د. عماد الدين الجبوري
الفارسية تتقلص عرقياً وتمتد طائفياً
من مقومات الشعوب الحية في التاريخ البشري أن تمتلك أرضاً تدافع عنها ونفوساً تتكاثر فيها، وأن قيمها وعقائدها وأفكارها تتحكم في مستقبلية وجودها بالتواصل والإستمرار أو بالتقلص والإنقراض. وإذا ألقينا نظرة خاطفة في تاريخ الوجود الفارسي منذ قدومهم من آواسط آسيا بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وإستيطانهم في شمال غربي إيران، بجوار الدولة الآشورية في شمالي العراق، إلى أوج عظمتهم في القرن السادس الميلادي الذي دحرهم العرب المسلمين بفتوحاتهم التاريخية، وصولاً إلى زمننا الحالي؛ نجد ان تعداد الفُرس آخذ بالهبوط التدريجي المستمر. فالفرس (بحسب الإحصاء الرسمي) يشكلون 30% من مجموع السكان البالغ 70 مليون نسمة. وهذا يعني أن مجموع القوميات العربية والكردية والبلوشية والأذرية تشكل أكثرية تجاه الفُرس من ناحية. ومن ناحية أخرى، أن تلك القوميات، لاسيما العرب، لا تعاني الإنكماش الإحصائي.
وبحسب منطق التاريخ وحقائقه، فأن هكذا تقلص متواصل يؤدي إما إلى الإضمحلال والإنقراض، أو البقاء في ظل شعوب أخرى، كما جرى مع الشتات اليهودي.
ويبدو، إن لم يكن مؤكداً، أن العقلية الفارسية قد أدركت هذا الوضع الحتمي لها، لذا فضلت البقاء والإمتداد على نحو طائفي يخدم مصالحها ويحفظ إستمرارها. وأن قيام الدولة الصفوية (1501-1722) جاء على هذا النحو، حيث حولت بلاد فارس إلى دولة إيران، وذلك بمزج العنصر الفارسي بالمذهب الشيعي العربي (بعد تلويثه وتحريفه) لتصنع هوية إيرانية يتقدم فيها الفارسي على العربي.
وإذا كانت النزعة العنصرية هي من علامات الممات لمن يعتنقها، حيث التحجر والإنطواء؛ فأن الشعوبية الفارسية تحمل هذه النزعة السلبية التي تنصب وتتركز بشكل حاد على العرب خصوصاً والإسلام عموماً. ولهذا السبب نشأت داخل إيران حركة شعوبية في القرن الثالث الهجري، تدعو إلى إحياء الإمبراطوية الفارسية، وتعادي العرب. ومن جملة الأفكار التي تروجها هذه الحركة، إشاعة اليأس من الإسلام والعرب ودولتهم. وكان الشاعر الملحمي أبو القاسم الفردوسي (935-1020 م) أحد القادة الشعوبيين، ففي كتابه "الشاهنامة" قصائد يسب ويذم ويحط من شأن العرب وحضارتهم الإسلامية، ويمجد ويعظم تاريخ الفرس وحضارتهم المجوسية. وكان مدعوماً من الفضل بن أحمد الاسفرايني، وزير السلطان محمود الغزنوي، الذي وعده أن يعطيه وزن ما يكتبه ذهباً.
صحيح أن الحركة الشعوبية الفارسية لاقت مواجهة شديدة من العرب والمسلمين، إنتهت بالقضاء عليها. مما جعل الفردوسي نفسه يندم على ما كتبه، وأخذ يوجه السب والشتم للذين كلفوه بإنشاء الشاهنامة، ولم يسددوا له المال المطلوب منهم. إلا أن الدولة الصفوية ساهمت بتاجيج هذا النهج الشعوبي وفق طريقة طائفية مقيتة حولت فيها إيران إلى كيان يُحارب العرب والمسلمين، ويتوسع على حساب أراضيهم، من أجل إحياء الأمبراطورية الفارسية بنمط ديني جديد. وبما أن الإمبراطورية الفارسية هي عسكرية الطابع، لذا فأن إنهيارها لا يخلف في البلدان التي تسيطر عليها حضارة فارسية مؤثرة، بقدر ما يتمخض عنه تقلص بشري للعرق الفارسي. وهكذا تتراجع نسمة الفُرس بين الشعوب المحيطة بها رويداً رويدا.
ومع مطلع القرن العشرين بدأت القومية الحديثة في إيران، حيث نجحت الثورة الشبه السلمية بقيام أول برلمان دستوري عام 1906. ثم عمل شاه إيران رضا بهلوي (1878-1944) على تغيير أسماء المُدن إلى زمن الشرف الفارسي قبل الإسلام. وبالتعاون مع الأمبراطورية البريطانية تم إحتلال الأحواز عام 1925 لتكون السلة الغذائية والمورد المعدني لدولة الشاه الجديدة. وما أن تمكنت القومية الحديثة من قيام دولة قوية لها على حقوق الأحوازيين والبلوش والأكراد والأذريين، حتى جاءت طغمة الملالي للحكم عام 1979، لتبدأ حربها ضد العراق ما بين (1980-1988).
أن هذا النهج العسكري التوسعي غالباً ما ينعكس على ديمومة العرق الفارسي الآخذ بالتقلص كوجود بشري. فالعراق جزء من أمة عربية تعدادها يزيد عن 350 مليون نسمة، ووطنها يمتد بين قارتي آسيا وأفريقيا لأكثر من 14 مليون كم²، بينما الفُرس جزء من مكونات الخارطة السياسية الإيرانية القابلة للتغير بحسب المعطيات والمتغيرات. ومن خلال الماضي الفارسي القائم على الحروب والتوسع، وبالقدر الذي تتمدد فيه، فأنها تعود وتنكمش، وفي هذا المد والجزر التاريخي تكون إحصائية الوجود الفارسي سائر نحو الهبوط.
ولذلك ليس مستغرباً أن يتحول البعض إلى الفرسنة. فهذه سياسة مدروسة من قِبل العقلية الفارسية نفسها منذ العهد الصفوي. فقائد الثورة الدينية الخميني (1902-1989) هندي الأصل. وأن خليفته علي خامنئي (1939-) أذري الأصل، وهكذا الأمر مع العديد من رجال الدين والسياسة والفكر الذين تفرسنوا ليكونوا مدافعين مخلصين عن النهج الفارسي الصفوي والشعوبي العنصري المغلف برداء الإسلام والمعادي للعرب.
ولكن إذا سلمنا بصحة هذه الفرسنة، فأن النتيجة المنطقية لها هي أن الفرُس الأصليين في مرحلة الإنقراض. وإذا رفضنا ذلك، فأن الفرس سيكونوا عالقين في حبال الطائفية التي لابد لها أن تلتف حول أعناقهم. فالإسلام آخر قناع تتستر فيه الصفوية الجديدة، والذي أخذ بالسقوط أكثر فأكثر منذ التحالف الأمريكي الإيراني في غزو العراق عام 2003، والتصدي الدموي المستمر لثورة الشعب السوري منذ شهر آذار/مارس عام 2011، والإنقلاب الفاشل في البحرين من العام الماضي، ودور حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والخلايا في المغرب العربي. وقادم الأيام سيثبت أن المشروع الفارسي في المنطقة قريب للإنهيار، وستتعرض الفارسية إلى تقلص تاريخي جديد. وأن الربيع العربي قد يطال الشعوب داخل جغرافية إيران التي تعاني التعسف والإضطهاد والفقر والحرمان من حُكم الفُرس الإستبداي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق