الشعبية الذي وقع اتفاقية نيفاشا ممثلًا عن الجنوب. فقد كان جرنج يرفض الانفصال ويميل إلى خيار الوحدة وتقاسم السلطة مع الشمال.
لقد جاءت حادثة قيام قوات متمردي الجنوب بالسيطرة على منطقة هجليج الغنية بالنفط التابعة لشمال السودان، وكذلك تمركز هذه القوات في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان والارتباط بالفرقتين التاسعة والعاشرة بالجيش الشعبي، ودعم وإيواء حركات دارفور المتمردة، ليفصح جنوب السودان المفصول بصورة أكبر عن الدور المنوط به غربيًّا وصهيونيًّا، وهو القيام بما يطلب منه بتأليب الجماعات القبلية والسياسية والحزبية والمذهبية على بعضها البعض، والسيطرة على مناطق الثروات النفطية، مثل أبيي وهجليج، والتحكم في مصادر مياه النيل، بحيث يشترك هذا الجزء المفصول من السودان مع الكيان الصهيوني المحتل الذي بدأ يضع أقدامه بعمق في إفريقيا خاصة في دول منبع النيل مثل أثيوبيا التي قام فيها الخبراء الإسرائيليون بإنشاء سدود مياه متوسطة وصغيرة، على أن يعمل جنوب السودان بدوره على التحكم في المصب مهددا الدول التي تستفيد منه مثل مصر والسودان.
وإزاء كل ذلك يبدر هناك سؤال وهو: لماذا جاء التصعيد من قبل جنوب السودان في هذا التوقيت؟ لا يخفى أن الكيان الإسرائيلي المحتل يرى في إفريقيا عمقًا جغرافيًّا له، الذي هو الآخر يمثل عمقًا استراتيجيًّا للدول العربية، وبالتالي التغلغل في القارة السمراء يمثل أولوية لاشغال العرب ومحاصرتهم وضرب وحدتهم، وتشتيت انتباههم عما يرتكبه المحتل الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، لا سيما وأن الوضع العربي الآن في ظل ما يسمى "الربيع العربي" يعيش أسوأ حالات تضعضعه وانهزامه، وهز عوامل الاستقرار في الدول العربية مطلوب في المرحلة الراهنة لتمرير مخطط تغيير المنطقة بحلول عام 2013م كما بشر به كولن باول، فبلاد ثورة الياسمين لم تستقر بها الأوضاع بعد ومرشحة إلى مزيد، فثمة صراعات ومواجهات تشهدها بين الحين والآخر، فضلًا عن الصداع المزمن الذي تسببه لها جارتها ليبيا التي كل المؤشرات إلى الآن تشير إلى أنها ذاهبة إلى دولة فاشلة بكل المقاييس خاصة بعد أن بدأت مرحلة التقسيم، وقبل ذلك بدأت بتوزيع ثروتها النفطية على "المنقذين"؛ فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، ومصر؛ مركز الثقل ورمانة الميزان الدولة الأهم المستهدفة التي بالإضافة إلى مشاكلها الداخلية وتهديدها في مصادر المياه، تحيط بها أوضاع غير مستقرة تتمثل في ليبيا، والاحتلال الإسرائيلي، وسوريا التي هي الأخرى جارٍ العملُ من أجل تمزيقها. بالمجمل فإن المنطقة مؤهلة للتغيير الموعود، ولذلك فمن الوارد أن يقوم جنوب السودان في أي لحظة بخطوة استفزازية هنا أو هناك، بمجرد أن تأتيه الإشارة من الولايات المتحدة أو الكيان الإسرائيلي، ربما توطئة لتدخل عسكري قادم في السودان للاستيلاء على ما تبقى من ثرواته وأرضه وفصل أجزائه، وما هذا التصعيد الأخير سوى بروفة، وليس مستبعدًا أن يتم ذلك بعد الانتهاء من الملف السوري. لو كان فصل جنوب السودان مقتصرًا على توفير الحرية لـ"مسيحيي الجنوب" لاختلف الأمر عن الذي نشاهده ونسمعه الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق