زمان غير كل الأزمان..
سميرة رجب
كل العرب اليوم يؤمنون بأنهم يعيشون في زمن غير كل الأزمان، وعصر ليس له شبيه في تاريخ الشعوب، ولا في تاريخ البشرية.. فهو زمن الكذب بامتياز، وعصر قُصِمَ فيه ظهر العدالة، بعد القضاء على منظومة الفكر وثوابت النبل الأخلاقي.. نعم كل العرب مدركون لذلك، سواء من يحقق منهم الربح أو الخسارة.
فأولئك الرابحون من العرب، المدعوون بـ«الثوار»، المهرولون إلى السلطة، المنتشرون بقوة الإعلام الغربي، سواء من نجحت حركاتهم ووصلوا إلى السلطة، أو مَن مازال يصارع، أولئك يعلمون أنهم مارسوا الكذب بامتياز، وتلطخت أياديهم بدماء شعوبهم، فظلموا وكذبوا وتطرفوا وقتلوا، ولم يكونوا عادلين أو معتدلين، ولن يكونوا ديمقراطيين في السلطة، وهذا ما ستثبته السنوات القادمة.
أما العرب الخاسرون في معركة هذا الزمان فهم متيقنون بأنهم أمام كفتي ميزان، العدالة والحق مقابل الأنانية والخيانة، وعليهم أن يقرروا إما البقاء على الثوابت وإما الانجراف في وحل ومستنقع اللاأخلاق والذل والكذب.
هذا مدخلي للتعريف بخصائص الحركات الجديدة التي تنتشر آثارها المدمرة في منطقتنا اليوم والتي أطلق عليها الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، «ثورات الربيع العربي».. هذه الحركات التي جاءت متزامنة مع الانهيار والإفلاس الاقتصادي الغربي الناتج عن سياسات الإنتاج الجائر والاستهلاك الجشع والمدمر التي أطلقها هذا الغرب منذ سبعينيات القرن الماضي، في حربه الباردة ضد المد الشيوعي والاشتراكي ومطالب الشعوب في العدالة والديمقراطية في ذلك الوقت، هذا الإفلاس هو الذي ندفع ثمنه نحن شعوب المنطقة العربية، فهو الذي أخرج رأس الوحش الاستعماري الجديد لينهب موارد وثروات العالم هذه المرة بالمزايدة على معايير وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
فكما كان العرب وقود الحرب الباردة، ها قد رجعنا ندفع ثمن سياسات غربية لا ذنب لنا فيها، فمن رسم تلك السياسات ومارسها ونفذها يحاول اليوم تعويض خسائره الاقتصادية من حساباتنا وثرواتنا، بدءاً بسرقة منابع النفط العراقية التي تقاسمتها الولايات المتحدة مع بريطانيا العظمى، وصولاً إلى منابع النفط الليبية التي تقاسمتها، حتى الآن، الشركات الفرنسية («توتال»30%) والـبريطانية (بريتش بيتروليوم 20%)، ومازال المتبقي قيد التوزيع على الآخرين (إيطاليا والولايات المتحدة)، بينما ننتظر الكشف عن مصير نفط جنوب السودان بعد التقسيم.
حتى الآن، وبحسب ما تم الكشف عنه، هذه هي حصيلة «تحرير» العراق في مقابل أكثر من مليوني قتيل وأربعة ملايين عراقي متشرد خارج بلاده والتدمير الكامل للدولة العراقية، و«تحرير» ليبيا بـأكثر من 70 ألف جريح و60 ألف قتيل ليبي من جراء قصف صواريخ أصدقائنا الأطلسيين.. وبينما مشروع إعادة اعمار ما دمرته هذه الصواريخ في ليبيا بحاجة إلى أكثر من مليار دولار، نرى «الثوار» مازالوا يتقاتلون على الغنائم والمناصب، في حين أن الخزائن الغربية ترفض الإفراج عن ثروات ليبيا في انتظار تسليم «الثوار» أسلحتهم، وهو انتظار سيطول أجله.
نعم هذه هي حقيقة «ثورات» الربيع العربي، الذي يتزامن مع التغييرات الجديدة في خريطة مصادر ومنابع وخطوط إمدادات مصادر الطاقة في العالم، النفط والغاز، فالخريطة الجديدة تتطلب تغييرات سياسية جديدة.. وهذا ما اعتبره الكاتب محمد حسنين هيكل (حديث لصحيفة الأهرام في ديسمبر 2011) «ليس (ربيعاً عربياً) وإنما (سايكس بيكو جديد) لتقسيم العالم العربي وتقاسم موارده ومواقعه ضمن مشروع غربي، أوروبي-أمريكي» مؤكداً أن «سايكس بيكو القديم كان خطاً على خريطة، فكان تقسيماً جغرافياً وتوزيعا للأوطان» بينما الجديد هو «تقسيم موارد ومواقع، وبوضوح فإن ما يجري تقسيمه الآن هو أولاً النفط وفوائضه».. لذلك بقيت في العراق أكبر القواعد العسكرية الأمريكية التي ستغنيها عن عدد من قواعدها في العالم، رغم أكاذيب الانسحاب.. كما يتم توزيع المواقع في ليبيا، ما بين «الاسطول السادس الأمريكي الذي حصل على طرابلس، والمركز المخابراتي البريطاني في بنغازي وطبرق، ومازالت إيطاليا وفرنسا تبحثان عن مواقعهما هناك».. هذا ما وصفه هيكل بأنه «ليس مجرد ربيع عربي تهب نسماته على المنطقة، وإنما هو تغيير إقليمي ودولي وسياسي يتحرك بسرعة كاسحة... وهو مشروع قومي يتهاوى، وبقاياه تجري إزاحتها الآن، ومشروعات أخرى تتسابق إلى الفراغ، بعد أن أضاع ذلك المشروع مكانه وزمانه (...) وكل ذلك تمهيد لفصل في شرق أوسط يعاد الآن تخطيطه وترتيبه وتأمينه، حتى لا يفلت مرة أخرى كما حدث عندما راود العرب حلم مشروعهم القومي، وتبدى لسنوات كأن هذا المشروع القومي العربي هو شكل المستقبل»..
ومازال التغيير الكاسح مستمراً، فهناك نفط في الجزائر والخليج مطلوب للانضمام إلى المشروع.
إذن ما يجري في المنطقة هو مشروع رسمه الآخرون لمستقبلنا، من دون أن نملك مشروعاً لمواجهته..
والأسوأ في كل هذا أن الآخرين سخروا أبناءنا لتنفيذ مشروعهم، فشوهوهم وجعلوهم وحوشاً وقردة، يمارسون كل الرذائل في سبيل الحصول على الفتات، فصار الفاشلون «ثواراً»، والكذابون «مدافعين عن حقوق الإنسان»، وصرنا نعيش في زمن استعماري قبيح لا يشبه كل الأزمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق