قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الخميس، 17 أبريل 2014

د. أحمد قايد الصايدي : اليمن إلى أين؟

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اليمن إلى أين؟
شبكة البصرة
د. أحمد قايد الصايدي
سؤال يزداد إلحاحاً علينا كل يوم، بقدر ازدياد مايمور به الواقع اليمني من أوراق مختلطة وأجندات متداخلة وقوى محلية متصارعة، متباينة المشاريع، متعددة المرجعيات الخارجية. وحتى الآن لم تتمكن أي من النخب الفكرية أوالقوى السياسية الحاكمة _ المعارضة[1]، أن تقدم جواباً مقنعاً عن هذا السؤال. وتكمن صعوبة الإجابة في جملة من العوامل، الظاهرة والخفية. وهي عوامل يتشابك فيها الجغرافي والإقتصادي والإجتماعي والسياسي، مما يجعل الإجابة عن هذا السؤال بحاجة إلى تفاعل العقول اليمنية وتضافر القوى المستنيرة وتعاون الخيرين، لاختيار أسلم الطرق وأكثرها أماناً، لإخراج اليمن من عنق الزجاجة ودفعه إلى بر الأمان. وسنحاول في مايلي ملامسة بعض هذه العوامل:
العامل الجغرافي:
موقع اليمن، الذي يحمل في طياته النعيم والجحيم معاً. إنه موقع يشكل أحد المفاتيح لفهم مايدور اليوم من أحداث مقلقة. فاليمن جار لدول عربية تعتبر من أغنى دول العالم. وهو غنى لم يتحقق بالإكتساب، أي لم يصنعه الإنسان في هذه الدول، بكده وجهده وطموحه وفكره وتطور مداركه. بل هو منحة، إنبثقت من باطن الأرض، منحتها الطبيعة للإنسان دون جهد أو عناء. ونشأت عن ذلك حالة من ضعف الإحساس بالمسؤولية تجاه هذه المنحة، وعدم تقديرٍ لقيمتها، بالنسبة للأجيال الحالية، كما بالنسبة للأجيال القادمة، وأضحت تستنزف استنزافاً غير محسوب وتنفق إنفاقاً عبثياً. هذه الحالة سحبت نفسها على نظرة الأثرياء إلى مواطنيهم الفقراء وإلى جيرانهم المعوزين. وهكذا تجاور الغنى والفقر وتعايش عبث الأثرياء مع انكسار الفقراء. ولكنه تعايش ظاهري في حقيقته. فسلوك الأثرياء، المتسم بالترفع والغرور غير المبررين، تقابله أحاسيس داخلية، بالإنكسار وبالكرامة المهدورة، لدى المعوزين. إنه وضع يتجلى يومياً في تعامل بعض أرباب العمل والكفلاء وحتى أجهزة الدولة، في الدول الثرية، مع طالبي العمل المنكسرين القادمين من بلد كاليمن، الذين يحملون في تكوينهم إحساساً بالكرامة، صنعته حضارة ممتدة في عمق التاريخ وقدرات حاضرة، تعبر عن نفسها في كل مجالات العمل المتاح. ولكنهم يعاملون معاملة تزيد من احساسهم بالإنكسار وتراكم في نفوسهم مشاعر الضيق.
ويتزاوج هذا الوضع بخوف دائم يسيطر على الأثرياء، من غضبة الفقراء. وقد شكل هذا الخوف حالة من عدم الإحساس بالطمأنينة وقاد إلى سياسات غير سليمة، في التعامل مع الجار اليمني، ضاعفت من مشاعر الضيق. وأبرز تجليات هذه السياسة، الحرص على الإمساك بالقرار السياسي لليمن والتحكم بأوضاعه الإقتصادية وتسخير نخبه السياسية وقياداته المدنية والعسكرية والقبلية، لإجهاض أية محاولات لتغيير الأوضاع الداخلية في اليمن، تغييراً حقيقياً نحو الأفضل، أي نحو بناء الدولة اليمنية الحديثة القوية، القادرة على دفع عجلة التنمية نحو الأمام. رغم أن دولة كهذه لو وجدت في اليمن، لغدت مرتكزاً من أهم مرتكزات الأمن والإستقرار والتعاون والتعايش الأخوي والإحترام المتبادل، في الجزيرة العربية كلها.
هذا هو الوجه الأول لتأثير الموقع الجغرافي لليمن. أما الوجه الآخر فهو الوجه المتعلق بالمصالح الغربية في المنطقة. ولن أسترجع هنا التاريخ البعيد والقريب، الدال على مدى اهتمام الإمبراطوريات والقوى الخارجية الكبرى باليمن وحرصها على وضع يدها عليه والتحكم بميزات موقعه، بدءاً بإمبراطوريات العصور القديمة، كالإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية، وانتهاءً بالإمبراطوريات المعاصرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. فاليمن بالنسبة لهذه القوى هو قاعدة مصالح لايمكن الإستغناء عنها والتفريط بها. فهو يطل على أهم طرق المواصلات البحرية في العالم، ويتحكم بالبوابة الجنوبية للبحر الأحمر (باب المندب). مما يجعله متحكماً بشريان الحياة الممتد من الشرق إلى الغرب، ومن منابع النفط العربية إلى مصباته الغربية. وعدا عن ذلك فهو جار مباشر لحقول النفط، التي تغذي عجلة الصناعة والزراعة والتجارة، بل عجلة الحياة كلها، في الغرب. فإذا ما اضطربت أوضاعه وعمت الفوضى أرجاءه، فسيمتد تأثير ذلك، سلباً، على أوضاع الجزيرة العربية كلها، ليس فقط على أوضاعها الأمنية، بل أيضاً، على الثروة النفطية، استخراجاً وتسويقاً. وهذا مايهم الغرب بالدرجة الأولى. لأن أي اضطراب في الجزيرة العربية، سوف يؤدي إلى تعطيل إمداد الغرب بهذه المادة الحيوية ويلحق أفدح الأضرار بالإقتصاد الغربي وبمجمل الحياة الغربية.
من هنا يأتي اهتمام الجيران واهتمام مايسمى بالمجتمع الدولي بالأوضاع في اليمن.

العامل الإقتصادي:
لايمكن الفصل بين العامل الإقتصادي والعامل الجغرافي. فالجغرافيا لا قيمة لها، إذا لم تنطو على أهمية إقتصادية. ولذا فإن ماتقدم عن العامل الجغرافي، يلقي ضوءاً كاشفاً على المصالح الإقتصادية، لاسيما المصالح الإقتصادية الغربية. يضاف إلى ذلك أن إخواننا في الجوار تقلقهم، كما يبدو، أوهام لامبرر لها، في أن نجاح اليمنيين في بناء دولة يمنية قوية، قادرة على تحقيق نهضة شاملة، مرتكزة على قاعدة إقتصادية متينة، لن يكون عامل استقرار وتكامل وتعاون أخوي وتعزيز للمصالح المشتركة، كما يطمح اليمنيون، بل قد يشكل مصدر إزعاج للجيران ولمصالحهم. لذا فمن مصلحة إخواننا هؤلاء، كما يتوهمون، أن يبقى اليمن تحت السيطرة، أسير الحاجة إليهم، يعاني من مشاكل اقتصادية مزمنة وأوضاع مالية مختلة وعملة ضعيفة، وديون متراكمة، متكلاً في تدبير حياته البائسة على مايمده جيرانه الأثرياء من معونات شحيحة، ويكتفي بما يلقونه من فتات، إلى نخبه المدنية والعسكرية والقبلية، التي تتكفل بمهمة ترويض شعبه وإضعاف قدراته وتكريس أوضاعه البائسة وتبديد أحلامه، وإبقائه على ماهو عليه، في منزلة بين منزلتين، لاقادراً على بناء دولته القوية الموحدة، ولا مضطرباً، إلى درجة تؤدي إلى نشر الفوضى وعدم الإستقرار في دول الجوار.
وبما أن مصالح جيراننا تتطابق مع المصالح الإقتصادية الغربية، فإن تطابق موقف هؤلاء، إزاء الحالة اليمنية الراهنة، مع موقف أولئك، يغدو أمراً منطقياً وغير مستغرب.

العامل الإجتماعي:
من الحقائق التي لايمكن إنكارها، أن المجتمع اليمني مجتمع متماسك في تكوينه الإجتماعي، منسجم في علاقاته، لايداخله تناقض أو تنافر، فأرومته واحدة وعقيدته واحدة ومكوناته الإجتماعية متداخلة وألوانه الثقافية متكاملة في تنوعها ومتنوعة في تكاملها. ومناطقه واقتصاداته، وحتى مناخاته المتعددة، يكمل بعضها بعضاً. هذه الحقيقة طبعت حياة اليمنيين بطابعها، ولفتت إليها أنظار الرحالة والزائرين الأجانب، الذين لم يلحظوا في اليمن تعصباً دينياً أو عرقياً أو مناطقياً، يمكن أن يبلغ مستوى الصراع، الذي يؤدي إلى تمزيق النسيج الإجتماعي، كما هو حاصل في بلاد أخرى، في المنطقة وفي العالم.
ورغم هذه الحقيقة فإن المصالح الخارجية قد دفعت بعض دوائرها السياسية والأمنية، وحتى بعض مؤسساتها الأكاديمية والبحثية، للغوص في أعماق المجتمع اليمني وتكويناته الإجتماعية والدينية وفي تاريخه، للتفتيش عن أية عناصر يمكن توظيفها، لتغيير هذه الحقيقة وتفتيت المجتمع وتحويله إلى طوائف متخاصمة وأعراق متنافرة، تمنع أية محاولة جادة لبناء الدولة اليمنية. ولا أقول هذا من فراغ، فقد حاولت في ثمانينيات القرن الماضي، من موقعي الأكاديمي حينها، كعميد للدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة صنعاء، أن أصرف بعض الباحثين الأجانب (أمريكيين وأوربيين)، عن أبحاث كلفوا بإجرائها في اليمن، تتناول حالات ليست لها أهمية ملحة، إلا لدى من يريدون أن يبنوا عليها سياسات مستقبلية، تستهدف خلق بؤر توتر إجتماعي وطائفي، تمزق النسيج الإجتماعي وتسهل إضعاف المجتمع اليمني وتبعده عن تحقيق حلمه في بناء حياته الجديدة. من ذلك مثلاً: بحوث أكاديمية عن فئات إجتماعية ومذهبية محددة، في صعدة وفي بيت الفقيه وفي حراز، ودراسات عن بعض الخصومات والإشتباكات القبلية، في بعض المناطق اليمنية، التي نراها نحن اليمنيين حالات محدودة وعابرة، تحدث في مناطق اليمن المختلفة، تظهر وتختفي يومياً، ولأسباب آنية، لاتلبت أن يطويها الزمن وتعود التكوينات الإجتماعية المتخاصمة إلى التعايش من جديد. إنها جهود علمية بطبيعتها المجردة، ولكنها تستبطن مرامي بعيدة، وتقدم مادة علمية لصانع السياسات في الغرب الإستعماري، يسخرها لأهدافه متى شاء.

العامل السياسي:
السياسة هي التعبير العملي عن كل ماتقدم، تخدم سيدها (الإقتصاد) وتسخر الجغرافيا والإجتماع لصالحه. تثير النزاعات وتفكك الشعوب والدول وتثير الفوضى الخلاقة، ثم تعيد ترتيب عناصر الواقع، بعد عواصف الفوضى، التي افتعلتها وتحكمت في مساراتها، تعيد ترتيب عناصر الواقع ترتيباً مرسوماً، يقود إلى تحقيق الإهداف المحددة سلفاً، وهي الأهداف المسكوت عنها غالباً. فماذا يمكن أن يقال عن العامل السياسي، في هذه العجالة، ونحن في سياق محاولة الإقتراب من الإجابة عن السؤال المحوري: اليمن إلى أين؟.
سأتخطى حدود الممنوعات، لدى بعض المثقفين العرب، وأشير هنا إلى المؤامرة، التي استهدفت وتستهدف الأمة العربية، وتحول دون تكامل الوطن العربي وتماسكه وتحقيق وحدته، لما تمثله وحدة هذه المنطقة، المتكاملة اقتصادياً، الكثيفة سكانياً، المهيمنة على أهم الممرات المائية، المتحكمة بطرق التجارة الدولية، المليئة بالثروات النفطية، التي تحرك عجلة الإقتصاد والحياة في الغرب، لما تمثله وحدتها، إذا تحققت، من قوة قادرة على حماية المصالح العربية، وإجبار الآخرين على التعامل معها تعاملاً نديِّاً، قائماً على الإحترام المتبادل والإعتراف بحق العرب في ثرواتهم وفي استقلال قرارهم السياسي. وليسمح لي بعض المثقفين العرب، المنكرين لوجود المؤامرة، أن ألامس بعض مظاهر هذه المؤامرة، في عناوين سريعة. إذ يصعب الحديث عن العامل السياسي، المؤثر في مسار الأحداث في اليمن، وفي الوطن العربي كله، دون أن نلامس بعض تجليات المؤامرة، الماثلة أمام أعيننا. ولنتجاوز المشروع الصهيوني، الذي يمثل في حد ذاته مؤامرة كبرى، والذي لايمكن استمراره إلا باستمرار تجزئة الوطن العربي إلى كيانات سياسية هزيلة، وهو ما أفصح عنه سياسيون ومفكرون صهاينة أو متصهينون، في كتاباتهم ومراسلاتهم، لنتجاوز هذا المشروع، كما نتجاوز مناطق الظل الداكنة في الثورة العربية الكبرى، عام 1916م، وتضليل المعتمد البريطاني في القاهرة، في ذلك الحين، السير هنري مكماهون، للشريف حسين، ومؤامرة بريطانيا وفرنسا، لتقسيم المشرق العربي، المعروفة بإسمي وزيري خارجيتيهما (سايكس ـ بيكو)، وحلف بغداد، الذي كان يهدف إلى فصل مشرق الوطن العربي عن مغربه، ودمجه في حلف يضم دولاً غير عربية، ويشكل مصدَّاً وحاجزاً أمام توسع النفوذ السوفييتي نحو مناطق النفوذ الغربي، لاسيما نحو المنطقة العربية، وخفايا الهزائم، التي مني بها العرب، وأبرزها هزيمتي 1948م و1967م، وإجهاض ماكان على وشك أن يصبح النصر العسكري الوحيد للعرب في حروبهم مع إسرائيل، وذلك عام 1973م، ثم تحويله إلى هزيمة سياسية، توجت باتفاقية كامب ديفيد، كما نتجاوز فكرة الفوضى الخلاقة، التي مثل تدمير العراق فصلها التمهيدي، ثم لحقه تدمير ليبيا وسوريا وبلدان عربية أخرى، بعضها سبق تدميره وبعضها ينتظر دوره، وهو تدمير يراد به أن يكون بداية الإنطلاق نحو تحقيق خارطة الشرق الأوسط الجديد، المتضمنة مزيداً من تفتيت الوطن العربي، ضماناً لاستمرار نهب الثروات العربية والتمكين للكيان الصهيوني، الحارس الأمين للمصالح الغربية في المنطقة، لنتجاوز هذا كله، كما نتجاوز الوجه الآخر من الحكاية، وهي مسؤوليتنا نحن، حكوماتٍ ونخباً سياسية وفكرية وأحزاباً، في كل ما أصبنا به من نكبات، ونتوقف عند ظاهرة الحاكم العربي وتبعيته للقوى الخارجية.

ظاهرة الحاكم العربي:
لقد جاء الحاكم العربي إلى سدة الحكم، إما وريثاً للحكم، بحكم المولد، أو على ظهر دبابة (إنقلاب عسكري، سمي ثورة)، أو على ظهر ثورة، أمكن اختراقها وحرفها عن مسارها وإبعادها عن أهدافها. هل مجيئ الحاكم العربي على هذا النحو وليد صدفة سعيدة، توافقت تلقائياً مع مصالح القوى الخارجية، أم أنه أمر مدبر ومخطط له، من قبل تلك القوى. لأترك الإجابة عن هذا السؤال، وليستمر الجدل، بين القائلين بوجود المؤامرة في تاريخنا المعاصر، وبين المنكرين لوجودها، علهم يتفقون على إجابة مقنعة لهم جميعاً. ولأنتقل إلى سؤال آخر، وهو: ماسر تبعية الحاكم العربي للقوى الخارجية وإخلاصه لها وتفانيه في خدمتها؟ فقد تساعد الإجابة عنه هؤلاء وأولئك في الإجابة عن السؤال الأول.
يستطيع الباحثون الجادون أن يجيبوا عن هذا السؤال، من واقع المعلومات المطوية والوثائق المودعة في أرشيفات الدول الغربية المختلفة. وقد أشارت وثائق ويكليس إلى طرف منها. ولاشك أن ما خفي هو أعظم بكثير مما ظهر. وما يهمنا هنا هو لفت النظر إلى الدور الذي يقوم به الحاكم العربي، والذي يتنافى جزئياً أو كلياً مع مصالح بلده وشعبه. وسألخص هذا الدور في عناوين دالة، تجنباً للإطالة:
الإستبداد، الذي يكبح أي إمكانية لتفتح الطاقات الحرة المبدعة لدى أبناء الشعب.
إفساد أجهزة الدولة إفساداً منظماً، يجرف أمامه الإدارة السوية والكفاءات النزيهة.
تحويل الثروات الوطنية إلى ثروات خاصة، تصب في جيوب الفاسدين الممسكين بزمام السلطة وفي جيوب المتنفذين المنتفعين من فسادها، وحرمان الوطن من هذه الثروات، الكفيلة، إن هي وظفت توظيفاً رشيداً، أن تنقل الشعب إلى مستوى من الحياة، غير المستوى الذي هو فيه.
إستقطاب ضعفاء النفوس والمتهافتين ودفعهم إلى المواقع القيادية في أجهزة الدولة وتهميش واستبعاد وملاحقة العناصر النزيهة الكفؤة، كوسيلة من وسائل تدمير بنية الجهاز الإداري وضمان عجزه عن أداء وظائفه.
تدمير المؤسسات التعليمية، بتصعيد العناصر الهشة إلى قياداتها والتدخل الفج في عملها، وفي تعيين كوادرها وفي تنسيب طلابها، ووضعها تحت وصاية الأجهزة الأمنية.
تدمير الإقتصاد الوطني، بتدمير شروط بنائه وتشجيع اقتصاد السوق المنفلت والإعتماد على الإستيراد، بدلاً من بناء قاعدة إقتصادية إنتاجية متينة، تمكن من تحقيق الإستقلال الإقتصادي للبلاد، كشرط لاستقلال قرارها السياسي.
تنفيذ أوامر البنك الدولي، الذي تتحكم فيه دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. وهي أوامر هدفها المعلن تقليص الإنفاق الحكومي. ولكنها تنطوي عملياً على مزيد من الإفقار لعامة الشعب وخلق توترات إجتماعية تهيئ لانفجار الأوضاع في أي وقت تقرر فيه القوى الخارجة تفجيرها، باستخدام أتباعها المحليين. وأبرز هذه الأوامر رفع الدعم الحكومي عن المواد، التي تشكل قوت الشعب اليومي الضروري، أو المواد التي تشكل مواد حاكمة، كمادتي الديزل والبنزين ومشتقاتهما، والتي يؤدي رفع الدعم الحكومي عنها إلى رفع أسعار جميع المواد في السوق. مع غض الطرف عن الإنفاق العبثي في دوائر الدولة إن لم يكن تشجيعه (على سبيل المثال لا الحصر: سيارات فارهة باهضة الأثمان، لاتُشترى للخدمة العامة، بل تُمنح ملكاً شخصياً لكل وافد جديد إلى المواقع القيادية في أجهزة الدولة ـ تأثيث جديد للمكاتب الرسمية، فخم ومكلف، يليق بالوافد الجديد ـ بدلات سفر، لاتتناسب مع إمكانيات بلد فقير، يتسول المعونات والقروض في أنحاء الأرض ـ مصروفات عبثية لاحدود لها ـ مخصصات وهبات عالية لامسوغ لها، تصرف للوجهاء والمتنفذين، بأريحية وكرم منقطع النظير، على حساب الفقراء والمعوزين، الذين يشكل تجويعهم، كما يبدو، واحداً من أهداف البنك الدولي ونصائحة البريئة وأوامره الملزمة).
التضليل الإعلامي وتشويه الثقافة واستغفال الشعب، بما تضخه وسائل الإعلام الرسمية من أخبار عن نجاحات وإنجازات وإنتصارات وهمية كاذبة، وإخفاء وقائع الهزائم والفشل والعجز والتواطؤ مع الخارج.
تدمير القيم السوية، بالترويج لقيم ضارة. وأبرز مظاهر الترويج: إعتبار نهب المال العام سلوكاً طبيعياً، بل سلوكاً ذكياً (شطارة) ـ التسامح مع مظاهر الفساد المالي والإداري، الذي يمارس في أجهزة الدولة، دون مواربة، إذا لم نقل التشجيع عليه، من رشوة واختلاس وتزوير وإهمال ومحسوبية و...إلخ ـ تشجيع الكسب المجاني، أو السهل، الذي لايقابله عمل موازي له، أي عدم ربط الكسب بالعمل المنتج ـ تضخيم الرموز الفاسدة وإحاطتها بهالة من التقدير والإهتمام وتعزيز نفوذها وتسليط الأضواء الإعلامية عليها، لتترسخ في أذهان الناس كقيمة وكمقياس للنجاح. إلى غير ذلك من المظاهر، التي تسوِّق للقيم غير السوية، الضارة بحياة المجتمع، حاضراً ومستقبلاً.
هذا الدور الذي يؤديه الحاكم العربي، في مسرح الحياة العربية، بل في مسرح العرايس، هو دور يخدم القوى الخارجية ولايخدم الشعب والوطن. أفبعد هذا يمكن القول، إن الحكام العرب لم توصلهم إلى سدة الحكم يد غريبة، بل أوصلتهم قدراتهم وكفاءاتهم الخاصة، ويتحركون بقواهم الذاتية ويفكرون بعقولهم ويحكمون وفق رؤاهم الوطنية؟.
ولأن التغيُّر سنة الكون، بمافيه عالم الإنسان، فإن موقف الأسياد يتغير، ما أن يشعروا بأن الحاكم، الذي يتفانى في خدمتهم، قد غدا ورقة محروقة، ضرره أكثر من نفعه، وبأن مساوئه قد غدت مكشوفة، إلى درجة لم تعد تجدي عندها محاولة تمويهها أو إخفائها، وأن حجم الكراهية الشعبية له قد تعاظم، إلى حد ينذر بالإنفجار، الذي قد يؤدي إلى تغييرغير محسوب. هنا يتم اتخاذ القرار بتغيير الحاكم، القرار المحسوب والمسيطر عليه، والمفيد في الوقت نفسه، ليذهب الوجه القديم المحروق، ويؤتى بوجه جديد، مازال فيه رونق وفي طلعته إغراء. ويجئ الحاكم الجديد، إما على ظهر دبابة أو على ظهر ثورة، أو باغتيال سلفه أو بتنحيته سلمياً، وفقاً لمعطيات الواقع ومقتضيات الحال، لتدور العجلة من جديد. ألا يلخص هذا مشهداً تكرر في الوطن العربي مراراً. حاكم يُطوى وحاكم يُنصب، ليواصل سيرة سلفه الصالح، في خدمة من جاء به ومن تكفل بحمايته؟

اليمن إلى أين؟:
ماعلاقة هذا كله بسؤالنا المحوري: اليمن إلى أين؟. أظن أن الأمر واضح وضوحاً كافياً. فمالم نضع العوامل الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، الفاعلة في اليمن وعلى المستويين الإقليمي والعالمي، بعين الإعتبار، لن نستطيع أن نفهم مايعتمل في الواقع اليوم ولا أن نبصر مايلوح في الأفق من تدابير وترتيبات للمستقبل. لقد تساقط حكام في الوطن العربي في السنوات الأخيرة وجيئ بوجوه جديدة، بفعل ثورات شبابية شعبية، إما خُطط لها مسبقاً، أو انفجرت عفوياً، ثم احتويت وطوعت وسُخرت لإيصال حكام جدد إلى سدة الحكم، لتعيد السيرة الأولى، وتبقى الأوضاع في جوهرها على ماهي عليه.
هل يعني هذا أن الخارج متوغل في شؤوننا وأنامله تنسج الصورة الجديدة لمستقبل اليمن؟ لعل هذا هو مايحدث فعلاً. ولنتمعن ببعض معالم الصورة، التي بدأت ملامحها تظهر، شيئاً فشيئاً: ثورة شعبية في طليعتها الشباب، بأحلامهم وطهرهم، أمكن اختراقها بسهولة ويسر، من الداخل ومن الخارج. ولعل سهولة الإختراق قد نجمت عن عفوية الثورة وانطلاقها قبل أن يكون لها تنظيم متماسك وتخطيط حصيف وقيادة موحدة وبرنامج واضح، للتغيير القادم ولإدارة الدولة بعد التغيير. ولا شك أن صعوبات الواقع وتعقيداته قد أسهمت، إسهاماً كبيراً، في تسهيل عملية اختراق الثورة واحتوائها وتطويعها وحرفها عن مسارها، وبتعبير مكثف، أسهمت في (إختطافها)، بحسب وصف البعض لهذه الحالة. فاكتفت الثورة بإسقاط رأس النظام، مع القبول باستمرار النظام الحاكم نفسه، بنهجه وممارساته وبمعظم شخوصه. وأخذت الأمور تنحو منحيات خطرة، تبعث على القلق والتوجس والخوف مما هو قادم.
إن أخشى مانخشاه أن تكون تمنيات الثوار وأحلامهم قد استبدلت ببرنامج سبق تجهيزه، متسق مع الخط العام للقوى الخارجية، وهو خط التفتيت، الهادف إلى رسم خارطة شرق أوسط جديد، تحقق تمزيق الكيانات الحالية إلى كيانات أصغر، ذات محتوى طائفي، عرقي، مناطقي، يرتبط كل كيان منها بقوة خارجية تسنده وتحميه. من هنا تنشأ المخاوف من فكرة الأقاليم المتعددة في اليمن، ضمن صيغة دولة إتحادية، كما طُرحت وشُرحت رسمياً. إذ سيشكل كل إقليم كياناً أشبه بدولة مستقلة، ماعدا الشؤون الخارجة والجيش، كما صرح الأخ رئيس الجمهورية مراراً. رغم أن هذا التصريح يتعارض مع تصريح آخر، يوحي بالإطمئنان، وهو أن التقسيم إلى أقاليم ليس تقسيماً سياسياً بل هو تقسيم إداري. ولكننا لاندري أي التصريحين يعبر عما يرسمه الخارج لليمن ولليمنيين. لأنهما تصريحان لايمكن، في ظل الحالة الإقليمية والدولية الراهنة وضعف الدولة اليمنية، لايمكن الأخذ بهما معاً، فكل منهما يمكن أن ينقض الآخر.
إن الدولة الإتحادية تؤسَّس من إتحاد دول قائمة، تقبل بأن تذوب شخصياتها الدولية بشخصية الدولة الإتحادية، مع احتفاظها بكل أجهزتها المحلية. هنا يبدو الوضع طبيعياً. فبدلاً من دول متعددة ينشأ إتحاد بين هذه الدول، مع بقاء شخصياتها الداخلية قائمة. أي تحتفظ الدولة المنخرطة في الإتحاد بكل أجهزتها وصلاحياتها في إدارة أمورها الداخلية. وهذا يشكل نقلة كبيرة، من دول مستقلة، ذوات شخصيات دولية متعددة، إلى دولة واحدة، ذات شخصية دولية واحدة وجيش واحد وحكومة إتحادية تتولي الجوانب السيادية، أي تتولى كل ماهو عام، لايخص إقليماً بذاته، كالخارجية والدفاع والثروة الوطنية ورسم السياسات العامة للدولة ككل، في مجالات الإقتصاد والتعليم والثقافة...إلخ. هنا يكون البناء على أساس موجود أصلاً. أما أن نمزق دولة قائمة موحدة إلى كيانات مصطنعة، دون أساس سابق ودون مسوغات عقلية. فإننا إما نتصرف عن جهل بالكيفية التي تكونت بها الدول الإتحادية في العالم، أو أننا نهيئ، بوعي أو بدون وعي لإنشاء عدة دول يمنية، في مستقبل ليس ببعيد، لتحل محل الدولة اليمنية الواحدة، تتزاحم وتتصارع فيما بينها، على رقعة صغيرة من الأرض. فما الحكمة في هذا، وأي عقل عبقري تفتق عن هذا الخيار العجيب؟.
إذا كان الهدف المعلن للتقسيم الجديد هو إضعاف سلطة المركز الفاسد المستبد، بإعطاء أبناء المناطق صلاحية إدارة شؤونهم المحلية بأنفسهم، فالإدارة المحلية كاملة الصلاحيات، في كل ماهو شأن محلي، تحقق هذا الهدف. ففيها يتم انتخاب مجلس محلي، إنتخاباً حراً مباشراً، من قبل سكان المحافظة. وينتخب المجلس من بين أعضائه محافظاً للمحافظة. ويكلف المجلس من بين أعضائه مدراء يديرون مختلف المرافق المحلية، الإقتصادية والتعليمية والأمنية...إلخ، إدارة كاملة الصلاحيات، لاتخضع في هذه الشؤون المحلية لهيمنة المركز أو تدخلاته. هذه صيغة بدأنا الحديث عنها في الصحف المحلية عام 1993م (أنظر كتابنا الإحتمالات والبدائل)، وكررناه عام 2009م (أنظر كتابنا الرهان الثالث)، ولم يلتفت إليها أحد. ولم يتعب أحد نفسه في مؤتمر الحوار أو في خارجه، للوقوف عندها والتمعن فيها والنقاش حولها. لأن فكرة الدولة الإتحادية، من عدة أقاليم، قد طغت على كل تفكير.
لقد أوضحنا هذه المسألة في الرسالة المفتوحة، التي وجهناها للأخ رئيس الجمهورية وللإخوة رئيس وأعضاء لجنة صياغة الدستور، ونشرت في صحيفة (الشارع)، بتاريخ 30 مارس 2014م، وفي عدد من المواقع الإلكترونية، ورجوناهم فيها، إذا مافُرضت صيغة الأقاليم علينا، وهو مالانتمنى حدوثه، رجوناهم فيها عدم استخدام مصطلحات (مجالس وزراء ووزراء ورؤساء وزارات وبرلمانات)، عند إعداد الدستور ورسم الشكل الإداري للأقاليم، وأن يُكتفى، ولو مرحلياً، بمجلس إدارة منتخب لكل إقليم، ينتخب من بين أعضائه حاكماً للإقليم ومدراء لكل مرفق من المرافق العامة (الإقتصاد، التعليم، المواصلات...إلخ)، ليتطابق هذا مع تصريح الأخ رئيس الجمهورية، بأن التقسيمات هي تقسيمات إدارية وليست تقسيمات سياسية. ونضيف هنا، أن من الأسلم، إذا كان لابد من استحداث الأقاليم، بقاء المحافظات ضمن حدودها الإدارية الحالية، حتى وهي جزء من الإقليم. فاليمن ليس بحاجة إلى مزيد من التغييرات المربكة، في تقسيماته وأوضاعه الإدارية، فهو مربك بما فيه الكفاية، في كل جوانب حياته، دون استثناء، فلانزيده إرباكاً بالتقسيمات والتفريعات والتسميات والإجتهادات، التي يضعها أناس مرتاحون، كما يبدو، على مكاتبهم، غير مدركين، بأن كل تقسيم جديد، بل كل إسم جديد، يعني مزيداً من الإرباك والمعاناة لمواطني هذا البلد الطيبين، وربما مزيداً من الفوضى والإصطراع.
لقد صدرت فكرة الدولة الإتحادية عن رغبة الأطراف السياسية في حل مشكلة الجنوب. في هذه الحدود، أي في حدود حل المشكلة الجنوبية، يمكن التسليم بفكرة الأقلمة، مادام من بيدهم القرار لايستسيغون فكرة (الإدارة المحلية كاملة الصلاحيات، في كل ماهو شأن محلي). ولكن هذا الحل، أي الأقلمة، لايتطلب الذهاب بعيداً إلى مستقبل مجهول، مادامت المشكلة معروفة ومحصورة بالمشكلة الجنوبية، بل يمكن تحقيقه بإقامة دولة إتحادية من إقليمين، إقليم شمالي وإقليم جنوبي. هنا نبني الدولة الإتحادية على أسس غير مصطنعة أو مختلقة، على أسس يمكن تسويغها، رغم التغيُّرات التي طرأت على أوضاع الجنوب، منذ بداية الوحدة وحتى الآن. فالجنوب كان إلى زمن قريب دولة يمنية كاملة السيادة، إتحدت مع دولة يمنية أخرى كاملة السيادة، ومايزال بالأمكان البناء على هذا الأساس، أي على أساس كيانين سياسيين كانا قائمين إلى عهد قريب. فنحافظ على وحدة اليمن ونحل المشكلة الجنوبية، في آن معاً. أما أن نهرب من مواجهة هذه المشكلة المحورية، ونلجأ إلى حلول غريبة، فنقسم الجسد الواحد، تقسيماً مصطنعاً وننشئ دولاً مصغرة عديدة، ليس لها أي أساس يمكن البناء عليه، فإن هذا لايدل إلا على قصر نظر أو على سيناريوهات قادمة، تشكل هذه التقسيمات نذرها المقلقة. إن نوع المرض هو الذي يحدد نوع العلاج. ولايصح أن نشق بطن المريض لنعالج جرحاً في رأسه. ومن الغريب أن هذا الهروب إلى الأقاليم المتعددة يبرَّر بالخوف من إنفصال الجنوب، إذا ما غدا إقليماً ضمن الدولة الإتحادية، المكونة من إقليمين. أفلا يفتر ض أن يكون هؤلاء الخائفون من احتمال إنفصال الجنوب أكثر خوفاً، إزاء احتمال إنفصال الأقاليم الستة، لاسيما تلك الأقاليم الغنية بالثروات النفطية؟. وهو أمر لايمكن استبعاده، بوجود حكومات أقاليم ست، وفي ظل حكومة المركز (الحكومة الإتحادية) الضعيفة بطبيعتها وتكوينها، وبحكم البيئة الإجتماعية، التي تحيط بها. وقد علَّمنا التاريخ أن ضعف حكومة المركز، يؤدي حتماً إلى انفصال الأقاليم. حدث هذا في تاريخ كل الدول، التي عرفتها البشرية، بما في ذلك الدولة الإسلامية.
إن صيغة (الإدارة المحلية كاملة الصلاحيات، في كل ماهو شأن محلي)، هي الخيار الأفضل لليمنيين. فهي كفيلة بحل المشكلات الناجمة عن المركزية الفاسدة العقيمة، كما هي كفيلة بتقديم الحل الأمثل للقضية الجنوبية، في إطار الوحدة، إذا قُدِّر للوحدة اليمنية أن تبقى، ولم يدمرها أبناؤها بأيديهم، لغير مصلحتهم. ويأتي بعد هذا الخيار، من حيث الأفضلية، إذا كان المزاج العام قد اتجه نحو صيغة الدولة الإتحادية والأقلمة، وأضحى الأمر محسوماً من قبل القوى الخارجية والداخلية المؤثرة، يأتي من حيث الأفضلية في هذه الحالة، خيار الإقليمين. فالطريق المؤدي إليه طريق معروف، واضح وسهل، وذكراه ماتزال حية في الأذهان، ويمكن السير فيه بأقل الكلف والمضاعفات. أما الطريق الثالث (طريق الستة أقاليم) فهو، بصورته المعلنة، طريق مجهول، وعر ومليئ بالألغام والأفخاخ. إن الإجابة عن السؤال المطروح (اليمن إلى أين؟) تتوقف على أي طريق من هذه الطرق الثلاثة، سيختاره اليمنيون.

[1] إنتهى التمايز، الذي كان قائماً بين القوى السياسية الحاكمة والقوى السياسية المعارضة، وتحولت جميعها إلى قوى حاكمة - معارضة في نفس الوقت.
شبكة البصرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق