مقدمة ومدخل: قبل مدة كتبت مقالا بينت فيه حجم العدوان الأمريكي، بكل أبعاده على العراق. وفي حينه لم اشأ ان اكرر ما قاله وكتبه كثيرون، لكنني حاولت ان الخص العدوان على العراق، والذي كان عدوانا شاملا، اجتث الدولة العراقية من اسسها الانسانية والسياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية، وحرمها من اعز ما تملك: السيادة والكرامة والهوية، وحق التصرف بثرواتها، في استباحة لم يحصل لها مثيل، حتى ولا على يدي هولاكو والتتار، ولا على يدي النازية في الغرب.
عرض جريمة الاحتلال: وفي معرض تلخيصي للعدوان جعلت القارئ يتخيل بأن جريمة امريكية، حصلت في كل متر مربع من ارض العراق، خلال تسع سنوات عجاف، سواء كانت هذه الجريمة جريمة قتل ام جريمة اذية جسدية ام اذية روحية ونفسية، وسواء حصلت هذه الجريمة على يد المحتلين مباشرة، ام حصلت الجريمة مشتركة بينهم وبين الميليشيات المتعددة المنتسبة الى احدى مكونات ما سمي بالطيف العراقي، ام حصلت الجريمة على ايدي الحكومات المتعاقبة التي نصبها المحتل بقوة الدبابة والمدفع والطائرات العدوانية، وآخرها الحكومة الحالية التي وضعها المحتلون خصيصا لقتل وإبادة ما كان قد تبقى من المعارضين للاحتلال، وفق منهج مبرمج كان ولا زال قد نال رضا المحتل الأساسي وتأييده، لا بل كان برنامج الابادة هذا مطلوبا بشكل معلن، من اية حكومة تريد ان تحظى بكرسي الرئاسة، من خلال أمر يقول: على هذه الحكومة ان تكون قادرة على مكافحة الارهاب، اي قتل وإبادة وتشريد كل من لا يؤيد الاحتلال والعملية السياسية الاجرامية، من حاملي هوية العروبة والإسلام. علما بان هناك جريمة خاصة لا يمكن للإنسان العراقي ان ينساها وهي جريمة ترك العراق بدون خدمات انسانية اساسية، بشكل متعمد، هذه الجريمة التي فاقت حتى جريمة الاغتصاب والتعذيب الوحشي في سجون المحتلين، لان هذه الجريمة، من دون الجرائم الأخرى شملت كل الشعب العراقي وطالت الانسان وحقوقه في العراق.
اسباب عرض الجريمة: في حينه لم اشأ ان انسب الى نفسي الريادة في كل ما قلت عن جريمة المحتلين، باستثناء اني ركزت تركيزا خاصا على المحتل الأمريكي دون غيره، ليس تبرئة لغيره من المعتدين من الخارج والداخل، ولكن فقط من اجل التركيز على المسئول الأول عن الاستباحة غير الاخلاقية وغير الشرعية التي طالت العراق، ولكي اظهر همجية المحتلين ولا انسانيتهم وبربريتهم، وأنسف من الأساس ادعاءاتهم الكاذبة بتحرير العراق وإعطائه الديمقراطية، وذلك لأن المحتلين لا يحق لهم ان يفرضوا على غيرهم شيئا بقوة السلاح، ولا ان يحجبوا حق السيادة عن أحد، ولا ينهبوا اموال وخيرات العراق باسم احد، ولا ان يتنصلوا من تبعات جرائمهم ولصوصيتهم بسماح وتنازل من أحد، ولاسيما اذا كان عميلا ومشاركا فيما يسمى العملية السياسية التعسفية، ولا ان يسلموا حق ادارة العراق لمن يشاءون، لأن مبادئ اساسية انسانية تقول: فاقد الشيء لا يعطيه.
في المقال الحالي: اما في هذا المقال: ميكيافلية ما بعدها ميكيافلية، فاني لن اتكلم كثيرا عن المعتدين الأمريكان، لأن المعتدين الأمريكان اناس اشرار، زاد من شرهم انهم مدججون بالسلاح حتى اسنانهم، كما يقول المثل الفرنسي، وحائزون على اشكال القوة: من قوة اقتصادية وسياسية ودولية، فضلا عن قوتهم العسكرية، كما ان هؤلاء الأشرار غرباء عن العراق، ولا يهمهم امر شعبه كثيرا او قليلا، ولذلك يمكننا ان نكرههم وأن نغضب عليهم، وأحيانا ان نخشاهم ونتحسب منهم، او نحاول ان نقاومهم، لكننا في نهاية الأمر نفهم ان الأشرار لا يستطيعون ان يتصرفوا إلا كالأشرار، وخاصة مع الشعوب الغريبة والضعيفة، حيث ينقلب الشر والعدوان الى نذالة وخسة وجبن وضعف في الروح الفروسية الانسانية، وحيث يتحول هذا الانسان الى ذئب مفترس، ويجعل من عالمه غابة يأكل القوي فيها الضعيف دون تساؤلات انسانية كثيرة.
عتبي اذن على العراقيين: اما هذا العتب فهو عتب عراقي يملأ الحنجرة غصة وألما، ويشيع في النفس حزنا وكآبة، ليس فقط بسبب من وقعت الجناية عليهم، ولكن بسبب الجناة ايضا. فأبناء الشعب العراقي، وعلى الرغم من لهجة القسوة التي نستخدمها ضد هذه الجماعة او تلك منهم، هم اخوة لنا جميعهم، بغض النظر عن دينهم او مذهبهم او قوميتهم. اننا نحبهم جميعا بمعنى اننا نريد الخير " المشروع " لجميعهم. وبما اننا نحبهم جميعا فلا عجب ان نتألم بسبب اخطائهم، ومن جراء جرائم بعضهم، ولاسيما اذا كانت هذه الأخطاء والجرائم بالضد من بلدهم، وبالتالي ضد إخوتهم في الوطن.
موقف خاطئ غير مفهوم: لذلك نقول هنا: اذا كنا نفهم ان يتصرف الأمريكي الشرير والغريب، التصرف الذي رأيناه مع العراق، فلا يمكن ان نفهم او نبرر ما بدر من العراقيين تجاه وطنهم وتجاه اخوتهم العراقيين، من اعمال يرقى كثير منها، ليس الى مستوى جريمة الاحتلال غير المشروع فقط، وانما يرقى الى جريمة الخيانة الوطنية، لا بل يرقى الى جريمة ضد الانسان والإنسانية، مهما تذرع بعض العراقيين بذرائع المظلمات الحقيقية ام الكاذبة، ومهما قدم من حجج مبنية على انصاف الحقائق. فنحن، في الواقع، نعرف جيدا ان غالبية من يدعي انه تعرض للظلم، كان هو البادئ بهذا الظلم، وأنه اليوم يظلم اكثر بكثير ممـا ظُلِم، لاسيما وأن ظلم الاحتلال والمحتلين وما نتج عنه من خراب وتدمير وإبادة، قد عم الشعب العراقي البريء كله.
من يصدق اكاذيب المعتدين: وعليه لم يعد احد يصدق دعاة المظلمات، لأن ما قام به هؤلاء الدعاة ضد وطنهم وأهلهم وإخوتهم في العراق، يتجاوز حدود اية عدالة، سواء كانت عدالة تعود الى الثوابت الانسانية والتي هي ثوابت الهية في الوقت عينه، ام كانت عدالة دولية وضعية، ناهيك عن فقدان فضيلة المحبة وروح السلام في ما حصل، وان في حدودها الدنيا، في حين اننا لم نجد فيما حصل غير الاعتماد على القوة الغاشمة، في حدودها القصوى، مع كم لا يصدق من الحقد والضغينة وروح الانتقام، مما ارضى المحتلين ارضاء تاما.
جريمة الاستعانة بطغاة العالم: مما زاد في الطين بللا، هو أن القوة التي استخدمها العراقيون ضد اخوتهم وبلدهم، لم تكن قوة ذاتية، لكنها كانت قوة مستعارة بشروط مجحفة وغير اخلاقية تنص على السماح للمحتل الأصلي بتدمير العراق تدميرا كاملا بالشكل الذي حصل منذ تسع سنوات والى حد هذا اليوم، وأن يبقى هذا العراق تحت الاحتلال العملي والهيمنة الأمريكية الى ما شاء المحتل، وعلى ان ينال المحتلون ثلاثة ارباع نفط العراق وخيراته الأخرى.
حزن رباعي الأبعاد: ومن هنا كان حزننا على العراقيين حزنا رباعي الأبعاد. فقد حزنا لأن عراقيين اعتدوا بوحشية على عراقهم وأهلهم في العراق، مما سبب لهم كل ما ذكرناه في بداية المقال من ويلات. وحزنا لأن عمل الاحتلال خرب نفوس جميع العراقيين ودمر اخلاقهم، سواء كانوا من العراقيين المعتدين ام من العراقيين المعتدى عليهم. وحزنا ايضا لأن المعتدين اصابهم ما اصاب المعتدى عليهم من جور وألم كبيرين، كما اصابهم الفشل في تحقيق ما كانوا يبغون من اعتدائهم، حيث خرج الكل خاسرا، بمن فيهم المعتدون الأصليون انفسهم: الأمريكان الأشرار، الذين لم يدمروا العراق وحده، وانما دمروا عالمنا الانساني الجميل وجعلوه عالما اقرب الى عالم وحوش الغاب، من عالم البشر، فضلا عن التدمير المادي والسياسي والاجتماعي، ليس فقط للعراق ولأمريكا وحدها، ولكن للعالم اجمع بشكل عام، وللعالم الغربي بشكل خاص، كما هو معروف.
تجارة خاسرة ومشروع فاشل: هنا لا زلت اتكلم مع العراقيين وعنهم، وليس عن المحتلين الأمريكان، إلا بشكل غير مباشر، لأن المحتلين الأمريكان والبريطانيين وغيرهم، قد خسروا هم ايضا خسارة عظيمة، وعلى اصعدة كثيرة، كما سبق ان بينا اعلاه. وعليه نوجه كلامنا لكل العراقيين، ونوجهه خاصة للعراقيين الذين استقدموا المحتل لغزو العراق وتدميره، ونضع امامهم الكلام التالي، على شكل تأمل قد ينفعهم وينفع عراقهم، عندما يتمكن هذا الكلام من ان يدخل قلبهم وضميرهم ونفوسهم، ويوقظ فيها روح الانسانية، او بالأحرى يوقظ فيها آدميتها.
كلام لفحص الضمير: اما كلامنا الذي نقدمه على شكل تأمل، ينير الضمير ويرشد الانسان المواطن الى طريق الخير، سواء كان معتديا او معتدى عليه فيقول: عندما يؤسس انسان مشروعا شريفا ويريد ان يكون ناجحا، يجد له اختصاصيا يقدر له كلفة المشروع، كما يقدر له جدوى هذا المشروع. غير ان المعروف ان القرار الأخير يعود دائما الى صاحب المشروع في ان يقبل او يرفض تأسيس هذا المشروع، كما يقبل او يرفض حاشية المجازفة في المشروع. وهكذا فمن يقبل بنسبة معقولة من المجازفة قد نسميه شجاعا، او نسميه مغامرا. اما من يقبل تأسيس مشروع مع وجود احتمالية الفشل بنسبة كبيرة جدا، فقد يقال عنه انه متهور، او انه غبي، وأحيانا يمكن ان يقال عنه انه تصرف تصرُف المجانين. وفي الحقيقة ما حدث في العراق منذ تسع سنوات، كان مشروعا عدوانيا خبيثا لا يحق لأحد ان يقدم عليه. وعلى الرغم من ضعف مساهمة العراقيين في هذا المشروع، إلا اننا لا يسعنا سوى ان نقول بأن مشروع الاحتلال كان مشروع شراكة، وان كانت وهمية، بين المحتلين وبين من سموا بمكونات الطيف العراقي. غير اننا نجد بين المشاركين في الاحتلال، طيفا آخر باهتا لا يعرف غير الشكوى والنحيب والكذب، استطاع المحتلون ان يزجوه في المعركة، لعله يفيدهم بشيء، وذلك من باب ذر الرماد في العيون والضحك على الذقون، ولاسيما ذقون بعض رجال الدين المسيحيين، الذين لم يكـن لهم، ولا لأبناء كنائسهم، لا ناقة ولا جمل، في هذا الاحتلال، على اي وجه من الوجوه، لكي يقال ان المحتل اخذ بعين الاعتبار كل اطياف الشعب العراقي، مع ان نصف الشعب العراقي صار اما في المعتقلات والسجون وإما في عداد الأموات، وإما القي به، على الرغم منه خارج وطنه. فيا لجسامة وسماجة كذب الكذابين، في حين يعلم كل ذي عقل ان اي طيف من هذه الأطياف العراقية المذكورة، وأي مكون من هذه المكونات، لا يمكن ان يمثل غير شريحة بسيطة، ليس فقط من الشعب العراقي، ولكن حتى من ابناء مكونه، او طائفته، لأن اي مكون يحوي حتما اتجاهات سياسية متعددة، ولا يمكن لسياسيي ذلك المكون او ذلك الطيف، ان يمثل كل ابنائه تمثيلا سياسيا، اللهم! إلا في ظروف استثنائية، مثل ظروف الحرب القاسية التي مرت بنا، والتي لا تصلح ابدا لأية ديمقراطية ولا لأية تعددية سياسية.
موقف ميكيافلي مخز: وفي الواقع ان ما جرى في العراق، هو ان بعض ابنائه قبلوا ان يكونوا معاونين للمحتل في مشروع غزوه للعراق. وبما ان اي عاقل يعرف ماذا يعني الاحتلال، وعلى ماذا كان يحتوي مشروع الاحتلال، وماذا كانت مخاطر هذا الاحتلال على الوطن ودولته وشعبه، إلا ان سكان المنطقة الخضراء قرروا مع المحتل ان يكونوا متعاونين معه على تدمير هذا البلد وتفكيكه، وقتل اهله. أما سؤالنا الآن فيقول: ترى هل فكر العراقيون الذين تعاونوا مع المحتل، سواء قبل الغزو او بعده، بما هم مقدمون على عمله، كما يفعل صاحب اي مشروع مهم؟ نعتقد انهم كان لهم الوقت الكافي للتفكير بما سيقدمون عليه وبمخاطر ما سيفعلونه، بعد عدة اجتماعات عقدوها مع المحتل في اماكن متعددة. لذلك لا يمكن ان نقول عن اية جماعة سياسية انها كانت جماعة مغفلة او جاهلة او مجنونة، لأننا اذا الصقنا هذه الصفات بمن قبل الاحتلال ونتائجه وتعاون مع المحتلين، نكون قد برأنا ساحته مما فعل. وعليه لم يبق امامنا سوى ان نصف هؤلاء المتعاونين مع المحتل باسوا انواع الميكيافلية وأخطرها وأكثرها بشاعة، الأمر الذي لا يمكن ان يحدث إلا عند اناس لم يفقدوا وطنيتهم فقط، لكنهم فقدوا ضميرهم السليم وآدميتهم. اما بقية الصفات فنتورع عنها وندعها للقارئ الكريم.
النهاية: وأخيرا، احاول ان اسأل جميع الذين اشتركوا في تدمير العراق وشعبه، التدمير الذي بدأ الكل يعرفه، وجميع من يقرأ هذا المقال من العراقيين والعرب ونقول لهم: ألا تعتقدون جميعا ان المتعاونين مع المحتل باعوا وطنهم وقبلوا بتدميره وسلموا انسانه للقتل والمهانة والتشريد وقبلوا بأن يقوم المحتل بسلب ثلاثة ارباع ثرواتهم النفطية وثرواتهم الأخرى الكثيرة من اجل اهداف سياسية ومادية زائلة وغير مؤكدة اصلا؟ حقا لقد قاموا بذبح خروفهم، لكنهم لم يحصلوا منه غير جلده. اليست هذه ميكيافلية بائسة ما بعدها ميكيافلية؟ علما بأن مثل هذه الميكيافلية اقدمت عليها جماعات الربيع العربي وشربت كأسها حتى الثمالة، على الرغم من فجاجته ومرارته، مثلما شرب من كأسها العراقيون من قبلهم، ولا زالوا مصرين على السير في الطريق الصحراوي الذي اختاروه، بسبب كثرة ما فيه من سراب مضلل، دفع بهم الى الأعماق، فتاهوا في صحراء الضلالة هذه، ولم يعودوا يعرفون كيف يخرجون منها. القس لوسيان جميل تلكيف – محافظة نينوى 13-4- 2012 fr_luciendjamil@yahoo.com |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق