قال سبحانه وتعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

السبت، 19 مارس 2016

اسماعيل أبو البندورة : جورج طرابيشي: أسئلة التنوير الكبرى!

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جورج طرابيشي: أسئلة التنوير الكبرى!
شبكة البصرة
اسماعيل أبو البندورة
من من أبناء جيلنا العربي لم يتتلمذ على دراسات وقراءات وترجمات جورج طرابيشي الهامة التي أسهمت في تشكيل الوعي العربي المعاصر؟ ومن منا لم تستهويه تلك الاشكاليات الفكرية وذلك النقد الجريء وأسئلة النقد الكبرى التي طرحها وأقام عليها بناءاته المعرفية العقلانية والمتمردة أحيانا ً في مجال الفكر العربي والدراسات التحليلنفسية والتراثية وما استشكله في نقد النقد الذي عكف عليه في أعوامه الأخيرة؟
كان جورج طرابيشي مدرسة فكرية متكاملة وشامخة ذلك أنه انشغل بموضوعات وأطروحات متعددة وتناول مجمل الظاهرات الفكرية العربية منذ الخمسينيات وحتى أيامه الأخيرة بالتحليل والنقد والمراجعة والمدارسة، إضافة إلى أن ترجماته كانت خيارا موازيا ومكملا لدراساته، أو كانت فضاءا ومساحة أراد أن يدل عليها دعاة التنوير والعقلانية في الوطن العربي لتكون حقلا للتجديد والتغيير والتثوير.
وكانت خياراته السياسية المتتابعة والمناهضة للامتثالية والمنوالية والجمود العقائدي تتوازى وتتقاطع مع خياراته الثقافية ولا تعطلها أو تزرع فيها تناقضا وإشكالا إلى أن غادرها وغادر انسدادها وتخلى عنها وانقطع إلى ما هو ثقافي خالص، ذلك أنه درج على أن يبقى ناقدا ونقديا في كل مجال اشتغل فيه وانحاز إليه وسواء وهو يفكر قوميا أو ماركسيا أو وجوديا أو تحليلنفسياً، وكان لديه دائما ما هو ثابت ومتحول في سياقات فكره أخرجه من بلاء التناقض أو الارتحال المستخف بين الأحزاب والتيارات والأفكار، وكانت انتقالاته ذات دلالات مؤثرة ووقع فكري عميق لأنه كان في حالة حوار نقدي دائمة مع فكره وخياراته السياسية والثقافية.
ولأنه كان دائما ممن يتخيرون ربط الفكر بالممارسة بحساسية عقلية ونقدية عالية فقد أبقاه ذلك في دائرة المبادرة والاشتغال مطلقا ومشتقا للأفكار التجديدية على الصعيد الفكري العربي، وكان دائما يجمع من حوله من يرى فيهم القدرة على التنوير والاستنارة والتغيير فيشكل معهم حوزات ومنتديات ثقافية مختلفة ومتعددة المهام وتطرح على ذاتها أفكارا اختراقية لحاضر وواقع عربي منهدم ومستباح ظلاميا وتأخراكيا فتتحول المطارحات إلى أفكار وكتب وندوات ومؤسسات تحرك الراكد وتقتحم قلاع الجهل وفكر الظلام.
عندما اندلع ذلك الخلاف الفكري – النصي - التحليلي بين طرابيشي ومحمد عابد الجابري توقع الناس أن يتحول الخلاف إلى سجالات ومطارحات تسطيحية وثأرية يستعرض فيها كل منهما عضلاته الفكرية وقدراته السجالية وتستعاد فية الاشكاليات والاختلافات الزائفة العتيقة، لكن طرابيشي أبى إلا أن يجعلها فرصة لقراءات وتأملات وحفريات في التراث في الرد على أطروحات الجابري، فأنتج على هذا الصعيد وفي مدة تنيف على العشرين عاما، مجلدات تجلى فيها الفكر العميق المتعالي والبحث الدقيق والمراجعات المعتمدة على مرجعيات العقل والمنطق، ولو أن الجابري ردّ على أطروحات طرابيشي هذه لكنا أمام حقل واسع من القراءة والنقد والمراجعة التراثية الخصبة والمخصبة والمكثفة، ولكن الجابري " رحمه الله " تجاهلها الى حد كبير حتى عندما كان يطرح عليه السؤال حولها، وكان يرد على الاسئلة بأجوبة من طراز غريب قائلا "أنها بضاعة يعرضها ولكل متطلع اليها الحق في إبداء النظر حولها"، وعندما كان يقال له (أن لا دخان من دون نار.. فيرد بأن في المغرب مقذوفات خشبية من البحر تنتج دخانا من دون نار هكذا!)
وترك الأمر لأصحاب الرأي وأولي الألباب الذين قرؤوا مؤلفات وأطروحات الجابري وطرابيشي مع أنهم لم ينتجوا كتابات بمستوى أطروحاتها كما أنهم لم ينشغلوا إلى حد كبير بإشكالياتها، وبقي الحكم عليها (بعد رحيلهما الآن) ملكا مشرعاً للدارسين الجدد الذين يمكن أن يحذوا حذوها في الحفر والبحث العميق وإنتاج نصوص توازيها أو تخرجها من التباساتها "أو محنتها المعرفية" إذا صح لنا قول ذلك والله أعلم.
بغياب المفكر العربي جورج طرابيشي نفتقد فكرا عربيا عقلانيا تنويريا ومشروعا لم تكتمل مهماته واسئلته، ولكنه يبقي لنا منارة فكرية ودرسا في النقد ونموذجا إرشاديا يسعفنا في محنتنا العربية الراهنة لتلمس طريق الانفراج والتجاوز.
وإذا استطاع مشروع طرابيشي أن يجعلنا نلاحق أسئلته ونتابعها على طريقته المعرفية المثابرة والدؤوبة والأمينة فإننا نرد اليه الأنفاس ونبقيه حاضرا في كل أوقاتنا.
لقد صمت طرابيشي قليلا قبل وفاته وهو مما لم يتعوده الناس منه، ولكنه قبل لحظات من وفاته (كما قيل) سأل كعادته سؤالا إشكالياً مدببا ومؤرقا وجارحا: لوين رايح بلدنا؟
شبكة البصرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق